” طيور الحُب “

ينضمّ “طيور الحب” إلى قائمة الأفلام الوثائقية التي تُعالج ظاهرة الفصل المجتمعي في الهند، انطلاقاً من موضوع شديد الغرابة يتعلق بالأزواج المُسجّلين رسمياً ومع ذلك تقف الأعراف ضد رغبتهم في العيش سوية، إلى درجة أفرزت معها منظمات مجتمع مدني عملت على حماية هؤلاء وحل مشاكلهم، ومن بينها “مغاوير الحب” التي أرادها الإيطالي غيانباولو بيجولي أن تكون نقطة ارتكاز لفيلمه, ليتمكن عبرها من لمّ خيوط الظاهرة الهندية بامتياز والشديدة الصلة بنظام الـ”كاست” الذي استهوى في السنوات الأخيرة مخرجين كثر لتناول جوانب منه لما يُمثله من انتهاك لإنسانية الهندي وتقليل من قيمته بسبب افرازات التباين الطبقي الحاد والمتلبس لبوس أخرى مزيفة.
حاول الوثائقي الإمساك بكل هذا عبر ملاحقته لعمل رئيس المنظمة التطوعية الصحافي سانداي ساديف، والذي لم يُعرفنا به الوثائقي بشكل جيد ولم يفصح هو بدوره عن الدوافع التي دفعته للعمل في المنظمة دون مقابل، مما يدفعنا بالتالي للتفكير طيلة زمن المشاهدة به وبقصته المغيبّة والتي ربما قد تكون غير بعيدة عن قصص الهاربين إليه من جور قانون أرضي يمنع على الأزواج العشاق العيش سوية. فعل تعسفي يترك أثراً قاتماً على طبيعة القوانين المُسيّرة للمجتمع في الهند والمختلفة كلياً عن تلك المدونّة في كتب القانونيين والمشرعين.
تحول بيت الصحافي، المتوسط العمر والذي يعاني من صعوبة في المشي، إلى مأوى للأزواج الهاربين. فيه يؤمنّ لهم بعض الحماية ويتابع معهم خارجه دعواتهم في المحاكم ويساعد في تقديم شكاويهم إلى دوائر الشرطة.
تحت سقفه كانت تُروى، في ساعات الليل، قصص لا تُصدّق عن الجور والتهديد الذي يتعرض له هؤلاء الأزواج رغم سوية فعلتهم من المنظور الأخلاقي والقانوني، ولهذا السبب وبوصفه “شاهداً” على الظاهرة وتفاصيلها نجح غيانباولو بيجولي في اقناع ساديف ليكون صوتهم في وثائقيه، فأمن لنفسه بذلك مُعلقّاً يعرف ماذا يقول وبفطنته ككاتب يعرف أيضاً كيف يصيغ أفكاره وعباراته، لدرجة كان يبدو فيها أحياناً متماهياً مع زواره بل ويكاد أن يصبح واحداً منهم.

بدوره راح الوثائقي يصيغ الظاهرة بصرياً عبر توسيع مساحة النظر اليها باعتبارها تعبيراً عن الفصل المجتمعي ونتاجاً لمفاهيم أخلاقية موروثة من بينها “قتل الشرف” الذي تعرض، في أحيان كثيرة، للإهمال والذوبان في تفاصيل الظاهرة وهذا ما حاول “طيور الحب” تجنبّه فانطلق مع الصحافي للتدقيق في مستوى وجوده ضمن الحالات التي تصل إلى منظمة “مغاوير الحب”.
من خلال العينات/الأزواج الهاربين إلى مأوى نيودلهي، يذهب الوثائقي لتقصّي حجم التهديد المُتعرضين له، وبالتالي، وبسبب من تنوع الحالات المسجلة على المستوى الجغرافي والديني يمكن وضع رسم بياني لجرائم “قتل الشرف”.
شهادات الأزواج لم تأخذ في “طيور الحب” شكل المقابلات الصحفية بل وثقت عبر الحوارات الطويلة الدائرة بينهم وبين راعي المنظمة وأيضاً من خلال زيارة بعض أعضائها لمناطق مختلفة من البلاد بحثاً عن حقائق تتعلق بكل حالة تصلهم أو شهادة تُقدم داخل منزلهم الفقير.
قبل تسجيل الحالات والتعليق عليها يتوصل الوثائقي بطبيعته الاستقصائية إلى وجود نوع من التعاون أو التعاطف بين أجهزة الشرطة وبين أهالي الأزواج الرافضين التخلّي عن قيم “الكاست” القديمة ما يعبر عن تضامن فعلي بين المؤسسة القانونية وبين العُرف الساري المفعول على كل التناقض بينهما، ونتيجة لذلك اعتمدت المنظمة المدنية تكتيكاً يحرص على تأمين طرف الشرطة في كل قضية تتبناها لتكسر قوة انحيازها الى الطرف المُعتدي وفي الغالب هم من المتمكّنيين اقتصادياً والذين يشعرون بالتفوق الطبقي ويتملكّهم احساس فظيع بالعار من ارتباط أحد أبنائهم بفقير من الطبقات “المنبوذة”. على المستوى الديني والمذهبي ثمّة مشتركات كبيرة بينها حين يتعلق الأمر بالظاهرة المتوارثة وعليه يمكن القول أن قوة الموروث الإجتماعي تغلب في حالة الدفاع عن “الشرف”،البناء “الديمقراطي”، ما يضع الهند موضع مجتمعات لم تصِل إلى نفس مستوى تطورها الإجتماعي الإقتصادي والسياسي ويستوجب معه النظر أيضاً في التجربة الهندية بعين مُجردّة وعقل خالٍ من تأثيرات الأفكار المُسبقة وهذا ما فعله الوثائقي حين راح يُسجّل الوقائع لا الادعاءات.

سجل المؤسسات الرسمية يكشف عن جرائم قتل تحدث في عموم الهند وفي الأرياف بشكل خاص بدوافع “الشرف” لكنها لا تُسجّل تحت هذا المسمى بل كثيراً ما يلعب الفساد والنفوذ السياسي والاقتصادي القوي في طيها بين مسميات مُخففّة تُبعد طابع الجريمة المتعمدّة عنها وشهادات الهاربين تُرسّخ هذا الاستنتاج لأن أغلبيتهم قد تعرضوا للتهديد بالقتل ولا فرق في هذة الحالة بين الرجل والمرأة فالقتل يشمل الزوجين بوصفهما عاراً وخروجاً عن القيم الإجتماعية، والتواطؤ الحاصل بين المتنفذين أو الأطراف القوية ورجال الشرطة والمؤسسة القانونية ضد الضعفاء من أبناء الطبقات المسحوقة يجد تعبيراته في الأساليب المُتبعّة للضغط على أحد الأطراف المُحبة كأن تتقدم العائلة ببلاغ كاذب تدعي فيه اختطاف احدى بناتهم أو هروب أحد الأولاد من البيت دون بلوغه السن القانوني، ما يضع المغضوب عليهم تحت طائلة الملاحقة القانوية ومن هنا سنفهم لماذا كان منزل “مغاوير الحب” ينظم حفلات زفاف متكررة، العروسان فيها سبق لهما وأن تزوجا.
لقطع كل مبرر قانوني يقوم الزوجان الهاربان بالزواج “المدني” ثانية ثم يُقدّمان أوراقهما للشرطة ومع هذا فقوة الضغط الإجتماعي أقوى من القانون نفسه كما تجلّى في ملاحقة حالات قتل الشرف في أطراف مدينة أغرا، ما يزيد من شعور الأزواج الهاربين منها بالخوف والتهديد المستمر الذي يدفعهم للانتقال إلى مناطق أخرى ما يسقط بدوره أحمالاً على أكتافهم من بينها: البطالة وضيق اليد التي تجبر كثر منهم للخضوع لقانون الفصل الطبقي تاركين وراءهم قصص حب ناقصة وحزينة.
لا يُلَّون الوثائقي سجله باللون الغامق فحسب بل يُقدّم نماذج نجح فيها حُماة الحب من تحقيق نصر محدود لكن أغلب الحالات تظل معلقة أو غير قابلة للحل بسبب قوة الضغط الإجتماعي الذي خصص له الإيطالي غيانباولو فصلاً كاملاً أظهر من خلاله تأثير الوسط الذي يدفع الأهل الأقل تشدداً لتبني مواقف حادة خوفاً من الملامة والتوصيفات المخزية ضدهم.
سيكتشف الوثائقي في خضم بحثه الدؤوب أن الخوف الاجتماعي له أكبر الأثر في فعل “قتل الشرف” وربما يكون الدافع الأقوى لأرتكابه عند كثيرين لا يرغبون به في دواخلهم. كما أن الطمع والحافز المالي لا يمكن اهماله ففي حالات كثيرة ظهر أن عوائل هندية قد باعت بناتها أكثر من مرة لأغنياء بحجة منعهن من الوقوع في “العار”.
ما سيحلله المنجر الوثائقي المتماسك والمقنع لقانون “الكاست” المخزي ومتفرعاته من قتل الشرف الى غسل العار والبراءة من الأبناء يصلح أن يكون وثيقة إدانة لسلوك غير سوي مختل، ضحاياه من البشر، والجناة خاضعون لقوانين الماضي ومتشبثون بها.
في المقابل هناك من يقف ضدها ويُكرّس حياته من أجل الدفاع عن ضحاياها وربما يكون رئيس منظمة “مغاوير الحب” قد اكتوى يوماً بنارها، لأن كل ما قاله أثناء تسجيل الفيلم يوحي أنه قد تعذّب كثيراً وعرف مرارة ما يحس به زوج لا يستطيع العيش مع زوجته التي يحبها لأنه فقط فقير أو من طبقة “معدمة”.
أسراره الشخصية ظلّت معه أما عمله التطوعي فكشف أسراراً حاول نظام اجتماعي هرمي شديد التماسك طمسها بكل الوسائل لكن رغبته الحقيقية في قول الحقيقة أثمرت مع صانع وثائقي إيطالي ألمعي فيلماً عن طيور، آدمية، هائمة في فضاء واسع ليس لها مستقر.