العثور على “ميرسي”

البحث عن الماضي

من بحثها عن صديقة طفولتها جرّتنا الزيمبابوية البيضاء روبن باترسون إلى السياسة وخلال رحلتها الطويلة من نيوزيلندا إلى أفريقيا حكت عن ثلاثين سنة من تاريخ بلادها، بأسلوب وثائقي “مراوغ” يعرف كيف يقرأ التاريخ العام من خلال قصص شديدة الشخصانية، البحث في تفاصيلها يوصل إلى عمق السياسة وتجلياتها في متن وثائقيها الطويل الأول “العثور على ميرسي”: الرئيس روبرت موغابي وما فعله بالعباد والبلاد في ثلاثة عقود من الحُكم تسبّب خلالها في تشريد أكثر من أربعة ملايين إنسان إلى الخارج وشهدت البلاد في ظل حكمه، تراجعاً شاملاً، وحروباً أهلية وامتلأت سجونها بمعارضيه.

 تاريخ توثّق خلال رحلة شائكة قطعتها المخرجة بحثاً عن صديقة طفولتها السمراء “ميرسي”، هكذا سمّتها خوفاً من كشف اسمها الحقيقي وما قد يترتب عليه من مخاطر على حياتها التي لا تعرف عنها شيئاً منذ أن غادرت البلاد لكن ما تسمعه عن أحوالها يجعلها حذرة ولا تثق كثيراً بالنظام وبرئيسه الذي عاد العام الفائت مرة أخرى إلى سدّة الحكم في انتخابات شكلية تعلّم كيف يدير خيوطها، بالترهيب والقوة، ليصل إلى ما يريد: “السلطة المطلقة!”.
 بهذا الإنطباع السوداوي الذي سجّلته المخرجة في مقدمة فيلمها بدأت رحلتها إلى زيمبابوي وأحاطتها بتكتُّم شديد وبترتيبات مدروسة تحسباً للأسوأ، من بينها إخفاء كاميرتها عن الأنظار والتصوير سراً وهكذا سيكون شريطها كله تقريباً مصوراً بكاميرا اضطرت عدستها، وفي أوقات كثيرة، لمدّ عنقها من مكان اختفائها لتلتقط سريعاً ما يمكنها التقاطه وتعود على الفور.

صداقة الطفولة

تمزج المخرجة تعليقاتها الصوتية مع المشاهد المصورة سابقاً بكاميرات فيديو شخصية، نقاوة صورتها ضعيفة ومع ذلك تفي بالغرض حين يتكاملان: التعليق والمشهد القديم. كما لاحظنا في تفسيرها لبروز فكرة البحث عن صديقتها، التي نبعت من خلال مشاهدتها للتسجيلات الشخصية القديمة والتي ذكّرتها بأيام دراستها الابتدائية والساعات الأخيرة قبل مغادرتها البلد الذي وُلدت فيه إلى نيوزيلندا مع أهلها. لقد أحبّت صديقتها ميرسي كثيراً ووجدت محاولة الاتصال بها نوعاً من إعادة الصلة بالماضي البعيد، والمُتكرر الحضور عبر التسجيلات القديمة وفي تلافيف الذاكرة المُعقدّة. أرادت معرفة مصيرها في بلد تمزّق بالنسبة إليها لحظة انفصالها عنه. لم تحسب حساب ذلك اليوم، فبعد انتهاء نظام الفصل العنصري تأمل الجميع خيراً بالقائد الجديد: موغابي، الذي استطاع تخليص البلاد من أرث الأبارتيد البغيض.
لقد نظرت إليه وهي الفتاة الشقراء كبطل قومي واستقبلته في مدرستها مثل بقية الطلاب (سود وبيض) استقبال مشاهير الممثلين، ولكنه سرعان استدار نحو جهة الشر فدفع، بسبب حبه للسلطة والانفراد بها لوحده، البلاد إلى جحيم ثانٍ، حين راح يُصفّي معارضيه، رفاق الأمس، بوحشية من نوع جديد لم تشهدها البلاد من قبل لأنها هذة المرة بين السود أنفسهم.

تفاصيل تاريخه السياسي ستسرده المخرجة التي كانت تُقدّم نفسها للناس في بلدها بـ”النيوزيلندية” خوفاً على حياتها وحياة العاملين معها في فيلم خطورة العمل فيه ليست قليلة، تفاصيل عبورها قرى ومدناً حكت بنفسها للكاميرا عن المجازر التي شهدتها وهجرة أهاليها منها. عن الخراب والتراجع. تسجيل حيّ وثّق أحوال الناس والتحول المريع في بلد واعد وغني انتقل من زراعي منتج للغذاء إلى مستورد لأغلب ما يحتاجه (نسبة المواد الغذائية المستوردة للبلاد تزيد عن 80% وتراجع النمو الإجمالي والهجرة إلى دول الجوار أصبحت ظاهرة مُلفتة ومدعاة للتندّر على نظام يدّعي طيلة الوقت الرفاه والأمان!).

أحوال الناس سيئة

 لقد تحصّنت باترسون بالحسّ الاحترازي الذي جنّبها الخطأ أثناء تحقيقات الشرطة معها ومع فريق عملها كما كان استماعها الجيد لملاحظات بعض المعارضين للنظام أثناء مقابلتهم في جنوب أفريقيا، التي وصلتها جواً لتدخل إلى بلادها براً، عاملاً مساعداً في انقاذ أجهزة تصويرها من المصادرة ما ساعدها على المُضي في مشروع بحثها الذي مرّ بمنعطفات كثيرة وبنكسات في أحيان ليست قليلة بسبب طبيعة الدولة البوليسية التي تمنع الناس من قول ما تعرف ومن انعدام الثقة السائد بين الجميع، ومع كل ذلك كان للمعارضة دوراً غير مباشر في تحقيق نوع من التواصل بينها وبين الناس الذين كانوا يوماً جزءًا منها.

في صحبة أبناء الوطن

يمس الوثائقي المبهر “العثور على ميرسي” جوانب عاطفية عند مُتلقّيه لأنه يُصوّر حالة انتزاع الكائن من المكان الذي ولد فيه وكيف يُصبح هاجس إيجاد من كنت تعرفهم هدفاً يسعى إليه المرء مصحوباً بمخاطر ولهذا فعملها يُعدّ شاهداً وطرفاً في نفس الوقت ليس لأن دور البطولة فيه أسند لمخرجته بل لأنه تشارك معها مغامرة البحث، خارج وظيفته المهنية، وبالتالي فمنجز باترسون يقدم المثال الناجح لجمع الشخصي والسياسي في شريط واحد يقبل الدخول في مغامرة التكوين الدرامي بكل مخاطرها، ويقبل الانتقال من بلد إلى آخر ومن حالة إلى أخرى دون إشعار مُتلقّيه بوجود  قصدية فيه وهذا ما يتجلّى في رحلة العودة إلى جنوب أفريقيا لاستكمال بحثها عن “ميرسي” بعد فشلها في العثور عليها في بلدها.
هناك في البلد المُتخلّص قريباً من سياسة الفصل العنصري، يأوي الملايين من أبناء زيمبابوي، في ظروف صعبة، سجلّتها كامرتها هذه المرة بحرية أكبر وكانت المقابلات التي أجرتها مع العديد منهم أثناء سؤالها عن صديقتها بمثابة دليل مُكمّل على ما سجّلته في وطنها الأول وما كانت تحمله مسبقاً من انطباع داخلها.
لقد ترسخت فوق أشرطتها السرية والعلنية حقيقة تفيد أن ديكتاتورياً واحداً استطاع تدمير بلاد بأكملها ومزّق مجتمع وهجّر الملايين.
على المستوى الشخصي كانت هناك مفاجأة: لقد توصلت ومن خلال الأطراف التي أشركتها معها في البحث إلى أن ميرسي لا زالت على قيد الحياة وتقيم في أستراليا. لم تنتظر طويلاً، سافرت إلى هناك.
كان لقاءً مؤثراً، لخّص رحلة طويلة انتهت على المستوى الشخصي بالنجاح وعلى المستوى العام بعرض أحوال بلد أفريقي ابتلي بالدكتاتورية مِثْل الكثير من دول القارة المظلومة.


إعلان