مهرجان البندقية السينمائي الدولي
عدنان حسين أحمد
انطلقت في السابع والعشرين من الشهر الجاري فعاليات الدورة الحادية والسبعين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وتستمتر لغاية السادس من سبتمبر 2014. وسوف يُعرض خلال أيام المهرجان 55 فيلماً روائياً ووثائقياً وقصيراً تمثل 39 بلداً. وعلى الرغم من أهمية المسابقات والمحاور الأخرى للمهرجان إلاّ أن هذا المقال سيكون مقتصرا على المسابقة الرسمية لهذا العام والتي يتنافس فيها 20 فيلماً روائياً ووثائقياً طويلاً تمثل عدداً من بلدان العالم وهي أميركا، روسيا، فرنسا، إيطاليا، السويد، تركيا، إيران، المكسيك، نيوزلندا، الصين واليابان. وقد تلقت لجنة فحص الأفلام 3.377 فيلماً بينها 1.600 فيلم روائي ووثائقي و 1.777 فيلماً قصيراً، وهو عدد كبير تتلقاه غالباً المهرجانات العريقة مثل مهرجان “كان” و “روما” و “روتردام” و “كارلو فيفاري” وسواها من المهرجانات العالمية المعروفة.
![]() |
كما أن غزارة الإنتاج النوعي قد شملت إيطاليا هذه السنة حيث تقدّم المخرجون السينمائيون الإيطاليون بـ 177 فيلماً وهو عدد كبير أيضاً يكشف عن ازدهار الإنتاج السينمائي في إيطاليا، وربما يعزو البعض غزارة إنتاج هذه الأفلام إلى شيوع التقنية الرقمية التي لا تثقل كاهل المخرجين بميزانيات ضخمة كما هو الحال قبل عقدين من الزمان.
ثيمات جريئة
قبل أن نسلّط الضوء على بعض الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية لابد من الإشارة إلى الحضور الدائم الذي تسجّله تركيا وإيران على حدٍ سواء في المهرجانات العالمية، بل يندر أن تجد مهرجاناً عالمياً يخلو من أفلام تركية أو إيرانية سواء للمخرجين الراسخة أسماءهم في أذهان محبّي الفن السابع أم لصنّاع الأفلام الجُدد الذين يضعون خطواتهم الأولى على سكّة الفن السابع مثل المخرج التركي “كان موژدجي” الذي اشترك بفيلم (Sivas).
وفي السياق ذاته فقد اشتركت تركيا هذا العام بفيلم “الجُرح” لفاتح آكين المولود في عام 1973 بمدينة هامبورغ الألمانية. ثمة موضوعات تتكرر في أفلامه الروائية مثل تصادم الثقافات والقيم الأخلاقية بين الشرق والغرب، أو موضوعات الألمان من أصول تركية وما إلى ذلك، ولعلي أشير هنا إلى فيلم “وجهاً لوجه” و “حافة الجنة” و “أحبك يا نيويورك”. ومن بين آرائه الأخرى المثيرة للجدل هي اعتقاده أن الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش الابن كانت فاشية، كما سعى غير مرة لأن يتفِّه فكرة الهولوكوست التي أثارت جدلاً واسعاً في عموم المدن الألمانية. فلاغرابة أن يتقدّم آكين هذه المرة بفيلم آخر مثير للجدل، يستفز الحكومة التركية، ويقض مضاجع بعض الأتراك الشوفينيين المتطرفين.
الإبادة الجماعية
![]() |
المخرج التركي فاتح أكين
|
يتمحور فيلم “الجُرح” على فكرة الإبادة الجماعية للأرمن التي طالما رفضتها الحكومات التركية المتعاقبة ولا تزال تُنكرها حتى يومنا هذا. لقد تتبع آكين شخصية نزاريث مانوجيان، الشاب الذي يُرحّل من قريته الأصلية ماردين. وبعد الترحيل يعلم أن بناته يمكن أن يكنَّ على قيد الحياة لذلك يقوم بالسفر إلى أجزاء متعددة من العالم بحثاً عن فلذات كبده! لا شك في أن هذه الثيمة إنسانية جداً وأنها سوف تلامس قلوب المشاهدين وتدغدغ مشاعرهم الإنسانية العميقة. وربما ينتزع هذا الفيلم إحدى الجوائز الكبرى في المهرجان وذلك لحساسية الفكرة الرئيسة التي انتقاها آكين بعناية فائقة.
تتضح معالم الدقة على كل فيلم تم اختيارة في هذه المسابقة تحديداً أو سواها من المسابقات والمحاور الأخرى للمهرجان. ففيلم “حمامة تقف على غصن وتفكر بالوجود” للمخرج السويدي روي أندرسون يدفعنا إلى التأمل في الأدب والفن خاصة والحياة بصورة عامة. ولو دققنا في تفاصيلة لوجدنا أن فكرة الفيلم المهيمنة فيه مستوحاة من لوحة للفنان التشكيلي الهولندي المعروف بيتر برويغل الأكبر التي تنضوي تحت عنوان “الصيادون في الثلج” أو “عودة الصيادين” في تسمية أخرى حيث يتألق الفنان في رسم مشهدٍ شتوي مغطى بالثلوج بينما نرى ثلاثة صيادين يعودون من رحلتهم منهكين، ترافقهم كلابهم المطأطئة رؤوسها. فالرحلة لم تكن موفقة، ويمكن استخلاص هذه النتيجة من إحساس الصيادين بالخيبة، وشعور الكلاب بالتعاسة!
في فيلم أندرسون نرى عدداً من الحمائم المنهمكة في المراقبة والتأمل، لكن السؤال المنطقي الذي يمكن أن يثيره المتلقي هنا مفاده: تُراقب مَنْ هذه الطيور من عليائها، وبماذا تفكر حقاً؟ يتخيل أندرسون أن الطيور تراقب الناس الذين تحتها، وتتساءل في سرِّها: ماذا يفعل هؤلاء البشر طوال النهارات الأبدية؟ وإذا لم تسعفه الإجابة فإنه يعيد صياغة السؤال بطريقة مباشرة موجهاً إياها إلى الضمير الجمعي بصيغة استفهامية صريحة: “ماذا نفعل نحن حقاً في هذا الوجود؟”.
نُذكِّر فقط بأن روي أندرسون قد أنجز أربعة أفلام روائية طوال ثلاثة عقود، وفيلمين قصيرين، إضافة إلى 400 فيلمٍ إعلاني. ومن أبرز أفلامه الروائية “قصة حُب سويدية” و “أغانٍ من الطابق الثاني”. ويتميز أسلوبه باللقطات الطويلة، والمَشاهِد الكوميدية العبثية التي لا تخلو من تهكم وسخرية واضحتين.
سيدة السينما الإيرانية
![]() |
رخشان بني اعتماد
|
على الرغم من إتكاء المخرجة الإيرانية رخشان بني اعتماد على البنية السردية في فيلمها الجديد “حكايات” الذي سوف يتنافس على جوائز هذه المسابقة إلاّ أن أفلامها في الأعم الأغلب تعتمد على اللغة البصرية أكثر من اعتمادها على اللغة السردية. يروي فيلم “قصة” بعنوانه المحلي، و “حكايات” بالعنوان الأجنبي المترجم ربما، قصة عالم الرجال، وحيوات النساء الذين يتوجب عليهم دائماً أن يكافحوا من أجل نيل حقوقهم كالسينمائيين والعمّال والمثقفين وموظفي الدولة وما إلى ذلك، غير أنها تتساءل كما زمليها السويدي أندرسن مستفهمة: “هل أن ضوء الحُب والأمل سوف ينير لهم حياتهم؟”. جدير ذكره أن رخشان أو سيدة السينما الإيرانية قد أنجزت عدداً كبيراً من الأفلام المهمة نذكر منها “الكناري الأصفر”، “العملة الأجنبية” و “تحت جلد المدينة”.
تحضى الأفلام الكوميدية الساخرة بحضور قوي في غالبية المهرجانات العالمية وربما يكون أحد أسباب هذا التركيز على الهزل والكوميديا حتى وإن كانت سوداء للتخفيف من ضغوط الحروب المتلاحقة، والانهيارات الاقتصادية، وصعوبات الحياة التي تتفاقم يوماً إثر يوم. لقد اشتركت فرنسا بأربعة أفلام في هذه المسابقة من بينها فيلم “ثمن الشهرة” للمخرج إكزافير بوفوا، وهو فيلم كوميدي تجري وقائعه في (فيفي)، وهي مدينة صغيرة تقع على ساحل بحيرة جنيف في أواخر السبعينات. وحينما يخرج إيدي ريكارت من السجن للتو يرحب به صديقه عثمان بريغا، ويعقد معه صفقة. فمقابل استضافته في المنزل يتوجب على إيدي أن يعتني بسميرة، ابنة عثمان، ذات السبعة أعوام، لأن زوجته نور راقدة في المستشفى تتلقي العلاج الطبي. كان إيدي بحاجة ماسة إلى النقود، وفي عشية عيد الميلاد كان التلفزيون يعلن عن وفاة الممثل الكوميدي تشارلي شابلن فخطرت على باله فكرة خطف التابوت وطلب فدية من العائلة. “ثمن الشهرة” هو الفيلم السادس عشر في رصيد بوفوا، صاحب الأفلام الشهيرة “لا تنسى أنك سوف تموت” و “آلهة ورجال” و “الحِرباء”.
![]() |
أليكس ديلابورت
|
يتمحور فيلم “ضربة المطرقة الأخيرة” للفرنسية أليكس ديلابورت على شخصية فكتور الذي يدفع باب أوبرا مونبيله ولم يكن وقتها يعرف شيئاً عن الموسيقى. ولم يكن يعرف أباه صموئيل روينيسكي. وحينما يطل ماهلر السادس سيغيّر مسار مستقبله الذي أصبح فجأة غير مؤكد بالنسبة لأمه نادية. قرر فكتور أن يكشف عن مشاعرة تجاه لونا التي أحبّها، وسوف يذهب في هذه المغامرة إلى أقصاها. من بين أبرز أفلام أليكس الروائية “أنجيلا وتوني” ووثائقيها المعروف “زين الدين زيدان”.
يعتمد فيلم “ثلاثة قلوب” للفرنسي بينوا جاكو على مفارقة فنية بناها المخرج مع الكاتب جولياف بوا? بدراية تامة لتمتين البنية العميقة للفيلم. يلتقي مارك في قرية ريفية بسلفي حين يفوته القطار العائد إلى باريس، ويتجولان في شوارع المدينة حتى ينبلج الصباح، ويتحدثان خلال هذه الليلة عن كل شيئ ما عدا نفسيهما في اتفاق عجيب. حين يأخذ مارك القطار الأول يضرب موعداً لسلفي بعد أيام في باريس. لا يعرف الاثنان أي شيئ عن بعضهما. تذهب سيلفي إلى موعدها فلا تجد مارك، لسوء الحظ، لقد كان يبحث هو الآخر لكنه وجد امرأة أخرى تُدعى صوفي، ومن دون أن يعلم ستكون هذه الأخيرة هي شقيقة سيلفي. أما الفيلم الفرنسي الرابع والأخير فهو “بعيداً عن الرجال” لديفيد أولوفين الذي يستعيد الحرب الجزائرية من خلال شخصية مدرِّس اللغة الفرنسية الذي يتوجب عليه أن يرافق قروياً جزائرياً متهماً بجريمة قتل.
تطهير فكري
من بين الأفلام الأميركية المشاركة في هذه المسابقة هو فيلم “شكل الصمت” للمخرج الأميركي جوشوا أوبنهايمر المقيم في كونبهاغن. يركز هذا الفيلم الوثائقي على عمليات قتل الأندونيسيين عامي 1965-1966 حيث شُنت حملة تطهير مناهضة للشيوعية في أعقاب الانقلاب الفاشل لحركة 30 سبتمبر في أندونيسيا. وتشير التقديرات الأكبر قبولاً إلى أن أكثر من نصف مليون شخص لقوا مصرعهم. وكان التطهير حدثاً محورياً في التحوّل إلى النظام الجديد حيث تمّ القضاء على الحزب الشيوعي الأندونيسي كقوة سياسية وأدت الاضطرابات إلى سقوط الرئيس سوكارنو وبدء رئاسة سوهارتو لثلاثين عاماً قادمة. ومن بين أفلام أوبنهايمر “أشرطة العولمة”، “بوسكارت من مدينة الشمس” و “فعل القتل” الذي لا يختلف كثيراً في مضمونه عن “شكل الصمت”.
![]() |
المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس أناريتو
|
لا يمكننا، بطبيعة الحال، التوقف عند أفلام المسابقة كلها، لذلك سنختتم هذا الباب بفيلم “الرجل الطائر” للمكسيكي أليخاندرو غونزالس إنياريتو، وهو للمناسبة فيلم الافتتاح. يروي الفيلم قصة ممثل “كيتون” مشهور بصناعة شخصيات أيقونية خارقة. يكافح هذا الممثل كي يقدِّم مسرحية “برادوي”. وفي الأيام التي تسبق ليلة الافتتاح يصارع هذا الممثل أناه ويحاول مرات متعددة كي يستعيد أسرته ومهنته ونفسه. الفيلم مقتبس عن مجموعة قصصية تحمل عنوان “ما الذي نقوله حينما نتحدث عن الحب” للكاتب الأميركي رايموند كارفر.
البلد المضيّف له حصة جيدة من هذه المسابقة فقد اشتركت إيطاليا بثلاثة أفلام وهي: “قلوب جائعة” لسافيرو كوستانزو، “الشباب الرائع” لماريو مارتوني، و “الأرواح المظلمة” لفرانشيسكو مونزي. أما أميركا التي سجلت مشاركة واسعة في محاور المهرجان الرئيسة فقد اشتركت هنا بفيلم Manglehorn لديفيد غوردن غرين، إضافة لفيلم “99 منزلاً” لرامين بحراني، الأميركي المتحدِّر من أبوين إيرانيين. و “قتل جيد” للنيوزلندي أندرو نيكول، و “الليالي البيضاء لساعي البريد” للروسي أندريه كينجيولوفسكي، و “حرائق السهل” للياباني شينيا سوكاموتو، و “البلاهة الحمراء” للصيني وانغ شاو شواي.