“موت السينما” لن يقع!
أمير العمري
الآن وقد اقتربنا من منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بات من المؤكد أن كل المراهنات السابقة على “موت السينما” أو “موت الفيلم السينمائي”، وظهور فن آخر يستحوذ على اهتمامات الجمهور مع ما يشهده العالم منذ بداية الألفية الثالثة، من طفرة تكنولوجية إنعكست بشكل كبير على “تكنولوجيا الصورة” بوجه خاص، لم تكن سوى ضربا من ضروب الخيال.
لقد راهن الكثيرون على أن العالم سيشهد مع نهاية القرن العشرين الذي أطلق عليه “قرن السينما”، نهاية السينما كفن راسخ، وظهور أشكال تعبير جديدة ترتبط بالتقدم الهائل الذي أصبحت توفره التكنولوجيا الرقمية تحديدا وتكنولوجيا شبكة الاتصالات الحديثة (الانترنت). ولكن كما أن الرواية لم تنته مع نهاية القرن التاسع عشر (الذي اعتبر قرن الازدهار الروائي بامتياز)، لم ينتهي الفيلم السينمائي بل استمر وتطور واتخذ أشكالا جديدة في التعبير.

يرتبط الفيلم الروائي في خيال وذاكرة الجمهور بالرواية، التي تصبح على الشاشة مجسدة بما يفوق كل تصور، مهما بلغت من خيال أو كانت مغالية في عرض كل ما هو متخيل. صحيح أن الفيلم الروائي الأمريكي الطويل يظل الأكثر تأثيرا على جمهور السينما في العالم من غيره من الأفلام، وذلك بفضل الأنماط التي نجح في ابتكارها والترويج لها وتكرارها من فيلم إلى آخر، حتى كاد الفيلم أن يصبح أحيانا، بديلا عن الواقع نفسه. إلا أن الفيلم الأمريكي شهد الكثير من التطور في أشكاله وأساليب مخرجيه فاختلف كثيرا عما كان عليه خلال ما يعرف بـ “العصر الذهبي” في الثلاثينيات والأربعينيات الماضية.
لقد ظهر عدد من الأجيال السينمائية في الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، أعلنت تمردها على الأشكال “الكلاسيكية” و”الرومانسية” والقصص المبهرة التاريخية والأفلام الاستعراضية الراقصة، واتجهت إلى صنع أفلام تتخلص تماما من الترويج للحلم الأمريكي، بل على العكس، تناقش الاهتزازات المتعاقبة التي تعرض لها المجتمع الأمريكي منذ فيتنام، مرورا بالحادي عشر من سبتمبر 2010 ثم افغانستان والعراق وغيره. ولم يقتصر الامر على أفلام الواقع السياسي الخشن المضطرب الذي يعبر عن سقوط قناعات قديمة مرتبطة بـ”الحلم الأمريكي” بل شاهدنا أيضا الكثير من الأفلام التي تحلق في فضاءات الفيلم الفني المتخلص من “الحبكة” التقليدية كما في أفلام المخرج ديفيد لينش أو جيم جارموش أو تيرنس ماليك (كأمثلة فقط) على قدرة الفيلم الامريكي على تطوير نفسه دائما، بل وتبني ما يعرف بـ “فيلم المؤلف” على النمط الفرنسي- الأوروبي الذي يعلي من شأن المخرج صاحب الرؤية الخاصة التي يعبر عنها من فيلم إلى آخر، وترتبط أساسا، بفلسفة خاصة في النظر الى العالم من خلال الصورة.ولعل هوليوود لم تعرف في تاريخها كله عهدا كالذي تعيشه منذ جيل سكورسيزي وكوبولا ودي بالما واوليفر ستون وسبيلبرج، عهد يعلي من شأن المخرج وعمل المخرج وحريته في العمل وفي الاختيارأي حقه في طبع بصمته الخاصة على الفيلم، وهو ما لم تتمتع به، على سبيل المثال، عبقرية سينمائية فريدة مثل أوروسون ويلز!
لكن المؤكد ايضا أن الفيلم الروائي شهد أيضا الكثير من التحديات خلال الستين عاما الماضية، من ظهور وانتشار التليفزيون، ثم ألعاب الكومبيوتر ثم عالم الانترنت وما يوفره من أعاجيب وطرق جديدة للتواصل والاتصال بل ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت من امكانية تصوير وتوليف وعرض الأفلام القصيرة التي لا تحتاج الى محترفين. غير أن الفيلم الروائي انتصر على كل تلك التحديات، بل وأصبح يستخدم مثلا، الانتشار الكبير للقنوات الفضائية التي تستهلك الكثير من الأفلام سنويا، لصالحه، فظهرت منظومة انتاجية جديدة تعتمد على تمويل قنوات التليفزيون للفيلم السينمائي. وأصبح التليفزيون، بالتالي يعمل لرئة احتياطية يتنفس من خلالها الفيلم الروائي.

لم يؤدي انتشار الفيلم الروائي وازدهاره وابتكار أشكال جديدة في التعبير من خلاله، إلى اضمحلال الاهتمام بالفيلم الوثائقي أو التجريبي أو أفلام التحريك، بل ازدهرت الى جواره هذه الأشكال من التعبير السينمائي، وتمكنت أيضا من اختراق التليفزيون على نطاق واسع، وجعل ما حققته من نجاح شركات كبيرة مثل “ديزني” تعود الى استثمار ميزانيات ضخمة في انتاج أفلام التحريك الحديثة مثلا، كما مولت قنوات التليفزيون وشركات الانتاج السينمائي عشرات الأفلام الوثائقية التي لم يكن ممكنا تخيل عثورها على التمويل في الماضي، كونها تمثل بحق “مغامرة” إنتاجية كبرى. وأمامنا أبرز مثال على ذلك الأفلام الوثائقية التي يخرجها إيرول موريس على سبيل المثال (الخط الأزرق الرفيع، السيد موت، ضباب الحرب، المجهول المعلوم..إلخ).
المشكلة الحقيقية التي نتجت عن كل ما سبقت الإشارة إليه من مؤثرات جديدة (الفضائيات النتخصصة في عرض الأفلام، الفيديو، الاسطوانات المدمجة – دي في دي- البلو راي، الانترنت..إلخ) لا تتمثل في تقلص انتاج الفيلم الروائي بل في التقليل من أهمية دار السينما التي كانت المكان المفضل الأساسي لعرض الأفلام. فما حدث أن هذه الدور الكبيرة التي تشبه المسارح، أصبحت تخسر بسبب تضاؤل الاقبال على العروض- طالما أنك يمكنك أن تشاهدها عبر وسائل أخرى، أرخص وربما تجنبك أيضا الخروج والمعاناة في زحام الطرق وغير ذلك، وقد أدت خسارة جور السينما إلى بيع الكثير منها، وتحويل عدد آخر الى قاعات متعددة تعرض أفلاما متنوعة، بغرض التقليل من الخسائر التي يمكن أن تنتج عن عرض فيلم واحد فقط. ولاشك أن التحول من دار العرض ذات التقاليد الرفيعة إلى “غرف” عرض الأفلام، ترك تأثيرا سلبيا بصورة أكبر على جمهور السينما رغم أنه أفاد فقط، اصحاب قاعات السينما، فقد جعل الفرق ضئيلا بين مشاهدة الفيلم في المنزل (مع انتشار ما يعرف بـ “السينما المنزلية”) وبين مشاهدة الأفلام في قاعة السينما.