في دهاليز العالم السريّ للشبكة العنكبوتية

محمد موسى

 

منذ الزلزال الذي أحدثه الأمريكي ادوارد اسنودن العام الماضي، والذي كشف عن تجسس حكومته على ملايين الأمريكيين وغيرهم عبر شبكة الإنترنيت ولسنوات طويلة، وهناك إهتمام تسجيلي غربي كبير بالموضوعة، فبعد أن قدمت قناة “PBS” الأمريكية قبل شهرين تقريباً فيلماً طويلاً عن سِجل الحكومة الأمريكية مع الخصوصية على الإنترنيت حمل عنوان” الولايات المتحدة للأسرار”، تصدى البرنامج العلمي الشهير “هرايزن”، والذي يقدم على شاشة القناة الثانية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، للقضية الحساسية، فقدمها مؤخراً في فيلم تسجيلي حمل عنوان “داخل ظلام الشبكة”، غاص هو الآخر في ظلمات الإنترنيت، كاشفاً بعضاً من المعارك الشرسة التي تجري في عتمتها للظفر ببياناتنا الشخصية، ولأغراض مُختلفة، أهونها لبيعنا بضائع جديدة، وغالباً للتجسس على ما نقول ونفعل على الشبكة العنكبوتية.

يُحذر الفيلم البريطاني من إن الخروقات للحقوق المدنية والتي كشفها ادوارد اسنودن، ربما لازالت مستمرة في الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من دول العالم وعلى نطاق واسع. فشبكة الإنترنيت والتي يستعملها مليارات من البشر يومياً، تستند على نظام غير مُحصن أمنياً او تكنولوجياً، فيظهر الفيلم مثلاً، الكيبل الضوئي الذي ينقل الإنترنيت الى بريطانيا مكشوفاً في العراء وبدون حماية، وكيف يمكن وبمعدات بسيطة إختراقه، والتجسس على ملايين البيانات السريّة والحساسة التي ينقلها الإنترنيت كل ثانية، هذا الأمر لا يجعل الإنترنيت ساحة مفتوحة لإجهزة أمنية حكومية غربية فقط، بل هناك العديد من منظمات الجريمة المُنظمة، التي تمارس الفعل ذاته الذي قامت به أجهزة التجسس الحكومية، لكن من أجل منافعها الخاصة، والتي تتركز غالباً في سرقة بيانات مصرفية وإستخدامها في عملياتها الغير شرعية.

كما يصرف الفيلم الكثير من وقته في التحقيق فيما تقوم به شركات إنترنيت كبرى ومواقع ألكترونية شهيرة من عمليات تسير على الحافة الرفيعة بين الجريمة وما يسمح به القانون، لتجميع معلومات عن مستخدميها، لإستخدامها لاحقاً في دراسة سُلوك المستخدم، ومن ثم إعداد خطط تجارية لإغراقه بإعلانات تجارية، التي تستند على سلوكه على الشبكة، فيكشف الفيلم بهذا الخصوص، إن تلك الشركات لا تستخدم موظفين لمراقبة الرسائل الألكترونية التي نرسلها كل يوم، ولكن تقوم عبر برامج الكترونية خاصة بترشيح بعض المعلومات المُهمة، للتعرف على سلوكيات خاصة. هذه العمليات، والتي تحاول منظمات تعنى بالمحافظة على الخصوصية في العالم الغربي إيقافها، تجري على نطاق واسع، حتى عبر شركات غير شرعية، تقوم بإغراء مستخديمها بإستخدام شبكاتها الهوائية المجانية للإنترنيت في المدن الكبرى، لتقوم بعدها بسرقة المعلومات، وأحياناً بيعها في سوق سريّة لبيع المعلومات، لا نعرف عنها، كمستخدمين عاديين للإنترنيت، الا القليل، ومن الذي يصل أحياناً بالصدفة الى الإعلام الواسع.

إدوارد سنودن

ما بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، سيقسم الفيلم التسجيلي وقته، فالدولتان توفران الإختلافات الكافية لطرق تعامل الحكومات والناس العادية مع الشبكة، فمن بريطانيا واوربا تظهر بالعادة الدعوات لتقنين الإنترنيت، وبالخصوص نشاطات الشركات والمواقع الأمريكية الكبرى. في حين يختلف الوضع كثيراً في أمريكيا، اذ تتمسك شركات عملاقة بشروطها وتفرضها على السلطة هناك، وحتى مع المبادرات التي أطلقت بعضها حكومات الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز الخصوصية على الإنترنيت، كمشروع “تور”  (يهدف الى خلق شبكة إنترنيت يمكن الدخول لها بدون تعريفات، اي بدون معلومات عن الجهاز الذي تستخدمه وأي معلومات اخرى عن المستخدم)، يجري اليوم إستخدامها على نطاق واسع لإجراء عمليات بيع غير شرعية، وكما تَكَشف من قضية موقع “طريق الحرير” الأمريكي، الذي إستند على هذه التقنية لبيع مُخدرات حول العالم، يتم الدفع بها عن طريق نظام ” البت كوين ” المالي (هو نظام إفتراضي للدفع لا يستخدم النقود العادية ويحظى بشعبية متزايدة في العالم)، كما تبين إن مواقع ألكترونية عديدة بعضها يتاجر بالأسلحة او المواد الإباحية الممنوعة، وجدت في تقنية “تور” ، المجال الذي تتحرك فيه دون الخوف من الملاحقات القانونية.

هل هناك طريق آمن للحفاظ على الخصوصية ضمن متاهة الإنترنيت إذن؟ ، لا يصل الفيلم الى إجابات حاسمة عن هذا التساؤل او غيره من التي تخص الأمان والسريّة على الشبكة. لكنه يظهر محاولات حثيثة لشركات عملاقة لتأمين الشبكة من الإختراقات، والتي من المرجح بإنها  لن تصمد أمام الزمن، فالذين يحاولون الوصول الى بياناتنا وأسرارنا كُثر، خاصة مع الأهمية المُتصاعدة للإنترنيت، والتي لا يمكن تخيل الحياة بدونها في بعض المجتمعات. يعرض الفيلم آخر البحوث التي تتعلق بالمحافظة على خصوصية مستخدمي الإنترنيت، لكن هذه البحوث نفسها تواجه معارك شرسة في ظلام الشبكة من أجهزة أمنية ومجرمين ذو خبرات كبيرة، سيحاولون دائماً التحايل على قدراتها التحصينية والوصول الى ما يريدون.

من الذين تحدثوا في الفيلم جوليان أسانج، ومن مكان “حبسه” في سفارة الإكوادور في العاصمة البريطانية. أسانج كشف إن الكثير من الوثائق السريّة التي وصلت الى موقعه “وكيليكس”، إستفاد مرسليها من تقنية “تور”، والتي تخفي هوية مستخدمي الإنترنيت، وبدونها ربما لم يكن ليجرئوا بإرسال وثائق سريّة يحاسب القانون على إفشائها. كما شارك تيم بيرنرز لي في الحديث (مخترع الإنترنيت البريطاني الجنسية)، والأخير لم يخفيّ تشاؤمه مما يلحق في الإختراع الذي قدمه مجاناً للعالم  قبل ما يقارب من الخمسة وعشرين عاماً.  رغم تشاؤم الفيلم، وأجواءه التي إقتربت أحياناً من أفلام الرُعب السينمائية (إستخدم مؤثرات صُورية خاصة)، الا إنه في مُجمله يُشير لإنشغال كثيرين بقضية الخصوصية على الإنترنيت، ورغم ان هذا لن ينهي المعركة للحفاظ على السريّة، الا إنه يشير الى إن هناك من يخوضها ويُؤمن بقيمها، بأن تُصّان خُصوصية كل مستخدمي الإنترنيت.


إعلان