“أنا مع العروس”.. مغامرة ناقصة !
أمير العمري

هناك مادة في قانون الهجرة الصادر عن الاتحاد الأوروبي تنصّ على معاقبة كل من يساعد أحدا على الهجرة غير المشروعة بالسجن لمدة 15 سنة. كانت هذه العقوبة معروفة جيدا لدى مجموعة الإيطاليين والعرب المقيمين في ايطاليا، الذين تصدّوا لمساعدة ستة من المهاجرين غير القانونيين من السوريين والفلسطينيين على تحقيق هدفهم في الوصول إلى السويد. ليس هذا فقط بل إنتاج وتصوير فيلم عن تلك المغامرة وهو ما يُعدّ بمثابة اعتراف بالصوت والصورة بارتكاب “الجريمة”.
هذه المغامرة يمكن أن تكلف المهاجر ضياع حلمه وإعادته إلى حيث جاء، أما الإيطاليون والعرب (أحدهم فلسطيني، يظهر أمام الكاميرا يتحدث هاتفيا مع صديق له على الطرف الآخر، يخبره بحصوله أخيرا على الجنسية الايطالية)، فيمكن أن تطبق عليهم عقوبة السجن المشدد.
لم يقتصر الأمر على صنع هذا الفيلم الذي يحمل عنوان “أنا مع العروس”، بالجهود الذاتية من خلال حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تمكنت من جمع مبلغ 100 ألف يورو في شهرين فقط، بل والترويج غير المسبوق للفيلم من خلال الظهور في العديد من وسائل الإعلام ومواقع الانترنت، للحديث علانية عن تلك المغامرة وكأنهم يريدون حشد الناس وراءهم من أجل تغيير القانون.
وقد نجح مخرجو الفيلم، وهم أنطونيو أوجوجليارو وجابرييل ديلجراندي وخالد سليمان الناصري (شاعر سوري) ليس فقط من الانتهاء من تصوير الفيلم رغم ما يحوطه من مخاطر، بل والذهاب به للعرض في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الحادية والسبعين، الأمر الذي أتاح لهم مزيدا من التواصل مع أجهزة الإعلام.
يبدأ الفيلم في ميلانو، حيث يتوصّل طاقم الفيلم الى أن أفضل طريقة لمصاحبة مجموعة الفلسطينيين والسوريين الستة، إعادة تصفيف شعورهم وتغيير ملابسهم بحيث يظهرون كما لو كانوا ذاهبون الى حفل زفاف للفتاة التي ترتدي ملابس العروس، على شاب سوري من بينهم، لكي يتجنبوا تدخل رجال الشرطة وإجهاض الرحلة، فاللاجئون الستة الذين وصلوا قبل فترة قصيرة إلى إيطاليا بطريقة “قوارب الموت” يرغبون في اللجوء والعيش بعد أن نجحوا في الفرار من جحيم الحرب في سورية.

الفكرة مثيرة بالطبع، وكان من الممكن أن تصنع فيلما يتمتع بالكثير من الإثارة والجماليات أيضا، لكن ما حدث أن انتهى الفيلم إلى حزمة بصرية مليئة بالثرثرة الكلامية والحكايات التقليدية والتعليقات، قليل منها له معنى في السياق. ولكن المشكلة الأساسية أن الرحلة تمضي دون أي تدخل من جانب الشرطة في أي مرحلة من مراحلها، وبالتالي لا تصبح لعبارة (أنا مع العروس) أي تلك الحيلة أية فائدة. فالرحلة تمضي من ميلانو الإيطالية إلى الحدود الإيطالية الفرنسية إلى الداخل الفرنسي، ليس عن الطريق المعهود بل عن طريق كان في الماضي طريقا للمهاجرين الإيطاليين غير الشرعيين إلى فرنسا. يُعلّق الشاب الإيطالي الذي يُجيد العربية في الفيلم بقوله: عندما كنا نحن الإيطاليون، مهاجرو أوروبا غير الشرعيين !
من فرنسا تتوجّه قافلة السيارات بما فيها سيارة العروس بردائها الأبيض الطويل، من فرنسا إلى لكسمبورج، ومنها إلى ألمانيا ثم الدنمارك وصولا إلى مالماو في السويد حيث تحتفل المجموعة أمام محطة القطارات بنجاح الرحلة وتحقيق الهدف منها دون تدخل من شرطي واحد.
من المفارقات أن يتركّز حديث الأب المهاجر في الفيلم على توجيه الانتقادات الحادة للدول الأوروبية، فهو يقول أنها أعلنت أنها ستستقبل اللاجئين الفارّين من سورية ، لكنها أخلّت بتعهداتها، وأنها ترغب فقط في خداع شعوبها بالادعاء بأنها تساعد وتدعم وتقدم العون في حين أنها لا تفعل شيئا.. ويشير إلى حقيقة أنهم مضطرون لذلك، للتخفي والتسلل.
المشكلة أن من يقف وراء الكاميرا لا يناقش ولا يجادل ولا يرد، فالحقيقة أن دول الاتحاد الأوروبي لم تقل أبدا أنها ستفتح حدودها لكل من يرغب، بل سيتم استقبال أعداد معينة من اللاجئين طبقا لعملية قانونية منظمة عن طريق السفارات والصليب الأحمر. أما المجموعة التي نشاهدها في الفيلم فتروي تجربتها المروعة في العبور إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية في أحد ” قوارب الموت”، وكيف أن أكثر من مائتي شخص من رفاقهم غرقوا، ويجرى حديث طويل عن كيف أن حراس السواحل الإيطاليين تدخلوا لانقاذ نحو 25 شخصا في النهاية بعد أن قام بعض السوريين المقيمين في معسكر التجميع في لامبيدوزا الذين أمكن لأبطالنا الاتصال بهم، أن يتصلّوا بدورهم بالشرطة الإيطالية وبالصليب الأحمر للفت نظرهم إلى المأساة التي تجري في عرض البحر.
ما يرويه الأب في الفيلم عن مأساة غرق العشرات، هو أمر شديد التأثير بالفعل، وهي القصة الممتدة المعروفة التي تنشرها الصحف وأجهزة الإعلام يوميا مع اختلاف طفيف في التفاصيل. والرجل يتساءل كيف يمكن أن يدفع كل شخص ألف دولار لكي يموت؟ وهل هناك من يدفع لكي يموت؟ ولا أحد بالطبع يناقشه في عبثية ما يردده، فلا أحد يدفع مقابل الموت بل مقابل النجاة من الموت كما يتخيل، تراوده – تماما كما تراود أبطال الفيلم – فكرة “الحلم” بالجنة في السويد أو غيرها. أما الموت فيأتي نتيجة استغلال تجار البشر للوضع، وتحميل القوارب بأكثر كثيرا من حمولتها الأصلية، والظروف العسيرة التي يجد اللاجئون أنفسهم فيها، بل وكثيرا- حسب ما يتردد في الفيلم – ما يتعرض هؤلاء للنصب والاحتيال عندما يلقي بهم تجار البشر في جبال الألب الايطالية مثلا ويقولون لهم إنكم أصبحتم الآن في السويد !
ولعل من دواعي الدهشة أن مجموعة الإيطاليين والعرب في الفيلم يتحدثون كثيرا عما يُطلقون عليه “الحلم”، فهناك عبارات من هذا النوع نسمعها: “كنا سعداء بأن نساعدهم في تحقيق حلمهم في الوصول إلى السويد حتى لو كان هذا سيُعرّضنا للسجن 15 عاما!”.. أو “كنت أريد أن أصل وأحقق حلمي في السويد”.. “كنت أرغب في توفير العيش الجيد لأبنائي في السويد وأن يحصلوا على جوازات سفر سويدية تسمح لهم بالانتقال من بلد إلى آخر بدون أي قيود”..
لكننا لا نستطيع أن نفهم ما الذي يجعل السويد تختلف عن إيطاليا أو فرنسا مثلا؟ يقول أحدهم إنه لا يريد أبدا العيش في ايطاليا بل السويد فقط. ويحتّج الأب على أخذ بصماتهم من جانب الإيطاليين حتى لا يسمح لهم بالحصول على اللجوء في أي دولة أخرى غير الدولة التي بصموا فيها أي إيطاليا.. أما الإصرار على السويد فيجعل الأمر يبدو كما لو كنت تقدم لشخص يتضور جوعا طبقا من شرائح اللحم الفاخر (الاستيك) مثلا فيرفض بدعوى أنه لن يأكل سوى السمك الفاخر!
وبدلا من أن يكون الحلم هو عودة الهدوء إلى الوطن، وبالتالي العودة إلى الوطن الأصلي، يصبح اللجوء الى أرض الغير حلما يغلف حسب كلام العروس في الفيلم بنزعة إنسانية تطالب بأن تصبح الأرض مفتوحة مثل السماء، أي للكل، وهو تفكير طوباوي يتجاهل الكثير من الحقائق.

يمتليء الفيلم ببيانات الإدانة للدول الأوروبية، واتهامها بإغلاق الأبواب في حين أن أبطالنا يتمكنّون من السفر بكل حرية والمرور عبر 6 دول دون أي تدخل من الشرطة، بل وعندما يوجه الشاب الإيطالي في الفيلم سؤالا إلى “تسنيم” التي تقوم بدور العروس حول لماذا لم تغادر سورية من قبل في حين أن لديها جواز سفر ألماني، تكون إجابتها أنها لم تكن أصلا تودّ ترك سورية، بل هي ترى في سياق من التناقضات، أن ما يقوم به الرجال في الدفاع عن رفاقهم، كان يستوجب وجود المرأة أيضا الى جانبهم أي أنها مع القتال الدائر ولو من طرف ما.. ولكنها لا تتحدث عن سبب تغيير رأيها، وقرارها بالمغادرة، ولا أحد يسألها عن سبب تغيير موقفها، ولا عن عدم الذهاب إلى ألمانيا إذا كانت تتمتع بالجنسية الألمانية، ولا لماذا السويد تحديدا وليست إيطاليا مثلا التي استقبلتهم بالفعل. ويزداد الفيلم اضطرابا، فنحن لا نسمع كلمة نقد واحدة توجه إلى السلطة في بلدان الشرق الأوسط وممارساتها التي تؤدي إلى تفاقم مشكلة الهجرة غير المشروعة بعد أن أصبحت الحياة في بلدان مثل سورية وليبيا والعراق واليمن جحيما لا يطاق، فالنقد كله موجه للبلدان الأوروبية التي من الطبيعي بالطبع أن تحمي حدودها من تسلل عناصر قد تلجأ إلى الارهاب.
وقد بدا تأثر المرافق السوري المقيم بخبر حصوله على الجنسية الإيطالية حد البكاء، وقوله إنها المرة الأولى في حياته التي يشعر فيها بالانتماء إلى دولة تقف خلفه وتدعمه، متناقضا تماما مع الطابع العام للفيلم الذي يريد أن يجعل مجموعة المتسللين اللاجئين ضحايا للنظام الأوروبي المتعسف بدلا من أن يكونوا ضحايا لفشل أنظمة الحكم العربية.
هذا على صعيد الأفكار في الفيلم. أما على صعيد الشكل الفني، فالفيلم يعاني من الضعف والترهل والفراغ الناتج عن الفشل في تطوير “حبكة” تتصاعد دراميا فنحن لا نشاهد سوى سيارات تسافر من بلد الى آخر، وثرثرة وحكايات داخل السيارات، وتتردد بعض الأغنيات التي يغنيها رفاق الرحلة، ولم تكن موفقة بل اعتباطية ولا علاقة لها بموضوع الفيلم وروحه ولم تسهم في تعميق موضوعه بل بدت خارج السياق تماما، فلم نفهم مثلا مغزى ترديد أغنية الشيخ إمام الشهيرة “واه ياعبد الودود.. يارابض ع الحدود” بعد دخول المجموعة فرنسا، فعن أي حدود يغنون، وأي عدو هذا الذي يربض له عبد الودود على الحدود الفرنسية؟ كما لا نفهم ترديد أغنية داليدا الشهيرة في حب مصر “كلمة حلوة وكلمتين.. حلوة يابلدي”، وهي تعكس تناقضا مضحكا مع حقيقة الواقع في “بلدي” وهو الواقع الذي دفع هذه المجموعة إلى الفرار والتعرض للموت غرقا ثم مخالفة القانون والتسلل عبر بلدان عدة وصولا إلى السويد حيث يأملون في الحصول على اللجوء السياسي.. ولا تبدو أغنية فيروز “يابا لا لا.. بتريد تحاكينا أم لا” مفهومة في سياق الفيلم وهي التي ترددها العروس باستفاضة. هذه الاختيارات تخرج الفيلم تماما عن روحه وموضوعه، كما تبدو أغاني الراب باللهجة الفلسطينية التي يغنيها الصبي الصغير، جافة وغير متسقة مع الروح العامة للفيلم بل وجاءت أيضا مفتعلة ودخيلة على فن الغناء العربي. والطريف أن الصبي الذي يردد تلك الأغنياء طلب في البداية من الحلاق أن يقص له شعره على طريقة الأمريكيين السود الذين يرددون أغاني الراب!
يعتمد المخرجون على متابعة السيارات في تحركها من الخارج في لقطات عامة تمنح المتفرج صورا عن طبيعة المكان، ثم يركزون على اللقطات القريبة لوجوه الشخصيات داخل السيارات، أو في منازل الأصدقاء الذين يستقبلونهم في مدن مختلفة ويقيمون لهم حفلات العشاء حيث يرقصون ويغنون في أجواء استرخاء لا أثر فيها لأي توتر أو مطاردة. هنا تفقد المغامرة قوتها، كما يفقد الفيلم إيقاعه ويصبح مجرد “بيان” سياسي عقيم عن التسلل إلى الغرب. الذي نعشقه، لكننا لا نتقاعس عن وصفه بأبشع الصفات!