سيمون ماسي.. الإيطالي الذي يرسم الأحلام
فينيسيا – د. أمـل الجمل

من الأحلام والذاكرة والأرواح البشرية وأرواح الطيور والحيوانات ومن همس الجماد يستلهم أفكاره، من حياة الفلاحين والعمال والمزارعين وتقاليد مجتمعه وتاريخه الطويل في المقاومة أيضاً يختار نتف ينسج منها أطراف حكاياته، الرمزية، الغامضة أحياناً، الشاعرية دائماً وأبداً. إنه الفنان التشكيلي والكاتب والمخرج الإيطالي سيمون ماسي. إنه أحد أهم مخرجي الأفلام القصيرة والرسوم المتحركة في إيطاليا وأوروبا. حصل على أكثر من 200 من الجوائز في المهرجانات الكبرى في إيطاليا والخارج. وقد عُرض له في تظاهرة “آفاق” خارج المسابقة – بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بدورته الحادية والسبعين – فيلم “في انتظار مايو” 8 دقائق، كما صمم الأفيش الدعائي لتلك الدورة من مهرجان فينيسيا مستلهما التصميم من لقطة النهاية بفيلم “400 ضربة” للمخرج فرانسوا تروفو حيث الصبي بطل الفيلم الهارب من الإحداثية على شاطئ البحر والخوف يغمر ملامحه، وكأنه تعبير عن الحالة التي يعيشها العالم في ظل الحروب والضربات المتتالية، عن كون العالم يمر بفترة تحول مرعبة، فكأن العالم الداخلي الخاص بهذا الطفل ما هو إلا دواخلنا وخوفنا نحن أيضاً على شاطئ تلك الحياة الملونة بالأسماك المحلقة في الفضاء.
بالإضافة إلى ما سبق فإن ماسي استوحى مضمون ملصق العام الماضي من لقطتين بفيلمي المخرج اليوناني ثيودور أنجيلوبولوس “الأبدية ويوم واحد”، وفيدركو فيلليني “السفينة تُواصل الإبحار”. كذلك أخرج سيمون الفيلم القصير الذي يسبق كافة عروض الأفلام في الدورة 71. كما عُرض فيلم عنه هو نفسه بعنوان “المقاومة المتحركة” أو “مقاومة التحريك”، إنتاج 2014، مدته 61 وذلك ضمن برنامج “كلاسيكيات فينيسيا”.
قبيل عرض فيلمه “في انتظار مايو” وفيلم “المقاومة المتحركة” أقيم معه حواراً طويلاً وطُرح عليه كثير من الأسئلة التي أجاب عليها بتواضع وبساطة الفنان الممتلئ المرهف الحس. كانت أساساً تدور حول عالمه الفني والإبداعي وأسلوبه المختلف وطابعه الذي يميز أعماله، وهو ما نستشعره من الأفلام المعروضة بتوقيعه أو بتوقيع آخرين عنه.
وسيمون ماسي من مواليد 1970. ينتمي لأسرة قروية. جاء إلى عالم التحريك بالصدفة. كان عاملاً في مصنع. درس التحريك في كلية الفنون في بلاده. تنقل من خبرة إلى أخرى، وبالتدريج أصبح التحريك هو حياته، يقول أنه لم يكن يتصور أن يقوم بكل تلك الرسوم التي تشكلت خطوة وراء أخرى. وعلى مدار عشرين عاماً من العمل والجهد المتواصل أصبح من أهم مخرجي أفلام التحريك في إيطاليا وعلى المستوى الدولي، قدم أكثر من 19 فيلم تحريك. العمل الفني الواحد عنده والذي يدور في ثمانية دقائق قد يستغرق عامين من الجهد المتواصل، والشريط السينمائي الذي يستمر 30 ثانية على الشاشة قد يحتاج إلى 300 رسم توضيحي مرسومة كلها باليد فهو لا يستخدم الكومبيوتر أبداً في عمله. يستخدم القلم الرصاص وزيت الباستيل، أغلب أعماله باللونين الأبيض والأسود، والقليل جداً منها بالألوان، أو قد تكون بالأبيض والأسود وبها مسحة لونية واحدة كرمز، في ظل غياب كامل للتكنولوجية الرقمية.
وماسي على قناعة بأن أهم اختلاف يميز التحريك عن السينما الروائية، أن في التحريك كل شيء يمكن أن يحدث، وما لا يمكن أن يتم تصويره في السينما الروائية يمكن تحقيقه في التحريك. بأنه أثناء حكي قصة فيلمه لا يشغل باله كثيراً بالواقعية، لأنه “لا ينقل الواقع وإنما يرسم الأحلام”، وذلك رغم أنه يقتنص تفاصيله من شقوق الحياة اليومية والتي قد تبدو مغمورة، لكنها قادرة على استدعاء المميز من الذكريات، من الأحداث السياسية والتاريخية، والمناظر الطبيعية الجبلية، تلك التفاصيل القادرة على خلق سرد غنائي شاعري.
أجواء الحلم

وعن سيطرة حالة من الحلم على أجواء أفلامه يُؤكد أنه رغم أن الشخصيات حقيقية، والإيماءات كذلك لكنه لا يريد أن يجعل من فيلمه عملاً روائياً أو وثائقياً، صحيح أن البداية أو الميلاد ينبثق من الواقع ولكنه بعد ذلك يتحول إلى حلم. ففي فيلمه “أعرف من أنا” نرى حقيبة وبعض الصور التي تظهر سريعاً في يد أحد المسافرين وكأنه على عجلة من أمره، إنها قصة المهاجرين وقصة إيطاليا. في هذا الفيلم هناك الحقيبة لأن الشخصية الرئيسية اضطرت لحزم أمتعتها والرحيل. إنه يرى أجداده مثل أجداد الآخرين، كانوا مضطرين للهجرة كما استمر آخرون على الهجرة. إنها قصة الرجل الذي يسعى لتحسين ظروف أسرته، فمن تجربة الرحلة، من الذهاب إلى المجهول منذ زمن طويل، والآن عندما يتحدث عن هذا كأنما يتحدث عن الرسوم المتحركة ورحلته إلى المجهول.
لكل ما سبق جاء العمل القصير جداً “أعرف من أنا” وكأنه قطعة من تاريخ القرن العشرين. لقد كان أيضاً بمثابة تحية لأجداده، أجداده وأرضه. فمنهم أدرك أشياء كثيرة، كما يقول، فقد اضطر إلى إعادة النظر فيمن جاءوا قبله، لمعرفة من هو ومن أين جاء، إنه فيلم حول جذور مخرجه الذي تبدو مقدمته كأنها قصيدة شعرية يقول فيها: “أنا أعرف مَنْ أنا/ أنا جدي وأبي/ وكل وجه قابلته، أو فكرت فيه/ أنا البيت الذي ولدت فيه/ الأماكن التي قرأت عنها أو حلمت بها/ الشوارع التي مشيت فيها، الأسقف وتربة الأرض/ كلها مغلق عليها في حقيبتي، داخل سحب الدخان المتصاعدة من سيجارتي/ وفي كأس النبيذ أمامي.”
أما عندما يُسئل سيمون ماسي عن كيفية المزج بين الشعر والصورة في أفلامه التي يكتب نصوصها بنفسه، والتي تحكي قصص بسيطة من الجدات وعن التنانير الواسعة، ونباح الكلاب والقرى والتلال والمناظر الطبيعية، يقول: أنا شخص تعلم أن يتواصل مع الكلمات، مع الكتابة، والصورة. الفرق بين الكلمات والتصميم ضعيف جداً، وأنا أحاول أن أمزج بينهما. المهم بالنسبة لي أن يكون كليهما جميل. الكلمات وتكوينها، الصور وترتيبها، وتتابعها. وطالما أنهما ولدا سوياً وسارا معاً فلابد ومن الطبيعي أن يمتزجا سوياً أيضاً، ثم جنبا إلى جنب مع الصوت والموسيقى، كل هذه العناصر تُشكل الفيلم.
حركة الكاميرا والمزج

عند ماسي تتحرك الكاميرا باستمرار، تقترب من هدفها فتتحول الصورة إلي أخرى. هو يرفض القطع بكافة أشكاله في المونتاج، ربما جاء ذلك من إحساسه بالعنف في القطع بين اللقطات وكأنه أثناء استخدام القطع يمسك بسكين حاد، وهى فكرة لا يحبها لما فيها من عنف. لذلك يفضل المزج، كأن الصور تخرج من رحم بعضها البعض، كأن المزج بينهم طبيعي، وكأن هناك تواصل بينهم وعلاقة سرية يكشف هو عنها، رغم كونهما في كثير من الأحيان تصميمات مختلفة لا يربط بينها شيء مشترك، على الأقل ظاهرياً، لذلك يستخدم المزج، بعد أن يبحث عن نقطة التقاء أو نقطة خروج ملائمة، فيبدو الأمر كأنه لا يوجد قطع بين اللقطات، وكأنها جميعها تم تصويرها في لقطة واحدة، يجمعها حركة زوم إن مستمرة، فالكاميرا في حالة حركة لا تهدأ، تقترب من الناس وملامحها وتجاعيدها، تدخل في قلب العيون وتصعد إلى الجبهات، وتنفذ إلى مسام الجلد. والرمز عنده مكثف، باستخدام الضربات الضرورية، فمثلاً في فيلمه القصير الذي تم عرضه في دورة 71 من مهرجان فينيسيا قبيل كل عروض الأفلام كنا نرى: طفل جالس على حافة مركب بصحبة وحيد القرن، يصطاد الطفل سمكة صغيرة عندما تستقر في يده تتحول إلى سحابة بيضاء، ثم بدورها تتحول هي أيضاً إلى فتاة على أرض تغطيها السماء بلونها الأزرق، ثم يخرج من جبهة الفتاة رجل بصحبته صبي، من قبعة الرجل يخرج إنسان مجنح كالملاك عندما تقترب منه الكاميرا يُصبح عامل سرعان ما يتحول بدوره إلى فلاح عندما يشق عن صدره نجد بطل أندريه تاركوفسكي وكلبه الشهير في فيلم “ستالكر” وهما راقدين على الأرض في وضع الجنين. ومن قلب السواد الفاحم للبطل الراقد يظهر سيمون ماسي، بظهره، بقميصه الأحمر ثم يمد يده نحو الفضاء ويجذب البالطو الأسود ويرتديه قبل أن يلتفت إلى الكاميرا بشعره القصير الطائر لتقترب منه الكاميرا حتى تدخل عينه فنرى لقطة البداية حيث الصبي ووحيد القرن.
عن الإلهام
وعندما سُئل سيمون ماسي عن مصادر الوحي في أفلامه قال: أنه يجد صعوبة في الإجابة لأنها تبدأ كفكرة صغيرة، تنمو، تتطور، لكن أحياناً يصعب أن يحدد من أين جاءت الفكرة. ربما يكون مصدرها كلمات، إشارات، أو نظرات من سنوات عديدة، قد يكون صوت سمعه أو نظرة صارمة حادة، أو إيماءات قد تبدو تافهة. ورغم أنها قد تبدو غير مهمة، لكنها لسبب ما تبقى في خلايا عقله وشبكة تفاعلاته وتنمو حتى يُدرك في لحظة ما أنها تصلح لعمل فيلم قصير. ثم يأتي السواد والحبر المتساقط كنقاط على الورق الأبيض. هذه النقاط تتمدد بالتدريج حتى تصبح قادرة على حكي قصة فيلم قصير. ومعنى أنها بقيت بداخله كل تلك المدة فهذا يعني أن لها أهميتها الخاصة. “الإلهام يأتيني من مثل تلك الأشياء الصغيرة، التي أستطيع بالكاد وصفها.”
هكذا ببساطة يعترف سيمون ماسي، مثلما يعترف بأنه لا يحب أفلام التحريك، لا يراها موحية له، يعتبر أن أهم مراجعه أندريه تاركوفسكي، والشاعر والروائي والناقد الأدبي الإيطالي سيزار بيفاس، إلى جانب بعض المؤلفين الآخرين، وبعض الرسامين والفنانين التشكيلين، لكنه غير واثق من وجود ملهم محدد له، أو ملهم ظلت أعماله راسخة وحدها في إلهامها. يُؤكد أن العمال والمزارعين يؤثرون على أعماله، أن تأثيرهم مستمر علي فنه، لأنهم يُوحون إليه بأشياء، ويستدعون عنده الذكريات، وحياتهم نفسها تلهمه بأفكار.
يعترف أيضاً بأنه لم يكن لديهم مكتبة في البيت، بأنه نشأ على حكي القص والحكايات من جده وأبيه الذين لم يكونوا يجيدا القراءة والكتابة لكنهما يجيدا حكي القصص، وهو يريد أن يحافظ على تلك الموهبة، ان يكون مثلهما قادر على سرد القصص. كانت جدته أيضاً امرأة عظيمة، وكانت أيضاً الحكاء الأكبر في حياته. كانت تسرد عليه القصص الصغيرة، والمأساوية والأحاجي والأمثال. كانت قصصها مطرزة بالخيال، والغموض، وقد تأثر بها خصوصاً في فيلمه “ذاكرة الكلاب”، وهو العمل الذي بلغت مدته دقائق قليلة لا تتجاوز العشر لكنه استغرق منه عامين كاملين من العمل والجهد المتواصل حتى أنه كان يعمل لمدة عشر ساعات يومياً.