“رحلة المائة قدم” لخوض الصراع الحضاري
عدنان حسين أحمد

تحتفي الصالات البريطانية هذه الأيام بعرض الفيلم الروائي الأميركي المعنون “رحلة المائة قدم” للمخرج السويدي لاس هالستروم الذي ارتأى أن يختار خلطة من الأسماء الفنية المهمة مثل النجمة البريطانية هيلين ميرين، والفنان الهندي أوم بوري،والممثل الأميركي من أصل هندي مانيش دايال، والفنانة الكندية شارلوت لو بون، والنجمة الهندية جوهي تشاولا وسواها من الأسماء الإبداعية التي دوزنت إيقاع هذا الفيلم الذي يقوم، جملة وتفصيلا، على صراع الثقافات أو صراع الحضارات إن شئتم حتى وإن كان المدخل عن طريق حاسة التذوّق، ونوعية الأطعمة التي يقدِّمها هذا البلد أو ذاك. الفيلم مقتبس عن رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب الأميركي ريتشارد .س. مورياس فيما كتب السيناريو المخرج والكاتب البريطاني ستيفن نايت مضيفاً إلى النص الروائي أبعاداً بصرية جديدة.
رائحة المدن
يمكن تقسيم الفيلم بحسب الأمكنة الجغرافية الخمسة التي وقعت فيها الأحداث، وتصارعت فيها الشخصيات الرئيسة صراعاً ثقافياً كان الطعام مادته وجوهره الأساسي قبل أن يصل الطرفان المتنازعان إلى التوافق والوئام والانسجام.
لم يكن المشهد العام للسوق الشعبية في مدينة بومباي الهندية اعتباطياً فهو يشبه تماماً منظر البندقية المعلّقة على الجدار التي تُذكِّرنا منذ البداية بأننا سنسمع لاحقاً صوت الطلقات النارية التي قد تُصيب أو تخيب. فالأم “جوهي تشاولا” كانت تخترق السوق مع ابنها حسن “مانيش دايال” وهي تتبضع كل يوم للمطعم الذي يمتلكونه في مومباي، فهي أمه ومعلمته في الوقت ذاته. وقد بذلت جهداً كبيراً سواء في تربيته أم في تعليمه فنون الطبخ الهندي. فالطبخ من وجهة نظرها هو “تربية لكل الحواس” كما جاء في سياق الفيلم، أما فرادة الطعام وخصوصيته فتكمن في طعمه ونكهته اللذيدة التي تُجبر الإنسان على أن يقوم برحلة خاصة إلى هذا المطعم المميز الذي حظي بنجمتين من “دليل ميشيلان”.

لقد تعلّم حسن صناعة النكهات اللذيذة في مطعمهم الخاص بمدينة بومباي على يد أمه التي تشير من طرف غير خفي إلى تراث الأمة الهندية وثقافتها الغذائية. وكانت تدرّبه كي يحلّ محلها كطاهٍ رئيسي في هذا المطعم الذي يعتمدون عليه كلياً في تأمين الرزق الحلال. غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. فبسبب الخلافات والصراعات الانتخابية تقوم مجموعة من الرعاع بمهاجمة المطعم وحرقه الأمر الذي يفضى إلى موت الأم فيما نجح الأب كاظم وعائلته في إخلاء جميع الزبائن الذين كانوا متواجدين في أثناء الحادث في إشارة واضحة إلى محاولة حرق التراث الهندي أو الإساءة إليه في أقل تقدير.
لا غرابة أن تبحث العائلة برمتها عن اللجوء إلى بلدان أكثر أماناً وحرصاً على الكائن البشري الذي يمثل أعلى قيمة في الوجود. وبما علاقة المُستَعمَر بالمُستعمِر قوية جداً وتحمل أصداء الضحية والجلّاد فلقد اختارت العائلة مدينة لندن كمكان للجوء لكنهم سرعان ما يغادرونها إلى هولندا، مروراً بسويسرا، وانتهاءً بمدينة “سانت أنتونان نوبلا فال” في الجنوب الفرنسي، وحجتهم في مغادرة لندن أن خضراواتها وفواكهها غير مفعمة بالحياة خلافاً للخضراوات الطازجة، المليئة بالحياة في الأسواق الفرنسية.
تلعب المصادفات أحياناً دوراً مهماً في صناعة الأحداث فلولا تعطّل كوابح السيارة التي يقودها الأب كاظم عند مشارف مدينة “سانت أنتونان” ومرور مارغريت “شارلوت لو بون” بالمصادفة أيضاً لما تمّ اختيار هذه المدينة ذات الطابع القروي مكاناً لأحداث هذا الفيلم الذي سوف يجسد الصراع الثقافي والحضاري في آنٍ معاً بين مدام مالوري التي تدير مطعماً حاصلاً على نجمة ميشيلان وبين الأب كاظم الذي راهن على افتتاح مطعم “بيت مومباي” بعد شرائه وترميمه على أمل أن ينافس مطعم السيدة مالوري الذي يحمل اسم “الصفصافة الباكية” ويتمترس خلف نجمة ميشلان ذائعة الصيت التي تجذب الروّاد من أمكنة بعيدة وقريبة على حدٍ سواء.
الحرب الباردة
على الرغم من أن السيدة مالوري هي التي مهدت الطريق للأب كاظم لشراء المطعم ذلك لأن صاحبة المِلكْ قد طلبت منها أن تراقب المكان وتعتني به لكنها لم تتوقع أن المالك الجديد القادم من أعماق مومباي سيؤسس مطعماً جديداً ينافس فيه مطعمها الذي لا يبعد أكثر من مائة قدم، فتبدأ الحرب الباردة التي سوف تتصاعد شيئاً فشيئاً بدءاً من طلبها بتخفيض صوت الموسيقى الهندية العالية التي تزعج الناس الفرنسيين الذين لم يعتادوا على هذا النمط الموسيقي الضاجّ، مروراً بشراء المواد الغذائية التي يحتاجها مطعم “بيت مومباي” وانتهاءً بالتهديدات الجدية بإبلاغ الشرطة في حال تمرده على القوانين المرعية في عموم المدن الفرنسية.
إذا كان الأب كاظم شخصية متعجرفة تنطوي على بعض الخشونة في التعامل مع السيدة مالوري فإن الابن حسن يتوفر على مرونة واضحة سوف تؤسس لمساحة مشتركة تتيح لهما الحوار والتفاهم والانسجام. لقد دعاها الأب كاظم على ليلة الافتتاح ووزع الكثير من الدعوات للآخرين، وأجبر المارين على تلبية دعوته حتى بدا أحمقاً وغريباً في طريقة استدراج الآخرين لمطعمه، متحدياً مطعم السيدة مالوري المتوّج بنجمة ميشلان والتي رفضت دعوته خصوصاً إذا كان طعامه حاداً مثل موسيقاه التي وخزت سمع الآخرين.
قصة حُب وأخرى في الطريق

تراهن غالبية الأفلام الروائية على قصص الحب والفضاءات الرومانسية الحقيقية التي تبتعد عن الميوعة العاطفية. وفي هذا الفيلم ثمة أكثر من علاقة، الأولى بين حسن ومارغريت، والثانية بين الأب كاظم والسيدة مالوري حيث تتشذب وعورة الأرمل كاظم بمرور الزمن ويغدو ناعماً مثل خيط الحرير حتى بدأ يقبّل أناملها، ويرقص معها، ولا يجد ضيراً في البوح بما يعتمل في صدره من مشاعر على الرغم من استجارته بلغة مجازية قد لا تنطوي على الصراحة المعهودة في مثل هذه العلاقات العاطفية التي ينبغي أن تكون صريحة وواضحة ونقية مثل قطرات الماء الهابطة من أعالي السماء.
مرّت العلاقة العاطفية بين حسن ومارغريت بمراحل سعيدة وحزينة في أنٍ معاً. فهي تحبه من جهة لكنها لا تستطيع أن تفهم كل مشاعره الحقيقية، وعلى الطرفين أن يقتربا إلى المساحة المشتركة التي تحافظ على خصوصية كل واحد منهما على انفراد. وعلى الرغم من بعض الهنوات التي قد تحدث هنا وهناك إلاّ أنهما شكّلا ثنائياً نموذجياً للعلاقة العاطفية الحقيقية بين العاشق الشرقي وحبيبته الغربية. وهي ذات العلاقة التي نسجت خيوطها رويداً رويداً بين الأب كاظم القادم من أعماق مومباي وقيمها الأخلاقية وبين السيدة مالوري التي تفتخر بمنظومة قيمها الغربية.
لم يحظَ مطعم “بيت مومباي” باهتمام الزبائن الفرنسيين على الرغم من أهميته وفرادته في تقديم الأطباق الهندية الشهيرة ذات النكهة الشرقية الخالصة حتى أننا شاهدنا بأم أعيننا الأب كاظم وهو يقوّض الديكور الهندي الجميل من واجهته الأمامية ويوافق مُرغماً على العرض الذي قدّمته منافسته السيدة مالوري إلى الشيف حسن مقابل أجر أسبوعي على أن يعدّ بعض الوجبات ومنها وجبة الأومليت بالنكهة الهندية إضافة إلى الوجبات الفرنسية المتداولة.
عنف غربي
لابد من الإشارة إلى أن مطعم “بيت مومباي” قد تعرّض إلى عمل تخريبي حيث أقدم أحد الطهاة على إحراقه لكن السيدة مالوري طلبت منه أن يغادر المكان إلى الأبد كما طلبت من بقية العاملين تذكّر كلمات النشيد الوطني الفرنسي وأن يسترجعوا مفاهيم الحرية والإخاء والمساواة. يبدو أن العنف لا يقترن برقعة جغرافية محددة ويمكن أن يحدث في كل مكان فلا غرابة أن نشاهد عنفاً غربياً لا يختلف كثيراً عما شاهدناه في مدينة بومباي بعد مستهل الفيلم بقليل.

لقد وافقت مالوري على ضم الشيف حسن إلى طاقمها وأسندت له مهمة صناعة الطبق الذي يفضله مدير البلدية مستعملاً توابلهم الهندية التي جلبوها معهم. لم يلتزم حسن بقوانين الأكلات الكلاسيكية القديمة فلقد أضفى عليها الكثير. وهذا يعني أنه ليس متزمتاً وأن ذهنيته مرنة ومطواعة وقابلة للأخذ والعطاء. لقد جلب حسن شهرة واسعة لهذا المطعم، بل كان هو السبب الحقيقي الذي دفع “دليل ميشيلان” لأن يمنح المطعم نجمة ثانية وهذا حدث كبير بحد ذاته جعل كبرى المطاعم الفرنسية تتنافس على استدراجه وتقديم العروض المغرية له.
وعلى الرغم من النجاحات المتلاحقة التي حققها الشيف حسن في المطعم الباريسي الشهير إلاّ نياط قلبه ظلت معلّقة بمارغريت التي تعيش في تلك المضارب البعيدة من الجنوب الفرنسي الأمر الذي دفعه للعودة إلى “سانت أنتونان نوبلا فال” ليلتحم بحبيبة قلبه، ويعمل من جديد في مطعم السيدة مالوري على أمل مساعدتها في الحصول على نجمة ميشيلان الثالثة التي تُعتبر ذروة التتويج ومنتهاه.
ربما يكون المشهد الختامي من أجمل المشاهد التي طوت صفحة هذا الفيلم الطويل الذي بلغت مدته “122” دقيقة لم يشعر الجمهور بمرورها، هو مشهد الأب كاظم الذي يراقص السيدة مالوري بعد أن طوّعته، وكسرت شكيمة عناده وتشبثه بمنظومة القيم التي كان يحملها من قبل. لقد بات هذا الرجل المتزمت يفهم جيداً أن الوطن الحقيقي له هو حيث تعيش عائلته، وعلى القادمين الجدد أن يتقبلوا المجتمعات المستقبلة لهم بمحبة وأريحية وانسجام.
محبة وتآلف وانسجام
لقد جسّر هذا الفيلم جزءاً من الهوّة الثقافية والحضارية بين المجتمعات الشرقية والغربية وقد كان الطعام هو الرهان هذه المرة بعيداً عن الخلافات الدينية والفكرية والسياسية.
لابد من الإشارة في خاتمة المطاف إلى أن المخرج السويدي لاس هالستروم قد أنجز عدداً كبيراً من الأفلام نذكر منها “حياتي ككلب”، “أطفال المدينة الضاجة”، “شيئ نتحدث عنه”، “حياة غير مكتملة”، “كازانوفا”، “صيد السلمون في اليمن” و “الملاذ الأخير” وهي أفلام روائية لها مكانتها المميزة في المشهد السينمائي العالمي، ولكن يظل “رحلة المائة قدم” هو الفيلم هو الأكثر تفرداً ليس لأنه ينطوي على نفس كوميدي درامي فقط وإنما لأنه يجمع الأسرة الكونية في فضاء واحد قابل للتعايش والتزاوج والانسجام بدل أن يشتتها أو يُسقطها قسراً في فضاءات النبوّ والعزلة والتباعد.