كاميرات المراقبة تصنع فيلما وثائقيا باهرا

قيس قاسم

هذا الفيلم بطله الحقيقي “كاميرات المراقبة” وبقية الأدوار ثانوية حتى دور مخرجه لايقاس بما قدّمته من عطاء وفير كان كافياً لوحده لإنجاز وثائقي متفرد سجل لحظات لم يسجلها أي فيلم من قبل بهذة التفاصيل الدقيقة، حسب علمنا على الأقل، ولكنه وفي كل الأحوال يستحق التوقف عنده ومناقشته باعتباره نموذجاً للعلاقة الجديدة بين السينما التقليدية وتأثيرات التقنيات الحديثة عليها، وبشكل خاص تلك التي لها صلة بكاميرات التصوير على اختلاف وظائفها، وليس بالضرورة المختصّة بالتقنيات السينمائية نفسها (كاميرات تصوير، أجهزة تقطيع، صوت.. الخ) كون فيلم ” إرهاب في مركز تسوق” كله تقريباً قد سُجّل بكاميرات المراقبة المثبتة في مركز تسوق “ويست غيت” في العاصمة الكينية نيروبي، وليس بكاميرات فيديو شخصية أو كاميرات التلفون النقال، وبقية تفاصيله التقنية تظلّ تكميلية سهلة بالمقارنة بالمادة الغنية التي وفرتها تلك الكاميرات والتي وضعت الفيلم بين أهم الأفلام التسجيلية التي وثقّت بالتفاصيل حالة حقيقية تتعلق بعملية إرهابية نسمع عن مثيلاتها تقع في مناطق مختلفة من العالم ولكن لا نرى تفاصيلها رغم الانتشار الواسع للصورة التلفزيونية، كحالة تفجيرات برجي التجارة في نيويورك، لأن التصوير، من داخلها بالتحديد، كان غائباً وعدا الصور القليلة وتسجيلات الناس العاديين، الخارجية، لحظة وقوعها يكاد الحدث أن يكون مغيباً على مستوى التسجيل البصري، وفي هذا تميز لعدسات كاميرات متجر “ويست غيت” الكيني الذي شهد واحدة من المجازر المروعة والتي راح ضحيتها العشرات بعد ان اقتحمته مجموعة من تنظيم “الشباب” الصومالي وقتلوا متسوقين كانوا في داخله.

كان هذا في 21 سبتمبر من العام الفائت 2013، وبعد سنة تقريباً جهز دان ريد فيلمه معتمداً على التسجيلات المحفوظة لدى أصحاب مركز التسوق والشرطة مضيفاً إليها مقابلات سجلها مع الناجين منها وبعض المشاهد المختلفة المصدر للجزء الخارجي من البناية والتي شهدت حالة من الفوضى ظلت مستمرة لوقت ليس بالقليل على بدء الاقتحام وإصابة ومقتل العديد داخل السوق.
في مقدمة الوثائقي يكتب صاحبه بحروف بارزة “ساعات من التصوير تقابل فيها رجال ونساء وأطفال وجها لوجه مع إرهابيين”. وجهاً لوجه مع الموت تقابل الناجون وحكوا قصصاً موجزة عما عاشوه خلال ساعات مضت عليهم مثل دهر بعضهم خسر أطفاله فيها وبعضهم الآخر أصيب برصاص وآخرون نجوا بأعجوبة، كلهم قالوا كلاماً مؤثراً يحتاج إلى تحليل من مختصين في الطب وعلم النفس لدراسة التكوين العجيب لعقل ونفسية الكائن البشري وتصرّفه في الأزمات وكيف يعمل ويتحرك وفق غريزة لا يصدق أحد انها موجودة وفعالة داخلنا بهذا القدر الذي ظهرت عليه في الفيلم ومن خلال شخصياته التي توافق وصفها الشفهي مع الصورة المسجلة بكاميرات المراقبة، لتتفوق في تأثيرها النهائي على أي فيلم روائي خيال.

نحن أمام منجز مدهش آسر خال من التأثيرات الخارجية ومن الحيل التقنية. صادق إلى حدّ يجبر مشاهده على التفكير في قساوة الوضع الذي نعيشه اليوم، ويغلب عليه العنف والقتل بدم بارد نتيجة ا لعداوات وصراعات تُلبس ثوب الدين وفي حقيقتها أبعد ما تكون عنه وهذا ما سيتوصل إليه الوثائقي ليس بسبب ذكاء صانعه، هذة المرة، إنما بقوة الشهادة/ الصورة التي تقول كل شيء وما على المشاهد سوى التحليل والتفكير بما يشاهده أمامه من فواجع مع أن ما تُحدثه من صدمة يحتاج إلى وقت كافٍ حتى يتمكن المرء من استعادة الشريط في ذهنه وترتيب تسلسله ليرتب فيما بعد أفكاره وفقها.
أساليب التعبير عن تشبث الإنسان بالحياة لا حدّ لها، وقد لا نعرف إلا القليل منها و”إرهاب في مركز تسوق” يعرض، وربما بشكل نادر لم يعرفه الناس من قبل، قسماً منها وصوره توضح قوة النقل الكامنة فيها، والتي ستتفوق قوة تعبيرها، على وصف كثير من الكتاب والشعراء والصحفيين لو طلب منهم كتابتها. المشاهد المسجلة جلية كما لو أن كاميرا سينمائية محترفة سجلتها، حركة الناس مأخوذة من زوايا متعددة وهنا لابد من ذكر الدور الحقيقي لعملية المونتاج فلولاه لما تمكن المخرج دان ريد من وضع تسلسل منطقي ومرتب للأحداث؛ منذ دخول المجموعة وحتى نهايتهم حرقاً داخل أقسام المركز.
 وصف الناس لرغبتهم في النجاة وحدها تفطر القلب وبخاصة الأمهات اللواتي وضعن مهمة انقاذ أطفالهن قبل حياتهن وقدرة البشر على “التمثيل” في وقت الأزمات فشهادة أحد الناجين الكينيين والذي مثّل دور “المقتول” وطال أداؤه ساعات لم يتحرك فيها قيد أنمله رغم إصابته بطلق ناري وبعد أن أنقذت حياته قال “لقد استفدت من الأفلام التي كنت أشاهدها”.

 

وصف المتسوقين لحالة الخوف من أصوات الرصاص لا معنى له ولا قيمة كبيرة كالتي ظهرت عليها في الشريط لولا ربطها  المحكم بالصورة التي أكملت التعبير وأغنته. بريق الرصاص، الصراخ، الركض والزحف والصمت كل هذه التفاصيل شاهدناها لأول مرة، نحن الذين لم نمرّ بتجارب مشابهة. لم نرَ من قبل كيف يتعامل الإنسان مع جريح يرقد بجواره ولم يره في حياته من قبل سوى في هذه اللحظة التي وحدّهم فيها الخوف. المشاعر التي يُسجّلها الناجون مُركّبة لصراحتها وحين اقترنت بالصورة أصبح  لا مناص من التأثر الشديد بالمشهد التراجيدي الذي تُشكّله ويضفي عليه الأطفال مزيداً من الحزن والأسى وحتى “المقتحمون” وبالرغم من قتلهم للأبرياء ففي مواضع أخرى كانوا يتصرفون كبشر وليس كوحوش، وهذا ما كان يُحيّر بعض الناجين ويُصعّب عليهم فهمهم بشكل دقيق.
العداوات والانتقام مجاز للجرائم وقتل الأبرياء. فالمقتحمون من منظمة “الشباب” كانوا يقولون للمحاصرين “جئنا لننتقم من قتلكم نساءنا وأطفالنا. لقد جاء دورنا الآن”. اختلاط في الفهم لا يتساوى مع منطق العقل السوي ولا مع الدوافع المعلنة، فكثير من الضحايا كانوا من المسلمين داخل السوق، الذي يستحيل التمييز داخله بين أفريقي وبين أوروبي وغيرهم، الكل يدخل إلى المركز ليتسوق وبالتالي فروح الانتقام هي الدافعة، ما يطرح أسئلة معها عن الحال التي نحن فيها؟ هل سيستمر الانتقام ويولد انتقاماً مضاداً؟ وإلى متى؟ أسئلة من صلب وثائقي مسّ الكثير من الأسئلة بقوة شديدة وسلط ضوءاً على التلكؤ الذي مارسته السطات الكينية وتأخر دخولها لمساعدة المحاصرين ولماذا لجأ الجيش إلى حرق المبنى ونسفه وعدد المقتحمين المسلحين المتبقين داخله كانوا أربعة أشخاص فقط؟ سنتذكر طويلا فيلم “إرهاب في مركز تسوق” لصلته بموضوع آني ملتهب لم ينته بعد، إلى جانب السؤال عن الطريقة التي صور بها وكيف اكتمل.


إعلان