المال الأسود… مُستقبل العالم في أفريقيا
محمد موسى
تناولت أعمال تسجيلية أوربية عديدة في السنوات الخمس الأخيرة الطفرة الاقتصادية في الصين والتغييرات الاجتماعية التي صاحبتها وأصداء ذلك النجاح في العالم، فمنها ما ركز على قصة وأسرار النجاح الاقتصادي وكيف تحولت الصين في غضون سنوات قليلة من دولة تعاني من مشاكل كبيرة ونظام اقتصادي مُقيد ومهترئ إلى قوة عالمية كبرى، فيما ركزت أفلام اخرى على تأثيرات “الغنى” و”الرفاهية” على سكان الدولة العظمى والتي لازال
![]() |
أفارقة في الصين
|
نظامها الرسمي يتمسك بشعارات الشيوعية، وطرحت هذه الأفلام أسئلة على شاكلة: “ماذا تغير اجتماعياً في الصين منذ انفتاحها على العالم؟”. كما تناولت بعض الأفلام التسجيلية علاقة الصين الجديدة الغنية مع دول من العالمين الغني والفقير، فقدمت مثلاً وبتفصيلة كبيرة البرنامج التسجيلي الضخم “الصينيون قادمون” والذي عرض قبل عامين على شاشات هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وتناول في كل حلقة من حلقاته جانبا من نجاحات الصين في العالم اليوم. فركزت حلقة “أفريقيا” على الاستثمارات الاقتصادية الهائلة للصين في أفريقيا في السنوات الأخيرة، وكيف حلّت الصين محل الاستعمار الأوروبي التقليدي في القارة الفقيرة، منتهجة أحياناً نفس السياسيات والسلوكيات التي جعلت الوجود الصيني في أفريقيا اليوم أمراً جدليّا وأحياناً بغيضاً.
يكاد الفيلم التسجيلي “المال الأسود.. المستقبل يأتي من أفريقيا”، والذي هو أحد نتاجات البرنامج التسجيلي التلفزيوني الهولندي (تيخينليخت)، أن يكون تكملة لحلقة أفريقيا من البرنامج البريطاني، فهو يحقق في مظهر آخر لعلاقة القارة الأفريقية بالصين الجديدة، فيتناول الهجرة الاقتصادية لآلاف من الأفارقة الى الصين للعمل هناك، وبناء علاقات تجارية من هناك مع بلدانهم، والتي تأتي موازية لتلك التي تعملها الصين، دولة وشركات، مع دول أفريقية للاستثمار فيها، كما يقترح الفيلم الهولندي أن العلاقتين تكملان وتعززان بعضهما البعض، وأن الصين، بتسهيلها عمل الأفارقة في أراضيها، نجحت في كسب ودهم، وفي الوقت نفسه تسهيل فتح أسواق دول أفريقية عديدة للبضائع الصينية، كما أن هذه الهجرات جعلت مهام الشركات الصينية المستثمرة في أفريقيا أقل تعقيداً، فلم تعد الصين دولة غريبة أو بعيدة جداً.
تمر الدقائق الأولى من الفيلم التسجيلي على نماذج لأفارقة يعملون في الصين اليوم، أحياناً من أمكنة عملهم، أو بيوتهم، إذ يبدو الفيلم مفتوناً بهذا التقارب الإثني غير الشائع، اي أفارقة بسحنات ولون بشرة مميز يعيشون بين آسيويين يختلفون كثيراً عنهم بملامحهم وأحجامهم. بعد ذلك سيحقق الفيلم أكثر في قصص مهاجريه، ليكشف معظمهم أن الهّم الاقتصادي هو الذي دفعهم للهجرة، وأن الكثير من هؤلاء المهاجرين، مرّ وعاش بدول عديدة، قبل أن يستقر في الصين، وهو استقرار مُؤقت على أي حال، إذ كشف بعض الذين تحدثوا في الفيلم، أن الفروقات بينهم وبين المُجتمع الصيني كبيرة، وأن هذا الأخير ليس دائماً رحيماً بهم أو مُتفهماً لاختلافاتهم.
يُحقق الفيلم التسجيلي باتجاهين، فهو إلى جانب تقديمه عالم العمال الأفارقة في الصين ودوافعهم للهجرة للبلد، يقوم بتحليل ومُحاسبة موقف الحكومات الأوروبية وكيف أنها في طريقها لخسارة أفريقيا للصين، بسبب تعاملها الحازم مع الهجرات من القارة السوداء إليها، بل إن أحد الذين تحدثوا في الفيلم (أستاذ من جنوب أفريقيا يدرس حالياً في جامعة أكسفورد البريطانية)،
![]() |
زعم إن الحكومات الأوربية ستضطر في المستقبل إلى “التوسل” بالأفارقة للعمل في أوربا بسبب حاجتها إليهم، خاصة مع ارتفاع مُعدل أعمار الأوربيين والذي يزيد بحوالي خمسة عشر عاماً عن ذلك للدول الأفريقية.وعلى نفس الاتجاه، يُحاول البرنامج أن يُقيّم سياسة الهجرة في أوربا، وكيف أن هذه السياسة بروتينها الطويل وشروطها القاسية، قد ساعدت على الهجرة غير الشرعية، وهو على النقيض من سياسة الهجرة المتبعة في الصين اليوم، اذ إن الأخيرة وبتسهيل السفر وأحياناً الإقامات الطويلة فيها، منحت الحرية للباحثين عن عمل أو مستقبل من السفر والعودة إلى بلدانهم دون تعقيدات، وهو الأمر الذي يثقل قلوب الباحثين عن عمل في أوربا، والذين يبذلون جهوداً كبيرة للوصول إلى القارة العجوز، وأحياناً يقتلون على أبوابها، وبطرق قاسية، وكما عرض الفيلم التسجيلي الهولندي، الذي صور جثثاً لشباب أفارقة ملقاة على صخور بحار أسبانيا وإيطاليا، والتي وصلوها جثثاً بعد غرقت مراكبهم غير الشرعية في الطريق.
“هو تحالف غير مسبوق لكن عواقبه ستكون كبيرة على العالم”، هكذا يصف خبير اقتصادي أفريقي العلاقة الجديدة بين الصين والقارة الأفريقية، الأولى بثرائها وما جنته من تقاليد في الصناعات الكبيرة والصغيرة، والقارة الأفريقية بما توفره من موارد طبيعية هائلة والبشر الموجودين فيها، والذين يبحثون عن فرص لتحسين ظروف حياتهم وحياة مجتمعاتهم. يوازن الفيلم بين الطبيعة العلمية البحثية وقصص شخصياته البسيطة، كما يجتهد صانعوه لنقل صور من مناخ “العولمة” الناشيء في الصين، والذي طالما سمعنا عنه، إلى الشاشة كشيء ملمُوس، فيقدم في هذا الاتجاه مشاهد لافتة، كتلك التي قدمها لأطفال ولدوا من زواج نيجيري من صينية، بملامحهم التي تجمع بين الإثنيتين، أو تلك التي تقدم أفريقيا ضخم البنيان يسير إلى جنب صيني نحيل شاب، في طريقهما لمطعم الأول، والذي رسمت على جدرانه صُور كبيرة لزرافات وأسود، وبألوان فاقعة، لتذكر صاحبه ببلده الحار البعيد والذي تركه منذ سنوات.