كاو لاك.. الفردوس المفقود
قيس قاسم

عشر سنوات، بالتمام، مضت على كارثة تسونامي في تايلاند وعن مآسيها أُنجزت الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، وأغلبيتها ركزت على ملاحقة قصص الضحايا وتصوير حجم الخسائر التي لحقت بالمكان ومسخته، فيما ظلت حكايات شخصية ليست قليلة مركونة بانتظار اللحظة التي يقرر أصحابها سردها وبالأشكال التي يرونها مناسبة لتوصيلها إلى العالم، وعند مشاهدة فيلم “كاو لاك” سيتأكد لنا أن المخرج والمصور السويدي ينس ليند هو واحد من هؤلاء الذين تريثوا طويلاً قبل أن يحكوا قصتهم مع تسونامي.
يشتغل ينس ليند على تحولات المكان بوصفها المحرك الديناميكي لكل القصص التي يقدمها في وثائقيه

وعلى أساسها يلاحق أيضاً مصير حيوات رصدها فيما مضى وعاد ثانية ليسأل عنها، وبالضرورة ما دامه قد قرر وضع نفسه بين تلك الشخصيات التي صورها أثناء زيارته الأولى لمدينة “كاو لاك” فإنه سيضفي على منجزه طابعاً شخصياً به سيعطي الفيلم دفقاً عاطفياً وحميمية. يسرد السويدي كما وردت في تسجيلات كاميرته الشخصية التي لم تفارقه حتى في عطلته السنوية التي جاء لتمضيتها مع عائلته في منطقة ساحلية صغيرة لم تكن معروفة حينها كوجهة سياحية، عن المخاطر المحتملة من زوال منطقة “كاو لاك” كفردوس أرضي إذا ما تدخلت شركات السياحة العالمية على الخط وبدأت بغزو المنطقة التي أسستها عائلة فيرويذر، كمنتجع سياحي بمواصفات طبيعية وبحس امتلاك غير طمّاع. أثناء وجوده هناك في ديسمبر من عام 2004 دفعه حسه المهني لإنجاز ريبورتاج تلفزيوني عن النزل السياحي الذي أقام مع عائلته فيه ويدعى “مايز كوايت زون”.
سيتضح من مقابلة أصحابه؛ رجل الأعمال الأمريكي دوغلاس فيرويذر وزوجته ماي التي سمي المكان باسمها على غرار “تاج محل” الهندي أن وراء المشروع قصة حب رومانسية حقيقية انتهت بزواجهما والإقامة في نفس المكان في تجربة مختلفة كثيراً عن تجارب زواج الغربيين الكثيرة وبخاصة كبار السن منهم بشابات تايلانديات. وجد ينس فيهما وفي مشروعهما قصة تصلح لنقلها تلفزيونياً ولهذا اشتغل طيلة وجوده على الموضوع مركزاً على المخاوف من تشويه فكرته التي جعلت من المكان جنة هادئة، العيش فيها يذكر بالحياة البدائية وقد التفت وأشار في تسجيلاته إلى الطريقة التي بُني بها المنتجع وتصميمه الذي وضعته الزوجة ماي، المزارعة في حقول الأرز، بنفسها وكيف أنها رفضت قلع شجرة معمرة صادف وجودها في نفس المكان الذي خططت له أن يكون مطعماً، وبدلاً من قلعها أصرت ماي على بقائها في وسطه. فكرة الحفاظ على الشجرة صارت الفكرة المركزية في ريبورتاجه الذي عنونه “الفردوس المفقود”. هل كان العنوان يُنبئ بمصير المكان كله؟

قبل ثلاثة أيام من عصف تسونامي انتهت عطلة ينس فرحل مع عائلته إلى أستراليا ليكمل ويسلم ريبورتاجه إلى الشركة التلفزيونية التي كلفته به. بعد الكارثة تزاحمت في رأسه أسئلة مدعاة للحيرة والقلق، مثل: ماذا لو بقينا في ذات المكان وحدثت الكارثة، ما الذي كان سيحصل لي لو فقدت أطفالي، وأي مصير سينتظر عائلتي لو طوتني الأمواج ولم أظهر على السطح ثانية. وهواجس أخرى عن الغير؛ ما هو مصير الناس الذين التقيتهم وأجريت مقابلات معهم وكيف هو شكل الساحل الآن؟ أسئلة ستعيده إلى “كاو لاك” عام 2005 ليصوِّر بنفسه مخلفات الكارثة من زاوية تجمع بين انطباعاته الشخصية وبين تجربة من عرفهم في زيارته الأولى. على التتابع الزمني، واختلافات طبيعة المشهد المكاني، سيشتغل ينس ويستجمع مادته الفلمية متخذاً لنفسه أسلوباً مذهلاً في التعبير عن التفاصيل الصغيرة للمكان وتشوهاته ولمآلات الناس الذين تعرّف عليهم.
وفي ذكاء لافت سيتجنب تبريز الجراح على السطح، والاكتفاء بدلاً عن ذلك برسم المشهد الجديد بكل إشكالياته وتبعاته ما استوجب البحث المضني عن الأشخاص وتفاصيل التحولات المكانية والتي لا يعرف مسح أسطحها وكشف المخفي خلفها إلا السينمائيين الوثائقيين المتمتعين بموهبة وحصانة فكرية. سيعود إلى “كاو بلاك” عام 2009 بصحبة الأمريكي دوغلاس الذي زاره في بيته في الولايات المتحدة وسمع منه قصة نجاته العجيبة وكيف رمته الأمواج العاتية على ساحل يبعد عدة كيلومترات من فندقهم، أما زوجته ماي فقد ماتت ولهذا قرر العودة إلى بيته الأمريكي القديم وحيداً معزولاً لاتفارقه ذكريات المكان الذي أحبه وأحب زوجته فيه.
لم يخرب تسونامي المناطق الساحلية التي وصل إليها فحسب بل غير من تركيبتها الجيوغرافية حين قلص المساحة الرملية للساحل عدة مترات ما يعني تقليص مساحة الحركة والاستثمار السياحي على طول الخط الساحلي الذي يزيد عن 20 كلم. كما أن الأمواج صارت تصل إلى أبعد مما كانت تصل إليه من قبل فأصبح البناء صعباً لأن المياه كانت وبين فترة وأخرى تغمر ما يُبنى وتهدمه. حركة السياحة قلّت منطقياً، بسبب الخوف فزادت هجرة العمال من المنطقة بحثاً عن مصادر رزق في مناطق أخرى من البلاد. كل هذه التغييرات سجلها الوثائقي السويدي ومضى أبعد من ذلك من خلال دوغلاس الذي وثق بدوره، عبر متابعته لمعرفة مصير أراضيه وأمواله التي تركها خلفه، ظهوراً قوياً للبنوك التي استغلت بجشع الكارثة لمصلحتها وقام عملاؤها بتشجيع الناس على بيع أراضيهم بأسعار زهيدة وبطرق ملتوية ودعاية منظمة تعتمد على التخويف من مجيء تسونامي جديد وإشاعة فكرة الكساد الدائم، كما يسجل انتشاراً للفساد في مؤسسات الدولة وازدياداً في مستوى الرشاوى بين أفراد الشرطة وتعاونها مع المافيات المحلية.

لقد حدث خراب روحي أشد وطأة من الخراب المادي وسيتجلى بطريقة غير مباشرة في العلاقة الجديدة بين الأمريكي دوغلاس وامرأة تايلندية تصغره بعقود، معيداً بزواجه منها نفس التجارب السابقة المبنية على استغلال مادي صرف لحاجات الطرفين دون اعتبار للعاطفة والتواصل الإنساني، على عكس تجربته الأولى التي كانت تطفح بالودّ والسعادة الحقيقية. على مستوى ثانٍ تبرز روح تضامنية بين غربيين زاروا الساحل من قبل وأرادوا للناس العاملين فيه الخير والاستمرار فساعدوهم مادياً لكن النتائج لم تكن مشجعة بسبب ظهور موجة بناء ضخمة في المنطقة المنكوبة حولتها من جنة هادئة وجعلتها منتجعاً للأثرياء لا يخرجون من فنادقها الضخمة ولا يعرفون ما الذي يخفيه الفردوس المحيط بها من جمال طبيعي نادر.
يذهب بعد تسجيله الحقائق الجديدة، برفقة موسيقى تعبيرية رائعة كتبها مجموعة من المؤلفين السويديين خصيصاً للفيلم، إلى جوانيات النماذج البشرية التي عرفها ويسجل في أواخر عام 2013 توجساً لديها من التغيير الجديد ومن احتمال ترك المكان ونسيانه إلى الأبد. فتجربة دوغلاس مع زوجته الثانية انتهت بالفشل كما كان متوقعاً، والنساء العاملات في المنطقة القديمة صرن يفكرن بتأمين رزقهن في الفنادق الجديدة مع كل ما يرافقه من شعور بالندم والخيبة، وعلى المستوى الشخصي اعتبر المخرج ينس ليند نفسه خاسراً أيضاً لأن الفردوس الذي أحبه وتوقع له أن يختفي قد اختفى بالفعل وما بقي من المكان لم يعد ينتمي إلى المكان ذاته، القديم الشديد الصلة بالناس والطبيعة. لقد ضاع فردوس “كاو لاك” ومعه أشياء جميلة لن تعود ثانية وهذا ما تحقق منه الوثائقي وقدّمه في نهاية عام 2014 كخاتمة لتجربة شخصية محزنة مع مكان شهد سعادات حقيقية وغمرته في لحظة خاطفة نكبات مريرة.