اكتشافات مثيرة من عالم “أورسون ويلز”
أمير العمري

في عام 1942 وفي إطار مقاومة النفوذ الألماني (النازي) المتصاعد في أمريكا اللاتينية، خطر للمليونير الشهير نيلسون روكفللر، الذي كان يملك من ضمن ما يملك، شركة آر كي أوه RKO للإنتاج السينمائي، أن يُنتج فيلما تسجيليا دعائيا يُظهر اهتمام الولايات المتحدة بأمريكا اللاتينية وما يحدث فيها، فكُلِّف أورسون ويلز بإخراج هذا الفيلم.
وكان المشروع يتضمن تصوير سلسلة من الحلقات المختلفة التي تدور كل منها في دولة من دول القارّة الجنوبية. وكانت الحلقة الأولى بعنوان “كله حقيقي” وكانت عن البرازيل، أما الثانية فكانت بعنوان “صديقي بونتيو”، وكانت عن المكسيك. وقد صور أورسون ويلز بالفعل الجزء الخاص عن البرازيل، إلا أنه خطر له أثناء التصوير الاستعانة بممثل برازيلي شهير فتعطل المشروع لبعض الوقت، ثم فقد ما صوره تماما. وقد قام ويلز بعد ذلك بتصوير حادثة حقيقية كانت قد نشرت تفاصيلها الصحف، عن قيام أربعة من الصيادين بقيادة قارب صيد بدائي، قطعوا بواسطته، مسافة 1650 ميلا لكي يقابلوا الرئيس البرازيلي ويُعبّروا له عن احتجاجهم على الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الشعب.
وقد استقبلهم البرازيليون على الشاطئ في موكب حافل. وقام ويلز بإعادة إحياء الحدث بالكامل، وصور الكثير من تفاصيله. وأثناء التصوير تعرّض القارب لصاعقة أودت بحياة أحد الصيادين، وإتلاف اللقطات التي تم تصويرها. واعتبرت الشركة أورسون ويلز مسؤولا عن الحادث، وقررت وقف العمل في الفيلم، غير أن ويلز- كعادته – لم يُلقِ بالا إلى قرار الشركة، واستمر في التصوير مع اثنين فقط من مساعديه. ولكن المادة التي صورها لم تُستخدم قط، ولم يتم عمل المونتاج لها. وفي عام 1980 أي بعد نحو أربعين عاما من التصوير، تم العثور على 13 ألف قدم من هذا الفيلم وتم عمل المونتاج له، وأصبح الفيلم جاهزا للعرض عام 1986.
بورتريه لجينا

وفي عام 1958 كانت النجمة الإيطالية الفاتنة جينا لولو بريجيدا في قمة شهرتها وتألقها. وقرر أورسون ويلز تصوير فيلم عنها لحساب محطة تليفزيون (سي بي إس) CBS. وبالفعل أجرى ويلز مقابلة طويلة مع جينا، ثم أخذ يتجول معها في أرجاء روما ثم في الريف الإيطالي، حيث امتدّ الحوار بينهما، لينتهي في الفيلا الفخمة التي كانت جينا لولو تمتلكها. ويتضمن الفيلم أيضا آراء وتعليقات شخصيات عرفت الممثلة الشهيرة عن قرب مثل المخرج فيتوريو دي سيكا والروائي ألبرتو مورافيا وغيرهما. وتعتبر تصريحات جينا لولو في هذا الفيلم من أكثر التصريحات التي أدلت بها جرأة وصراحة، فهي تقول على سبيل المثال: “ولكن ماذا أنا بعد هذا كله؟.. إنني مجرد ممثلة بائسة أعمل ضمن تجارة لعينة”
ويسألها ويلز عن ابنها وعما إذا كانت تريده أن يصبح ممثلا، فتقول بتلقائية شديدة بإنجليزية بسيطة تختلط بلكنتها الإيطالية: يمكنه أن يصبح أي شيء.. فيما عدا أن يصبح ممثلا!
ما حدث بعد ذلك أن نسي أورسون ويلز عُلب الفيلم في حجرته بفندق ريتز في باريس عام 1959، وعثرت الخادمة التي كانت تنظف غرفته على العلب، وظلت العلب، تنتقل من يد إلى أخرى، إلى أن استقرت فوق أرفف إحدى شركات الإنتاج السينمائي الفرنسية، ولم يهتم أحد في الشركة بالتحقق مما في العُلب سوى في منتصف الثمانينيات!
وفي عام 1986 عرض مهرجان فينسيا السينمائي فيلمي أورسون ويلز “كله حقيقي” و”بورتريه لجينا”، في افتتاح دورته الثالثة والأربعين، بحضور جينا لولو بريجيدا، التي فاجأت الجميع بالحضور حيث التفّ حولها المصورون والصحفيون في بهو فندق اكسيلسيور، وساروا معها في موكب حافل إلى قصر المهرجان وحتى “صالة جراندا” لحضور حفل الافتتاح وسط عاصفة من التصفيق من جانب الجمهور الإيطالي الذي ابتهج بعودة نجمته المحبوبة إلى الأضواء، ولو من خلال فيلم قصير لم يُكتشف سوى بعد 28 عاما من تصويره!
الجانب الآخر من الريح

وفي أكتوبر الماضي نشرت وكالات الأنباء والمجلات المتخصصة في الصناعة السينمائية، خبرا مثيرا يتعلق بالعثور على فيلم روائي كان المخرج الكبير الراحل أوروسون ويلز (صاحب “المواطن كين”)، قد قام بتصويره فيما بين عامي 1969 و 1976، وقام ببطولته الممثل والمخرج الكبير الراحل جون هيستون. والفيلم بعنوان “الجانب الآخر من الريح” The Other Side of the Wind ويشترك بالتمثيل فيه دينيس هوبر (وكان شابا وقتها)، أمام ليلى بالمر وجوزيف ماكبرايد وسوزان ستراسبورغ وبوب راندوم. ويدور الفيلم حول شخصية مخرج سينمائي يصارع ضد احتكارات هوليوود، وفي جانب كبير منه، يمكن اعتباره عن فيلم من داخل الفيلم.
وقد ترك ويلز وراءه نسخة أجرى لها المونتاج، يبلغ زمن عرضها 45 دقيقة، ولكن المثير أنه تم العثور مؤخرا في مخزن لإحدى شركات الأفلام في باريس، على نحو ألف بكرة من بكرات النيجاتيف من اللقطات التي صورها ويلز من هذا الفيلم، وقد أصبحت مُهمَلة أو بالأحرى، محظور استخدامها، بسبب نزاع طويل وشاق بين وريثة ويلز الوحيدة وهي ابنته بياتريس، وبين مساعدته ورفيقة دربه لسنوات طويلة، أوجا كودار، وبين شركة إنتاج فرنسية شارك في تأسيسها صهر شاه إيران الراحل.
وقد تم أخيرا حسم النزاع، والسيطرة على المادة المصورة، بفضل جهود المنتج فرانك مارشال (منتج الفيلم الشهير “إنديانا جونز”) وتقرر إسناد استكمال الفيلم إلى المخرج الأمريكي بيتر بوجدانوفيتش، الذي يظهر في دور صغير في الفيلم الأصلي الذي صوره ويلز.
وكان ويلز قد أوصى بأن يستكمل بوجدانوفيتش العمل في الفيلم في حالة وفاته. ومن الطرائف التي اكتُشفت أيضا أن ويلز صور الفيلم على وسائط فيلمية متعددة، من شرائط الـ 35 مم إلى الـ 8 مم، ومن استخدام الألوان إلى الأبيض والأسود، وكذلك كان يصور بعض اللقطات بالصور الفوتوغرافية أيضا. وكان يأمل أن يستخدم هذه الأساليب المختلفة لمحاكاة لقطات الفيديو التي يصورها طلاب السينما في ذلك الوقت وبعض المخرجين الشباب، وهؤلاء هم الذين أتوا بكاميراتهم للاحتفال بعيد الميلاد السبعين للمخرج الهوليوودي (داخل الفيلم) وهو مشهد رئيسي في فيلم ويلز.
إعادة اكتشاف فيلم ويلز الأخير، واستكمال العمل به ثم عرضه المقرر في 2015 سيكون – دون شك – أحد الأحداث الكبرى للعام الجديد. ولننتظر ونرى!