أطماع على مِلْكيَّة ديناصور !
قيس قاسم

خيبات وصراعات ومهازل قضائية جلبها معه الديناصور رقم 13 عندما ظهر من أعماق الأرض وواجه على سطحها بشراً وسلطات ربما بالنسبة إليه هي أكثر ضراوة من وحوش زمانه. على خلفية هذه الصورة المستوحاة من وقائع قصة العثور على الديناصور “سو” في جنوب داكوتا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1990 والمصير المحزن لبعض مكتشفيه يعيد تود دوغلاس ميلر سرد مجرياتها وتفاصيلها من منظور استقرائي يعرض من خلاله طبيعة المجتمع الأمريكي وآليات عمل المؤسسات القضائية في قضية ذات طابع خاص تتعلق بالمكتشفات التاريخية التي لا ينجم عنها في العادة تصادمات حادة بين البشر، ومع ذلك تحولت إلى قضية سجالية لأنها جَرّت علماء أبرياء إلى مواقع ما كان لهم أن يكونوا فيها وأخذت أبعاداً اجتماعية واقتصادية شديدة الصلة بالتشكيل الهيكلي للدولة والذي يجُرّ بالضرورة أي “موضوع” حتى لو كان على صلة بأعماق الماضي إلى حلبة صراع المصالح.
بمشهديات جمالية مأخوذة بكاميرا 35 ملم أو بالأجيال الرقمية الجديدة منها، كما هي أغلب الأفلام الأمريكية الوثائقية، صوّر تود ميللر الطبيعة البدائية لمنطقة داكوتا ليخلق بها مناخاً رحباً يقارب فيه بُعد المسافة بين الضوء الواصل إليها من الكواكب البراقة والنجوم اللامعة وبين تاريخ الديناصورات التي عاشت ربما في نفس الفترة التي انطلق الضوء منها ليصلنا بوهج ساحر جعل من المنطقة واحدة من المحميات الجغرافية الأكثر جمالاً وبالنسبة لعلماء المتحجرات الأثرية كنزاً لبحثهم عن الماضي في جوف جبالها ووديانها التي شجّعت بعضهم لتأسيس معهداً للدراسات الأثرية ومتحفاً بلدياً صغيراً يعرضون فيه ما يعثرون عليه في المنطقة الـ”برية”، التي سكنها الهنود الأصليون وإليهم يعود موروثها الثقافي. إلى جانب الصورة الرائعة يستعين ميللر بتسجيلات الفيديو الشخصية للمجموعة التي عثرت على “التيرانصور” المتحجر ليبني فوقها أرضية تصلح لنسج القصة بصرياً وأيضاً بترتيبها زمنياً على ضوء ما وقع منذ عام 1990 والسنوات الكئيبة التي تلته والتي جعلت من شخوصها أبطالاً لميلودراما واقعية بدأت سعيدة وانتهت حزينة.

بدأت الحكاية حين عثرت العالمة سوزان هندريكسون على “التيرانصور” وسمي اختصاراً باسمها الأول “سو”، في أرض تابعة للأخوين موريس وشاركي وليم، جنوب منطقة داكوتا التابعة لبلدية “هيل” الصغيرة، ولم يتوقع فريق العمل أن يكون الديناصور بالحالة الجيدة التي كان عليها ما جعل منه واحداً من أهم الاكتشافات العلمية الخاصة بهذا النوع، ومع بقاء أكثر من 80% من هيكله العظمي سالماً حصل على تميُز غمر مكتشفيه بفرح عارم وبسعادة لا يعرفها إلا عالم المتحجرات حين يتوصل إلى نتيجة لم يصل إليها أحد من قبل.
عن العلاقة النفسية الغامضة التي تجمع الإنسان بالديناصور كُلِّف المخرج والمنتج لوي بسيهويوس، صاحب الوثائقي الرائع “الكهف” الذي صوّر فيه المذابح التي يرتكبها الصيادون اليابانيون للحيتان، بالحديث. أضفى كلامه على الموضوع تشويقاً وأعطاه بُعداً فلسفياً يفسر الاهتمام غير العادي عند الناس بأخبار الديناصورات والتي يحيل جزءاً منها إلى قِدم وجودها وضخامتها مثل الديناصور “سو” الذي يعود تاريخه إلى 75 مليون سنة قبل الميلاد. ويقدم الوثائقي وبتعليقه صورة للعمل المضني والشاق الذي قام به فريق معهد “بلاك هيل” من أجل إكمال استخراجه من كهف داخل الجبل ونقله إلى المتحف بعد أن دفعوا لصاحب الأرض مقابله خمسة آلاف دولاراً ورفض وقتها بسرور التوقيع على العقد بحجة ارتياحه للصفقة ولأن الديناصور سيذهب في النهاية إلى متحف البلدية.
هكذا تمت الأمور وجرى كل شيء طبيعياً مع آمال كبيرة عند سكان المدينة بأن اكتشاف الديناصور سيضعها على خارطة المدن المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية وهكذا، أيضاً، فكّر وتحمس العالم ورئيس المعهد بير لارسون.
ثمة علاقة خاصة نشأت بين العالم بير والديناصور ستفضي فيما بعد إلى تغيير حياته وبالتحديد حين ستداهم وحدة مسلحة من الشرطة الفيدرالية “إف بي آي” المعهد وتصدر أمراً لموظيفها بنقل الهيكل العظمي للديناصور وكل ممتلكات المعهد إلى منطقة أخرى لأنهم حسب المذكرة التي رفعها المدعي العام قد خرقوا القانون الفيدرالي المتعلق بحقوق ملكية الأرض.
سيدخل الوثائقي ومنذ تلك اللحظة في دوامة الإجراءات القانوية والمماحكات الإعلامية والصراعات المالية على مدى ست سنوات يسجل فيها تطور القضية التي عرفت بـ “الديناصور 13” والتي امتدّت تداعياتها إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية وعلى خطها دخل علماء وسياسيون وجمهور كبير من الناس يطالبون السلطات الرسمية بإعادة “سو” إلى موطنها الأصلي.

سيكشف محامي العلماء تعمُّد صاحب الأرض رفضه التوقيع على العقد لأنه أراد ومنذ أن وقعت عيناه على الديناصور الاستحواذ عليه، ولهذا رفع شكوى ضدهم حال تأكده من وصوله سالماً إلى المعهد، فادعّى فوراً ملكيته له وأنه لم يقبض مالاً منهم ولم يوافق على نقل المتحجرة إلى خارج المكان!. على الجانب القانوني يكشف “الديناصور 13” الجهل الكبير لدى عدد من العاملين في المؤسسات القانونية الأمريكية ومن بينهم المدعّي العام الذي تولّى القضية وأصدر أمر المصادرة دون مسوغات قانونية كافية وتتعارض مع ما هو متوفر من أدلة من بينها وجود “شيك” بالمبلع المدفوع لصاحب الأرض وتسجيلات فيديو يعلن فيها موافقته على نقل الهيكل العظمي إلى المتحف! وسيتطور الوضع ويتحول في مراحل معينة إلى صراع شخصي بين بعض القضاة وبين الدفاع والمتهمين. صراع لا يليق بحيادية المؤسسة القضائية. وعلى المستوى الإعلامي سيتبيَّن حجم الشكلانية والخفة التي يتعامل بها الإعلام الأمريكي مع قضية تتعلق بنزاهة وسمعة علماء لم يرتكبوا جريمة بل كانت دوافعهم صادقة ومحض علمية في حين انصب اهتمامهم على السطح دون بحث في جوهر المشكلة وفضخ الأطراف المستفيدة من توريط علماء الآثار في جريمة يحاسب عليها القانون.
تجربة بير لارسون ستأخذ حيزاً أكبر، من وثائقي رائع حظيّ بقبول نقدي كبير بعد عرضه في الدورة الأخيرة لمهرجان ساندانس السينمائي وأيضاً بعد عروضه التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية والأوربية، لأنه كان الأكثر حباً لمنجز فريقه والأكثر تصعيداً لسقف مطالبه ومن بينها إرجاع الهيكل وإعادة كل ممتلكات المعهد. يلمح الوثائقي إلى نوع من التعاون بين المؤسسة السياسية والقضائية وأصحاب المال فيبدأ لتأكيد ذلك بالتحرّي عن مِلكية الأرض نفسها ليُظهر أنها تابعة في الأصل لقبائل هندية وبسبب علاقات المالك بالجهات الرسمية حصل على حق التصرُّف ببعضها دون أن تكون مشاعة له وهذا ما استغله طيلة سنوات وقدم نفسه كصاحب للأرض.

وحتى بعد كشف هذه الحقيقة ظلّت المحكمة تعامله كمالك لها وللديناصور الذي دُفن فيها قبل ما يقارب من سبعين مليون سنة. تلاعب وفساد على حساب علماء ومدينة ما انفكت تخرج في مظاهرات سلمية وتتابع بقلق مصير أناس منها أرادوا لها الخير لكن بعضهم انتهى قابعاً في السجون. تجربة بير لارسون في السجن تفضح مسخرة قضائية بعد أن حُكم عليه لمدة عامين، لا بتهمة التنقيب عن الديناصور ونقله إلى المعهد كما هو لب المشكلة وإنما لأنه وخلال سفراته التفاوضيه مع متاحف عالمية أرادت دعم مشروعه لم يقم بالإعلان لدائرة الجمارك في المطار عن حجم ما أخرجه معه من عملة أمريكية. سنتان قضاها في عمل مثمر فتح خلالها دورات خاصة للمساجين علمّهم فيها القليل من مباديء علم المتحجرات والآثار، وعبر ملاحقة تفاصيل سجنه يجسد تود ميللر المسخرة كاملة فيبدو القضاء ورجال الشرطة مثل دمى مسيرة بقوة مصالح رأس المال الذي سينتهي كل شيء عندها.
لقد جرى الاتفاق بين أحد المزادات المشهورة في نيويورك وبين صاحب الأرض وبموافقة الدولة على بيع الديناصور. ومرة أخرى يتسلل الوثائقي للجموع الحاضرة المزايدة ويدخل خلف الكواليس حيث تجري مقايضات بين الأثرياء ومسؤولي الولايات الكبيرة للحصول على الديناصور وجنيّ أرباح كبيرة من عرضه وهذا ما حصل بالفعل حين وقع المزاد على شركتي “والت ديزني” و”ماكدونالد” اللتان دفعتا أكثر من سبعة ملايين دولاراً أمريكياً إلى “المالك” ثم قامتا ببيعه إلى متحف شيكاغو الذي رحب بالصفقة واعتبرها رابحة منذ البداية.
المفارقة أن العلماء فرحوا بدورهم بهذه الصفقة لأن ديناصورهم المحبوب استقرّ أخيراً في متحف محترم ولن يبقى بعد الآن أسير المالك الجشع. أما المدينة الصغيرة فظلت حزينة مثل بير لارسون الذي عاد يبحث بعد خروجه من السجن عن ديناصورات جديدة تعوّضه عن خسارته للديناصور رقم 13 الذي جاء بالشؤم عليه.