لبنان.. من انقسام إلى انقسام

قيس قاسم

المخرجة كاتيا جرجورة

لفهم أفضل لمنجز المخرجة الكندية اللبنانية كاتيا جرجورة الأخير “لبنان من انقسام إلى انقسام” ومعرفة أسباب طغيان الأسلوب التلفزيوني “الصحفي” عليه كان لا بد من مراجعة سريعة لمسيرتها المهنية وأسلوب عملها الناجم عن تأثيرات دراستها للصحافة في جامعة كونكورديا وتختصصها بالدول العربية، ولعملها لسنوات كمراسلة لراديو كندا من لبنان، وكتاباتها عن المنطقة لصحف كندية. هذا الجانب “الصحافي” عندها له أثر واضح في شغلها السينمائي الذي يعتمد على المسح وتقديم المزيد من المعلومات للمتلقي دون تدخل مباشر منها، ويتجلى في؛ “نداء كربلاء” (2004)، “آخر معركة” (2006)، “وداعاً مبارك” (2011) وكلها لصيقة بالحرب وكأنها قد اختصت بهذا الجانب، حتى في أفلامها الروائية لم تبتعد عن هذا الهم السياسي وظهر في باكورة أعمالها “بالروح بالدم” عام 2009. على خلفية منجزها السينمائي وطبيعة فهمها للوثائقي يمكن قراءة “لبنان من انقسام إلى انقسام” الطامح بدوره لقراءة واقع لبنان بعد الحرب الأهلية السورية وتداعياتها عليه.

لا تخفي جرجورة تشاؤمها من مستقبل البلد، الذي كُتب عليه وفق ما يُدونه تاريخه الحديث وتعيد تقديمه في فيلمها، ومن احتمال دخوله حرباً أو صراعاً مسلحاً جديداً من الصعب تجنبه لكونه إفرازاً منطقياً لطبيعة التركيبة السياسية وتمظهراتها الطائفية المشجعة على الدوام لظهور تيارات من داخلها لا تجد حلاً لخلافاتها مع الآخر إلا بالسلاح، وهذا ما يفسر المشهد الأول من الوثائقي وتظهر فيه مجموعة من الطائفة الشيعية تُشيِّع قتيلاً لها بهتافات غاضبة مُحمّلة بدلالات من الموروث الشيعي ومخلوطة بهدير الرصاص المتعالي.
تُجري كاتيا مسحاً للتاريخ والسياسة من خلال توثيق ما خلّفته الحروب الأهلية من دمار على جسد العاصمة بيروت على مدى عقود. فبعض جروح بناياتها تعلن حتى اليوم أن حرباً أهلية قد جرت هنا قبل خمسة وعشرين عاماً وآثارها في نفوس اللبنانيين لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي مادام النظام السياسي للبلد قد تأسّس ومنذ البداية على أساس طائفي، كرسه اتفاق عام 1943 وصار مثل القدَّر؛ رئيس الجمهورية ماروني، رئيس الوزراء سني مسلم والبرلمان للمسلمين الشيعة. هذه التشكيلة السياسية العاكسة لحجم الطوائف الكبيرة ومصالحها ستكون على الدوام سبباً قوياً لنشوب حروب أهلية جديدة الغالب فيها يتحدّد وفق متغيرات سياسية داخلية وتأثيرات خارجية قوية، وما تُقدمه جرجورة في وثائقيها من شروحات وافية عن اللحظة الراهنة التي يسيطر فيها “حزب الله” عملياً على مقاليد السلطة السياسية في البلاد يعزز رؤيتها إلى القادم من الأيام.

قبل دخولها مدينة طرابلس التي ظهرت في فيلمها كـ”مختبر” حيوي لتفاعلات المشهد السياسي، راجعت بدايات الصراع السياسي المسلح الذي تشهده الجارة سوريا وكيف انعكس منذ بروزه عام 2011 على الأوضاع الداخلية اللبنانية وأدى تدخل “حزب الله” المباشر فيه إلى شدّ أوتار التحزب المذهبي بشدة باتت تُهدِّد السلم الأهلي الهش في البلاد. في طرابلس يتكثف الصراع بين المؤيدين لبشار الأسد ومعارضيه وينعكس بأشكال مختلفة على عموم لبنان الذي يشهد بدوره تصادماً بين مشاريع دول المنطقة، إيران والسعودية على الخصوص، واستثماراً من قبل المنظمات الاسلامية المتطرفة التي تريد الاقتراب من الحدود اللبنانية عبر تغذيتها مخاوف “السنة” من هيمنة “شيعية” وجرهم البلاد إلى أُتون حرب لا مصلحة لهم فيها. تستعيّن جرجورة في رسم المشهد السياسي في لبنان وبخاصة ما يجري في منطقتي جبل محسن وباب التبانة في الشمال بسياسيين وخبراء أمثال؛ رومان كاييه الباحث والمستشار في القضايا الإسلامية، ولقمان سليم الخبير السياسي وزياد ماجد أستاذ تاريخ الشرق الأوسط إلى جانب النائب عن تيار المستقبل أحمد فتفت وإمام السنة أحمد عسير والعلامة الشيعي الراحل هاني فحص إلى جانب مطران زحلة وعصام درويش ثم تقوم، على ضوء ما يقدمه هذا الحشد من مادة بحثية قيمة تعزز من مصداقية صورتها ومن موضوعية قراءتها ذات الطابع “الصحفي”، بالدخول التدريجي إلى عمق الأزمة التي تضع البلاد على مشارف حروب متوقعة. قوة حجج وتشبث كل طرف بمواقفه يقوّي نظرية احتمال ظهور صراع مسلح جديد في لبنان والذي يتخذ هذه المرة طابعاً إسلامياً لأن بقية القوى السياسية المسيحية قد توزعت على جبهاتها وتخندقت معها.

تسجل كاتيا ظهوراً واضحاً لرجال دين من الطائفة السنية يطالبون علناً بتسليح شبابهم “دفاعاً” عن النفس، وهو شعار سيستخدمه أيضاً غلاة “حزب الله” لتبرير تدخلهم في الجوار السوري. أهم ما يسجل لجرجورة في ملاحقتها لما يجري في طرابلس قدرتها على عرض درجة الاحتقان وارتفاع منسوب الكراهية بين الأطراف المتصارعة هناك، مع شدة حرصها على ربط السياسي بالاجتماعي وبخاصة تسجيل مستويات الشعور المتنامي عند السنة بتقليص حجمهم السياسي ومعاملة القوة المتنفذة على الأرض بقوة السلاح لهم كمواطنين من الدرجة الثانية ما يزيد باستمرار من إحساسهم بالمظلومية، والذي يعكس داخله تحولاً شديداً في الموقف من حزب الله الذي بدأ بخسارة شعبيته التي حصل عليها خلال حرب تموز 2006، وهذا ما سيدفعه للتعامل مع بقية الأطراف على أنهم خصوم يريدون الإيقاع به. عودتها إلى اجتياح الحزب لمدينة بيروت قبل سنوات يأتي في إطار رغبتها في رسم المشهد اللبناني الداخلي بعناية: “حزب الله” المدعوم من إيران يسيطر عملياً على مقاليد الحكم دون ادعاء ذلك والتشدُّد السني يتصاعد عبر دعم المعارضين للرئيس بشار والسماح لهم في الدخول إلى لبنان من بوابات كثيرة من بينها اللاجئين السوريين.

تعطي لوجود اللاجئين في المناطق الحدودية المتاخمة للبقاع قسطاً وافراً من فيلمها إيماناً منها بأهمية الإحاطة به كعامل جديد يُحفِّز على التوتر الداخلي لأن سكان المنطقة وأغلبيتهم من الشيعة يشعرون بأن وجود السوريين الهاربين بين ظهرانيهم يشكل خطراً عبر تسريبهم المسلحين المتشددين وهذا ما يفسر حرص صاحبة العمل على تناول ظاهرة السيارات المفخخة التي دخلت الى معاقل حزب الله وما رافقها من تغذية مخاوف القوى المسيحية والدولة من خطر الإسلام المتشدد والذي تبلور بشكل صارخ منذ سيطرة “داعش” على مساحات كبيرة في العراق وسوريا. لا تغفل جرجورة معاناة اللاجئين وبحصافتها الصحفية والسينمائية تسجل تفاعلات وجودهم بين اللبنانيين والمنافسة الحاصلة بين الطرفين على فرص العمل ناهيك عن المزاج العدائي والعنصري ضدهم والذي يؤطر بدوافع الخوف من القادم معهم.

على مستوى ثانٍ وفي طرابلس يستثمر المتشددون من وجود واقتراب “النصرة” و”داعش” لتشجيع شبابهم على رفع نبرة أصواتهم عالياً ضد “حزب الله” الذي يجد نفسه مضطراً للتعامل بشدة مع كل ما يُهدِّد وجوده ومكاسبه السياسية، ويزيد من اندفاعه الذي يخسر فيه كل يوم عشرات من مقاتليه إلى درجة يبدو فيها متورطاً في مستنقع جرّه الإيرانيون إليه وظّلوا بعيدين عنه. فتدخل “حزب الله” في سوريا، كما يظهر من خلال أحاديث المحللين، يشبه إلى حدٍ ما التدخل الأمريكي في فيتنام، ما يزيد من قلقه وعصبيته واللذان سيفضيان حسب قراءة الوثائقي إلى مأزق سياسي يجعل البلاد ومستقبلها مفتوحاً على كل الاحتمالات وأشدها شؤماً.. الحرب. عند هذه النقطة يقف الوثائقي متأمِّلاً حصيلة ما جمع وكلها تفضي إلى ذات النتيجة: لبنان منقسم دوماً ومقبل اليوم على انقسامات جديدة وربما صراعات وتمزقات عرضت أطرافها كاتيا جرجورة في عمل ثلثه الأول غلب عليه النفس الصحفي والزمن المتبقي منه وثائقي خالص يصلح للتلفزيون وهذا لا يقلل من أهميته بل يضعه في الإطار المناسب له. 
 


إعلان