قراءة في الوثائقي الإسباني “ساحل الموت”

رامي عبد الرازق

“ساحل الموت” هو التجربة الوثائقية الأولى للمخرج الإسباني الشاب “لويس باتينو” والذي يعتبر تجربة خاصة جدا ضمن مجموعة الأفلام الوثائقية التي شاركت في فعاليات أسبوع النقاد بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ 36، صحيح أنه لم يحقق أي جائزة من جوائز الأسبوع لكن منذ متى كانت الجوائز تمثل القيمة الحقيقية لأي منجز سينمائي أو فني.
لا شك أن ثمة عناصر كثيرة يمكن أن تجتذب مخرجا ما أو كاتبا أو حتى هاويا للقصص حين يصطدم وعيه للمرة الأولى باسم “ساحل الموت” خاصة عندما يبدو هذا الشاطئ مساحة براقة وملونة بذلت الطبيعة جهدا في صياغة تفاصيلها الرائعة ما بين الأرض والبحر.
على الأقل سوف يصبح هناك سعي وراء معرفة سر هذا الاسم الغريب والغامض والمقبض في ذات الوقت، سعي وراء الحكاية التي وسمت الشاطئ باسمه، فربما تستحق أن تروى أو توثّق في فيلم أو قصة.

لكن المخرج لويس باتينو يتجاوز تلك الحكاية سريعا، يقصها بشكل عابر في سياق فيلمه كي لا تشغل بال المتفرج ويتجه نحو أفق أكثر رحابة من مجرد الوهج التراثي للاسم أو حكايته، إنه يقف على هذا الشاطئ كي يتأمل الحياة عبر مزاج بصري لا يضع البشر في صدارتها بل كجزء من كلية الوجود والطبيعة، وليس كأفضل جزء فيها.
يعتمد الفيلم في بناءه البصري على الكادر الواسع الثابت الذي يشبه تكنيك الكارت بوستال لكن دون تلك النظرة السياحية، تكوينات جمالية تعيد للطبيعية الفضل في تشكيلها، لكنها في ذات الوقت مفعمة دوما بالحركة الداخلية التي لا تنتهي سواء كانت حركة الأشجار التي تقع على التلال المطلّة على الشاطئ أو حركة الأمواج الدائمة أو سريان الماء في مواسم المدّ والجزر، بالإضافة إلى حركة القوارب والبشر.
ثمة محاولة لصناعة تضاد بلاغي ما بين اسم الشاطئ المرتبط بالموت وتلك الروح الحية التي تنقلها لنا الحركة الداخلية المستمرة في الكادرات الثابتة التي يتكون منها بدن الفيلم بأكمله، إن جزءا من صفات الموت هو الثبات الكامل، وهو ما يستلهم منه المخرج على ما يبدو جانبا من تكنيكه في تثبيت الكادرات ولكنه في نفس الوقت يترك لنا مساحة أن نتأمل كم الحركة الباطنية التي تفور في داخل الكادر وكأنه يقول لنا بلسان حال صوفي (يُخرج الحي من الميت).

إن تلك الحركة الداخلية الواضحة هي واحدة من انعكاسات الفكرة التي تتجلّى بالتدريج عبر تتابع لقطات الفيلم، لقد أُطلق على هذا الشاطئ ذات يوم شاطئ الموت لأنه كان يحوي حطام عشرات السفن التي كانت تستدرجها أضواء المدينة فتتحطم على صخوره الصلبة ومن قبل ذلك كانت الأسطورة الشعبية تقول أن غابات هذا الشاطئ في الأزمنة العتيقة ظلت مشتعلة لسبع سنوات كاملة لا تنطفئ ولكن بعض جذور الأشجار نجحت في الاختبار أسفل الصخور الصلبة فحمتها من النيران وعندما انطفأت حرائق الغابات أخيرا عادت تلك الجذور للحياة مرة أخرى.
الحياة إذن هي محور هذا الفيلم وليس الموت أو مسبباته وعلى رأسهم البشر بالطبع.
يتعامل المخرج مع البشر كما ذكرنا على أنهم جزء من النسيج البصري والحياتي للطبيعة داخل الفيلم، لا يوجد وجوه تظهر في الفيلم، لا لقطات قريبة من أي نوع لكل الأشخاص الذين نسمعهم يتحدثون عن شاطئ الموت وحكاية الاسم وتصاريف البشر والطبيعة فيه، لا يمكن حتى أن نميز بدقة إن كانوا نفس الأشخاص الذين نسمعهم يتحدثون على البعد أم أنهم شخصيات مختلفة، ولا نعلم من هم على وجه التحديد فثمّة منحى تجريدي هائل في التعامل معهم على اعتبار فقط أنهم من سكان الشاطئ ليس أكثر.

في اللقطات الأولى من الفيلم والتي تضعنا أمام المنظومة البصرية التي سوف يعتمد عليها المخرج خلال سياقته السردية نرى غابات كثيفة يمارس البشر عملية قطع منظم لأشجارها، نرى حياة مفعمة باللون الأخضر والضباب السرمدي الساحر ولكن الموت يتجلى من فعل البشر الذين يقطعون أحذية الأشجار فتسقط واحدة تلو الأخرى.
وعلى مدى السرد الفيلمي نستشعر أن الطبيعة تمنح كل ما هو حي ودافئ وجمالي بينما يبدو دوما حديث البشر عن الموت وأفعالهم تدور حوله، مثل مشاهد تقطيع الأشجار وترحيلها على متن السفن الضخمة بواسطة الرافعات الحديدية ومشاهد صيد الثعالب الصغيرة التي تبدو مثل كمين عسكري محكم للتآمر على هذه الكائنات الفرائية التي تلوح لنا طيبتها وهي معلقة فوق خشبات صغيرة وعلى وجهها ما يبدو أنه علامات دهشة من فعل القتل الذي يمارسه البشر ضدها.
يضع المخرج شخصياته في عمق المجال البصري للكادر الثابت تاركا إياها تتحدث وتتحرك لتبدو ضآلتها واضحة مقارنة بالطبيعة المزهوة باتساعها من حولهم وروحها الماسية التي تتألق في حركة لا تنتهي، العنصر الوحيد الذي يمنحه المخرج لشخصيات فيلمه هو أن يسمح لصوتهم أن يبدو واضحا وسط الأصوات المحيطة القادمة من كل زاوية من زوايا المكان، نسمعهم بوضوح نسبي ولكن دون أن يكون لصوتهم الغلبة على شريط الصوت، إن المخرج لا يتلصّص عليهم بل يحاول أن يضعهم في حجمهم الطبيعي الذي يستحقونه وسط هذا الكم من الأرواح والتفاصيل الوجودية الهادرة بالسحر والتحقق.

وفي مقابل هذا الوجود البشري المحدود جدا والذي تبدو معه حتى المدينة مجرد شبح شفاف في خلفية التلال والشاطئ يتركز تعاطى المخرج مع الطبيعة على العناصر الأربعة الأساسية التي تتشكل منها أعمدة الوجود الماء والنار والهواء والتراب.
بالطبع فإن الغلبة للقطات التي تصور الماء خاصة أن الشاطئ يتسم بحالة صخرية تجعل من أشكال الموج وطبيعته حالة بصرية شعرية لا متناهية الدلالات بالإضافة والفيلم ككل يغلب عليه الماء كعنصر حياتي وبصري خاصة أننا نتحدث عن شاطئ بالأساس (مكانيا وسينمائيا).
وتكاد النار أن تكون المنافس الأساسي للماء أو العنصر الثاني في الحضور البصري والسينمائي والوجودي في الفيلم، وهو أحد ميزاته الدرامية الهامة وليس فقط الوثائقية فالمخرج بطريقة ما ربما كانت الاتصال المباشر مع دوائر الإطفاء أو الإقامة الكاملة بالقرب من الغابات التي تطلّ على الشاطئ استطاع أن يلتقط في مرات كثيرة حوادث اشتعال الحرائق في الغابات والتي تحدث عادة في فصل الصيف نتيجة الحرارة أو نتيجة المخيمات العشوائية التي يقوم بها بعض المصيفين في المنقطة مما يؤدي إلى أن تشتعل الأشجار، وفي هذا عودة لفكرة أن الإنسان هو صانع الموت في هذا الشاطئ كما سبق وأشرنا.

تحيلنا مشاهد الدلتا الصغيرة التي تتكون جراء المدّ والجزر الموسمي والتي يقدمها المخرج في لقطات متتالية أقرب للصور الفوتوغرافية المأخوذة من زاوية واحدة لنفس المكان في مواسم مختلفة للدلالة على أن الحياة تتجدد باستمرار وأن أشكالها المتغيرة تعنى أن طاقتها الروحية لا تفني بل تتبدّل فقط وكل ما علينا أن نراقبها في صمت وإجلال لندرك عظمة هذا الوجود وأننا لسنا سوى خلايا صغيرة في نسيجه الطلائي الواسع.
تحيلنا أيضا مشاهد الحرائق المشتعلة ليلا في الغابات والتصوير الليلي للنيران يمنح المخرج تكوينات ورؤى جمالية لا نهائية ويلقي بظلاله على فكرة أن النيران سببها الرئيسي هو المخيمات العشوائية، تحيلنا إلى وضعين أساسيين للبشر في الحياة: الأول هو مشعل النيران والثاني هو مطفئها، وهو ما نراه بوضوح وتجلّي في اللقطات التي تُشكِّل الفصل الأخير من الفيلم – وإن كان الفيلم أقرب لسينما الفصل الواحد التي لا ينطبق عليها التقسيم الدرامي أو البنائي التقليدي -.
حيث نتذكر ونحن نشاهد ألسنة اللهب تلك الإشارات التراثية التي وردت على لسان بعض الشخصيات في البداية حول النيران التي ظلّت مشتعلة في الغابات طوال سبع سنوات قبل أن تنطفئ، ولتبدو لقطة رجل الإطفاء الذي يحاول أن يخمدها أقرب لمحاولات الإنسان الأول السيطرة عليها أو إخمادها كي يبتعد شبح الموت عن المكان.
هذه اللقطات تحديدا هي الوحيدة تقريبا التي تنصف البشر نسبيا في الفيلم بعد أن رأينا حجم الضآلة والصغر التي يظهرون عليه وسط المشهد الكوني الواسع وهو ما ليس من شأنه التحقير ولكن التذكير بأننا جزء من كل.

أما عنصري التراب والهواء فيحتلّ كل منهم مساحة أقل من الماء والنار ولكنهم لا يغيبان عن اللقطات كثيرا بل عادة ما يجتمع الهواء والتراب والماء في أكثر من موضع خاصة في الكادرات التي تصور الدلتا الصغيرة التي يصنعا المدّ والجزر وفي لقطات التلال التي تطلّ على الماء حيث يوكل المخرج للرياح مهمة أن تجسد الحركة الداخلية لروح المكان في دورانها حول الشجر أو علاقتها بقوة الموج وزبده المتكون من شدة ارتطامه بالشاطئ في أيام الشتاء التي يتراكم فيها الهواء البارد.

نحن أمام فيلم صوفي النزعة والشكل على أكثر من مستوى، هناك بحث مستمر عن الروح فوق شاطئ لا يمت اسمه للحياة بصلة لكنه يختصرها في تفاصيله بكثافة وزخم وجودي كان يحتاج إلى عين سينمائي قادر على التقاط شفراتها المخبأة في داخله.
هذا فيلم يعيد للطبيعة قدسيتها المنتهكة ويضع البشر في حجمهم الأصلي وسط اللقطة الواسعة للكون الممتد، حيث السيادة للروح وحيث تدق الأجراس – كما نراها ونسمعها في لقطات متكررة- وكأننا في صلاة مستمرة منذ بدء الخليقة إلى منتهى الأبدية.
تقول المونتيرة روزاليندا ديلمر مونتيرة فيلم “الحرب الإسبانية” الذي كتبه همنجواي أننا لا نستطيع أن نرغم الواقع على الخضوع لأفكارنا والأفضل أن نُخضع المواد المصورَّة ونجعلها تتفاعل مع الخيال، وهذا هو تحديدا ما نجح المخرج لويس باتينو في ممارسته على المستوى السينمائي حيث تمكن عبر تتابع اللقطات وزمنها الطويل نسبيا وثباتها الحركي في ترك مساحة واسعة للتفاعل ما بينها وبين خيال المتلقي وقام بتطعيم هذه المساحة بتلك الحوارات القليلة التي تبدو وكأنها عابرة أو هامشية أو غير ذات قيمة والتي تتبادلها شخصيات فيلمه الشبحية التي لا نعرف عنها سوى أنهم بشر من سكان الشاطئ أو الحياة.
ساحل الموت فيلم يحتاج إلى مزاج تأملي في مشاهدته وإلى متفرج ذو نفَس شعري طويل قادر على تحمُّل إيقاعات الوجود الخفية التي تنتقل عبر الصورة إلى الوجدان دون وسيط.


إعلان