إلى الأبد: هل هذا ممكن؟
محمد هاشم عبد السلام

مع الاقتراب من منتصف فيلم “إلى الأبد”، نجدنا إزاء لقطة خلفية، كنا قد شاهدناها من قبل للبطل “كوستاس” (كوستاس فليبوجلو)، سائق المترو، وهو يقف في منتصف صالة الوصول مستقبلا الباب. لكننا، وعلى العكس من اللقطات السابقة بالفيلم، لا نجد بالباب أثرًا للبطلة “آنّا” (آنّا ماسكا) التي كان يتتبع خطواتها دائمًا بعد نزولها من عربة المترو وحتى خروجها من الباب الرئيسي. وقبل أن نُصاب بالارتباك تلحقنا مخرجة ومؤلفة الفيلم “مارجريتا ماندا”، بلقطة مُقربَّة لوجه البطل، فنجده وقد أغمض عينيه وأخذ يعدّ بصوت هامس، وإذ بنا نسمع على شريط الصوت وقع خطوات تعلو وتجلجل في فضاء المحطة المقفرة. ينفتح الكادر، فنشاهد آنّا وهي تسير بمحاذاة كوستا متجاوزة إياه في طريقها المعتاد وفي نفس التوقيت نحو البوابة الرئيسية.
والسؤال الهام الذي يطرحه هذا المشهد الشديد المحورية بالفيلم، والبديع في فكرته وتنفيذه، هل كان كوستاس سيقدم على متابعة آنا ثم ملاحقتها فمطاردتها كي يصارحها بحبه قبل ذلك اليوم أبدًا؟ أم كان سيلتزم الصمت إلى الأبد ولا يقدم قط على هذه المغامرة، ويكتفي برؤية محبوبته وتوصيلها كل يوم ذهابًا وإيابًا، والاطمئنان عليها من بعيد في غدوها ورواحها؟ أكان من الحتمي أن يمرض ويؤمر بالراحة كي يكسر روتين تتبعه اليومي ويُدفع دفعًا إلى الخروج من شرنقته؟ أم أن الوحدة وازدياد وطأتها عليه، وقد باتت ساعات الفراغ أكبر وأشد ثقلا من ذي قبل، هي الدافع الرئيسي؟

أسئلة أخرى كثيرة لا بد وأن تطرحها على نفسك أثناء وبعد مشاهدة فيلم “إلى الأبد”، الفائز بالهرم الفضي لمهرجان القاهرة السينمائي هذا العام 2014 بعد أول عرض عالمي له، منها تلك المتعلقة بالفترة العمرية التي يقع البطلان فيها في الحب، فكلاهما في مطلع أو في منتصف الخمسينيات. وأيضًا طبيعة ذلك الحب ومقارنته مثلا بحب لبطلين في نصف عمريهما. كذلك كيفية اقتراب كلا الطرفين، وخشيتهما منه في تلك المرحلة العمرية في مقابل الوحدة التامة المغلفّة لحياتهما. أيضًا، ذلك التردد وعدم الاقتناع في البداية من جانب آنا، التي تسخر بمرارة من أنه ليس ثمة ما يُدعى بالحب الأبدي أو معًا إلى الأبد، والتي هي على النقيض من كوستاس، الواثق تمامًا من حبه العميق لها، والذي يؤمن بأن الحب الأبدي جائز وممكن.
ثمّة أسطورة قديمة، قد تكون حقيقية بالفعل أو ربما هي مختلقة تمامًا من جانب المخرجة المؤلفة، لم نكن ندري عن كنهها أي شيء إلا عند اقتراب الفيلم من نهايته. فقط، كنا نشاهد كوستاس يمسك يوميًا، عقب عودته من العمل والانتهاء من التناول الروتيني للطعام، بميكروفون صغير ويشرع في تسجيل صوته على شريط الكاسيت. تلك الأسطورة نسمعها لأول مرة كاملة بصوته، عندما تهبط آنا الدرج ذات صباح مقتربة من باب بنايتها في حذر، خشية أن يكون كوستاس لا يزال ينتظرها أمام المنزل، دون أن يأبه بتهديدها له بطلب الشرطة لمطاردته لها كي تجلس وتصغي إليه، فإذ بها تجد آلة التجسيل فتستمع لها.

ذات مرة كانت هناك العديد من الأنهار بأثينا، كان الناس يعشقونها كل العشق، بل ويبجلونها كآلهة صغيرة. كانت تلك الأنهار الوعاء الناقل لعلاقاتهم وحبهم، الأوردة والشرايين الحاملة لدفقاتهم وصلة الوصل الرابطة بينهم وبين البحر بكل ما يحمله لهم من مدد وما يغسله ويطهره من علاقات أو ما يبتلعه من قصص. لكن، على مدى سنوات طويلة، جفت هذه الأنهار. حلّت محلها الدروب والطرقات السريعة، وبذلك صمتت مدينة الآلهة الصغيرة. وكانت النتيجة أن توقف الناس عن حب بعضهم البعض وغرقت المدينة في حزن مقيم.
بعد سماعها وسماعنا لتلك الأسطورة، تلين آنا وتسمح لمشاعرها بالانطلاق، لا سيما وقد لمست صدق وإصرار كوستاس، الذي كثيرًا ما وقف ينتظرها على امتداد يوم عملها دون أن يتزحزح من أمام كشك بيع تذاكر عبّارات السفن الذي تعمل به، ودون أن يكترث ببرودة الجو وقسوته واستدعائها لصديقها الشرطي الذي يعمل معها بالمكان. ومن ثم، نجدهما معًا لأول مرة وقد ضمهما كادر واحد وقد جلسا متقابلين في هدوء، بخلاف الكادرات السابقة التي كان يغلب عليها الحدة والمواجهة والضيق والمرور اللحظي العابر أو حتى الخوف. إذن، كان أول لقاء غرامي لهما على متن نفس ذلك الترام الذي يقوده كوستاس كل يوم والذي تستقله آنا منذ سنوات ولنفس المسافة والمحطات من منزلها إلى عملها، وليس في أي مكان آخر كمقهى أو حتى كرسي في حديقة. فقط، في وسيلة مواصلات.
بالطبع لم يكن اختيار مارجريتا لعمل كوستاس كسائق عربة مترو ووظيفة آنا كبائعة لتذاكر العبارات اختيارًا عشوائيًا. كذلك لم يكن اختيارها أو اختلاقها لتلك الأسطورة دافعه الصدفة. فصحيح أن أنهارًا كثيرة قد تكون جفت، بأي مدينة وليس فقط أثينا، وحلت محلها وسائل نقل جامدة لا تعبأ بمن تنقلهم ولأي مصير تحملهم، لكن ليس معنى هذا أن يستسلم البشر لذاك الموات، لذلك الروتين اليومي القاتل ولتلك المادية التي تسحق الإنسان وتسلمه لوحدة قاسية مميتة. وأنه دائمًا وسط كل ذلك العدم البادي في أي مدينة صاخبة، وبخاصة أثينا، التي اختارت المخرجة عن عمد أن تعزل بطليها تمامًا عن كل ما يحيط بهما ويمتّ للحياة بصلة بغية تعميق الشعور بالوحدة والحزن، ثمة دائمًا ما هو كامن تحت الركام، ينبض ويئن ويتألم ويستوحد ويتوق للحب والتواصل الإنساني.

ومن هذا المنطلق، وبالرغم من أن الفيلم يبدو للوهلة الأولى شديد الإغراق في الحزن والكآبة، وصحيح أنه نجح في أن ينقل لنا هذا على نحو بليغ وعميق وبوسائل عديدة منها بطء الإيقاع والتفتح المتمهل للحبكة وتطورها وكذلك أجواء الفيلم التي يغلب عليها الرمادي وحتى ملابس بطلي الفيلم التي لم تتغير أبدًا، إلا إننا في النهاية، ومع التفكيك الجمالي والفلسفي وكذلك للعلاقة الإنسانية بين البطلين، نجدنا إزاء فيلم رومانسي شديد العذوبة والعمق ليس مصنوعًا على الطريقة التقليدية المثيرة النفور والغارقة في كلاشيهات هذا النوع. والأهم من كل ذلك أنه يدعونا بقوة وصدق إلى الأمل، الأمل في الحياة التي تتسرّب من بين أيدينا، في الحب الذي قد يأتي بغتة وفي أي مرحلة عمرية، وفي إنسانيتنا التي بتنا نفقدها مع كل طلعة نهار في غمرة الانشغال اليومي بتأمين سبل العيش وكل ما هو مادي. إنه دعوة إذن إلى نفض التراب الذي تراكم عبر سنوات طبقة إثر أخرى فوق علاقاتنا الإنسانية دون أن نلمحه، ودعوة لئلا نخشى خوض غمار أي شيء بدافع كونه أبديًا أو غير أبدي.
لماذا تبدو أجواء اليونان، وبخاصة أثينا مغايرة في أفلامك، لاسيما السماء؟ كان هذا السؤال كثيرًا ما يوجه لأحد عمالقة الإخراج، اليوناني الراحل ثيو أنجلوبولوس. والمُطلّعون على أعمال أنجلوبولوس، وكل ما هو أنجلوبولوسي الأجواء، سيجدون أنفسهم بعد فترة من الاستغراق في الفيلم، إزاء عقد مقارنة بسيطة إلى حد ما لكن لا تخطئها العين بين أجواء فيلم “إلى الأبد” وأجواء الكثير من أفلامه، وكذلك أيضًا تيمة موسيقية بعينها تكررت غير مرة أثناء الفيلم واستخدمها المخرج الراحل. والجميل أن تلك المقارنة تؤكدها المخرجة مع تترات النهاية إذ، لأنها متمكنة قبل كل شيء ولا تخشى شيئًا، تهدي فيلمها هذا للمعلم الراحل ثيو أنجلوبولوس في لفتة عظيمة من مخرجة كبيرة، في ثاني تجربة إخراجية لها بعد فيلمها الروائي الأول “تراب الذهب”.