“حاضنة الشمس”.. وميلاد ثورة

أمير العمري

المخرج عمار البيك

قبل بدء فيلم “حاضنة الشمس” للمخرج السوري عمارالبيك، تظهر لافتة على الشاشة، تقول كلماتها إن هذا الفيلم ينتمي إلى مجموعة من الشباب الذين “سيصورون أفلامهم بإنفاق قرشهم الأخير عليها، من دون أن يسمحوا للروتينيات المادية للمهنة بأن تصادرهم”.  وهكذا يحدد لنا البيك أن فيلمه صوِّر بإمكانياته الذاتية، وباستخدام أفراد أسرته الصغيرة بديلا عن الممثلين: زوجته وابنته الطفلة الرضيعة حديثة الولادة، وهو نفسه. وعبر مراحل عدة، أنجز البيك فيلمه منطلقا في البداية، من رغبته في توجيه التحية لشباب الثورة المصرية الذين أدهشوا العالم بصلابتهم في ميدان التحرير في قلب القاهرة خلال ثمانية عشر يوما، ثم الربط بين الثورة المصرية، والثورة التي كانت وقتها، في بداياتها الجنينية في سورية، ثم استخدام لقطات تُصوِّر ولادة طفلته الرضيعة “شمس”، كمعادل رمزي لفكرة “الولادة”.
والحقيقة أن الموضوع الرئيسي الذي يرمز إليه الفيلم بأسره هو موضوع الولادة، ولادة الثورة، ولادة فكرة التمرُّد والغضب، ولادة الطفلة كرمز للقادم المشرق، للشمس التي ستخترق السحب التي نراها في اللقطة الأخيرة من الفيلم، كثيفة توحي بأن شيئا ما غامضا يختفي خلفها، لكن الفيلم ينتهي باللقطة التي نرى فيها الطفلة شمس داخل الحضّانة التي يوضع فيها الأطفال الذين لم يكتمل نموهم بعد، وكأنه يقول إنها ستكون رمزا للبداية البسيطة غير الواضحة، غير المكتملة إلى أن تتمكن من محو الغيوم، وحينها لابد أن تنتصر للثورة.

يتكون الفيلم من مشاهد محدودة. ويبدأ في اللقطة الأولى بعد نزول العناوين، بداية تمهيدية رمزية أيضا، فنحن نرى يدين تغتسلان بالماء من صنبور الحوض في الحمام، لشاب هو المخرج نفسه، وهو يغسل يديه المصطبغتين بالأحمر القاني، بلون الدم، وقد يتسلل إلينا الانطباع بأنه الدم، لكننا بعد قليل سندرك أن اللون ما هو إلا الصبغة الحمراء التي كُتبت بها لوحة تحمل ثلاث كلمات فقط هي “إرحل… الحرية لمصر”.
مشهد غسل الأيدي يمهد لما سيقع من تضحيات بالدماء لاحقا، في خضم الانتفاضة الثورية الأولى في سورية. ونحن نشاهد اللقطة وما بعدها على خلفية شريط الصوت الذي تتردد عليه هتافات الشباب المصري في ميدان التحرير والتي تنادي برحيل الرئيس الأسبق حسني مبارك عن السلطة. وتستمر الهتافات بينما تقوم الأم بتنظيف الطفلة في الجانب الأيمن من الشاشة، ونرى على الجانب الأيسر، جهاز التليفزيون ونشاهد على شاشته لقطات حية من القاهرة لشباب التحرير. اللقطات طويلة، وثابتة، والكاميرا تتخذ لها مسافة من المنظور   object أي جهاز التليفزيون، فنحن لا نشاهد لقطات مظاهرات التحرير أو حتى لقطات أول شهيد في الثورة السورية – وهو الطفل حمزة الخطيب – التي نراها بعد ذلك عبر شاشة التليفزيون أيضا، فالأسلوب الذي يتبعه الفيلم، أسلوب يوحي بالتأمل، بالرغبة في الفهم، بالدهشة، بالصدمة، بالتفكير العقلاني وليس بالانفعال العاطفي، ولذلك فاللقطات تظهر من على مسافة ما تتيح التأمل.

لقطة من الفيلم

عندما يبث التليفزيون لقطات لحمزة الخطيب الذي أطلق عليه عسكر النظام السوري الرصاص في بطنه وصدره، يركز المخرج أكثر على تصوير رد فعله مع زوجته، وهما جالسان أمام التليفزيون يتناولان الطعام، لكنهما لم يستطيعا الاستمرار في الأكل، تصيبهما غصة، فيحدقان في صدمة إلى الصور، ويستمعان إلى صوت الناشط السياسي وهو يشرح كيف تم تعذيب الصبي بطريقة وحشية بل وكيف قطعوا عضوه الذكري قبل أن يطلقوا الرصاص عليه من مسافة قريبة!
تستمر الهتافات في التحرير في الجزء الأول من الفيلم، حتى ونحن نرى شاشة التليفزيون سوداء أي بعد إغلاق الجهاز، بينما الزوجة تعلق اللوحة الحمراء على مقبض الباب قبل أن تغادر البيت للانضمام إلى المسيرة الشعبية التي ستنطلق في دمشق تأييدا للثورة المصرية، وبعد أن يكون عمار البيك، المخرج، الذي يظهر حاملا طفلته، قد غادر المنزل بالفعل، ولاشك أن المخرج يقدم صورته كشاب سوري لا ينبغي للمشاهد المحايد أن يعرف من هو تحديدا وعلاقته بالفيلم، والمعنى المقصود أن الهتافات أصبحت جزءا من الحالة النفسية للعائلة، ولم يعد يهم ظهور الصور من عدمه، فهي مستمرة في الذهن والذاكرة والوعي.

الكاميرا ثابتة في معظم اللقطات، لا تتحرك إلا في المشهد الأخير، الذي يعود فيه المخرج إلى اللقطات التي تسجل ولادة ابنته “شمس”، هنا تتخذ الكاميرا زوايا متنوعة، وتتحرك حركات سريعة، فهذه لحظات الميلاد، بكل ما تحمله من زخم، ومن حيوية وتوتر وقلق وارتباك.
ولعل من الملفت للنظر أن عمار البيك يطلق على فيلمه “حاضنة الشمس” وليس “حاضنة شمس” فالطفلة هنا ترمز الى ما هو أكبر منها، أي إلى عالم جديد ستشرق شمسه مهما بلغت التضحيات.
يهدي البيك فيلمه إلى الشهداء الثلاثة الأوائل: محمد البوعزيزي في الثورة التونسية، وخالد سعيد في الثورة المصرية، وحمزة الخطيب في الثورة السورية. والفيلم يبدأ بالمطر وينتهي بالغيوم، وتتوقف الصورة على تلك الغيوم الكثيفة التي تحجب المستقبل. وينتهي الفيلم بعد 11 دقيقة يلخص فيها المخرج إحساسه ويعكس رؤيته الأولية ويحاول التفاعل مع الأحداث التي هزت مشاعره، في مصر وسورية، من دون كلام ولا صراخ وانفعالات أو حتى مشاهد مباشرة للعنف، فقد كان اهتمامه منصبا على التأمل ورصد رد الفعل، فالزوجة – الأم تغادر لتنضم إلى زوجها وابنتها في المسيرة التي نعلم – من خارج الفيلم – كيف تم قمعها على أيدي قوات النظام، وهو القمع الذي لم ينجح في وقف الثورة بل زادها اشتعالا.

جدير بالذكر أن الفيلم أُنجز في البداية بعد أربعة أشهر فقط من الثورة المصرية في يناير 2011، ثم استكمله المخرج مع اندلاع المظاهرة الأولى في درعا التي سقط فيها الشهيد حمزة الخطيب، وما تلاها. وقد عُرض الفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي 2011 وحقق صدى جيدا. وقد انتهى عمار البيك أخيرا من إنجاز فيلم جديد بعنوان “نور” سيعرض في الدورة القادمة من مهرجان برلين السينمائي التي ستفتتح في الخامس من فبراير- شباط القادم. 
 


إعلان