“لامبيدوسا في الشتاء”
محمد موسى

يُفتتح الفيلم التسجيلي “لامبيدوسا في الشتاء” للمخرج النمساوي “جاكوب بروسمان” بشاشة سوداء كأنها في حداد، تستمر لبضعة دقائق، فيما كان شريط الصوت في الخلفية، ينقل مكالمة هاتفية حقيقية بين سوري تائه في البحر القريب من السواحل الإيطالية، ومتطوعة سورية من العاملات في واحدة من المنظمات الدولية المُتشكِّلة حديثاً، والتي تساعد اللاجئين الذين يقطعون البحار كل يوم في طريقهم لأوروبا. بصوت ضعيف يخبر السوري مواطنته، أنه ورفاقه يخشون على سلامتهم بعد أن صعدت مياه البحر إلى القارب القديم وغطّت أقدامهم. ترد المتطوعة بخوف وقلق حقيقين، بأن عليه أن يرسل، وعن طريق الهاتف الفضائي الذي يحمله، الإحداثيات الجغرافية، ليتسنى لها طلب النجدة من السلطات الإيطالية. لن نعرف ماذا حصل لركاب ذلك القارب، فالمشهد اللاحق في الفيلم سيكون من على سفينة خفر السواحل الإيطالي. لكن البحر الواسع الذي حجبت غيوم الشتاء الشمس عنه، بدا فارغا وساكنا، ولا أثر لقارب المهاجرين على إمتداده الفسيح، والقلق كان واضحاً على الإيطاليين.
بعد البداية الصادمة تلك، يأخذ الفيلم منحى غير متوقع، فهو وإن لم يُهمِل موضوع اللاجئين، إلا أن اللاجئين سيشكلّون محوراً من محاور الفيلم العديدة ولن يكون الوحيد، وسيعود إليهم هذا الأخير مراراً، كجزء من تركبيته التي توخّت عرض الحياة اليومية في جزيرة لامبيدوسا الإيطالية الصغيرة، التي تقع على طريق المهاجرين واللاجئين من شرق أفريقيا إلى أوروبا. يسعى الفيلم أن ينقل مناخات من الجزيرة الصغيرة، خلال أيام معدودة من شتاء عام 2013. وكيف يتعايش سكان الجزيرة مع الضيوف الذين يصلون بدون موعد، كجثث أحياناً، في قوارب غرقت أمام أعينهم، كما وصفت إحدى ساكنات الجزيرة، أو أحياء، تجد الجزيرة نفسها، عاجزة عن التعامل الفوري مع احتياجاتهم.
يبدو الفيلم مأخوذاً بالحياة اليومية لجزيرة صغيرة ، تقع اليوم على طريق هجرة غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن الحياة اليومية في الجزيرة لن تكون أسيرة لقضية المهاجرين غير الشرعيين، إلا أن اللاجئين سيبقون في الخلفية، ويخيم سواد حياتهم بشكل أو بآخر على مناخ الفيلم، كما سيطبع وجودهم القلق نظرتنا لما يحدث في الجزيرة من أحداث عادية. فاللاجئون دفعوا سكان الجزيرة إلى التفكير والتصرف على درجة عالية من النُبل، يجعل من الممكن تصور المخاطرة التي يقطعها كُثر للوصول إلى القارة الأوروبية.

وإذا كانت الجزيرة تبدو من بعيد وادعة وساحرة، إلا أن هناك الكثير من الأحداث على أرضها الصغيرة. فهناك عدم رضا عن سياسة إدارة الجزيرة مع صيادّيها، ومشكلة مع السفينة الجديدة التي تنقل المؤن إليها، بعد أن احترقت السفينة السابقة. يمرّ الفيلم على هذه الموضوعات، بعين مراقبة، حنونة في الغالب. الفيلم يبحث عن إيقاع ما للحياة هناك، فيؤلف زمنه من مشاهد راقب فيها شخصيات ومواقع معينة وقدّمها ضمن سرد بطيء، يتماهى مع الأيام الشتوية التي صُوِّر أثنائها، وكيف أن الجزيرة مثل غيرها من جزر البحر المتوسط، تحتفل بالصيف والسواح من زوارها وتتململ وتُراجع حساباتها في الشتاء.
في القسم الخاص باللاجئين، يرافق الفيلم محاولات فنانين ومصورين إيطالين، توثيق المُخلّفات التي يتركها المهاجرين على قواربهم، التي يصل بعضها شبه محطم إلى الجزيرة الإيطالية. تكتنز تلك المشاهد على أهمية عاطفية،خاصة تلك التي ترافق الإيطالي الشاب وهو يفتح بحرص شديد رسالة كتبت باللغة العربية وتُركت بين أكوام الملابس في القارب المحطم. ييدو ما يفعله الرجل كمن يعيد الكرامة لبشر، سُحِقت حياتهم في بلدانهم الأصلية. هناك مجموعة من الإيطالين العاديين أخذت على عاتقها تجميع ممتلكات كانت عزيزة على أصحابها، والاحتفاظ بها، دون أن يعرفوا ماذا يمكنهم أن يفعلوا بها في المستقبل. في الفيلم أيضاً، سيدة من الجزيرة، بدت وكأنها تحمل ثقل ضمير العالم كله، فتطوعت لمساعدة اللاجئين، بعد أن هزّها غرق باخرة كانت تحمل المئات منهم قرب الجزيرة، ودفنت بعض جثث الغرقى المجهولي الهوية وقتها في مقبرة الجزيرة الصغيرة، كتذكار دائم على المأساة المتواصلة.
يصف صياد إيطالي كان يتحدث لمحطة تلفزيون محلية وصوّره الفيلم التسجيلي بالصدفة، كيف أنه وخلال العشرين عاما الأخيرة من عمر أزمة اللاجئين، شاهد كل ما يمكن أن يشاهده الإنسان من فواجع. وأنه شخصيا أنقذ بضعة مهاجرين عندما كان يقوم بعمله. بدا كل من يعيش في الجزيرة الصغيرة متأثرا بشكل ما بما يحصل في العالم البعيد. حتى الكنيسة الصغيرة، وضعت تمثالاً للسيد المسيح على متن قارب في البحر، ومن حوله يسبح رجال بملامح عربية وأفريقية. وعلى عكس الصور الإعلامية الشائعة حالياً عن قلق أوروبي من الهجرة الكبيرة المتواصلة، يقدم الفيلم سكان جزيرة متفهمون إلى درجة الحكمة أحياناً هذه الأزمة المعقدة، رغم أنهم يعيشون في خط المواجهة الأول مع أزمة اللاجئين.
الفيلم الذي بدأ بمكالمة هاتفية قلقة من مجاهل البحر، ينتهي بمكالمة أخرى، بين شاب سوري، والفتاة السورية نفسها التي سمعنا صوتها في مقدمة الفيلم. ينقل الشاب على الهاتف أنه ومجموعته لم يأكلوا منذ ثلاثة أيام، وهم أيضاً تائهون في البحر. وإذا كنا لا نعرف ما آل إليه ركاب قارب بداية الفيلم، فإن هذا الأخير عرض في المقابل عمليات إنقاذ القارب الثاني، لتناسب هذه النهاية السعيدة، روح الفيلم، والذي قدّم بشراً واعون، يشعرون أن ما يحدث اليوم تاريخي ومأساوي على حد سواء، وأن من المهم بمكان الإرتفاع عن الوطنيات الضيقة والخوف الغريزي من الغريب، وفتح القلوب لضيوف أوروبا، الهاربون من أوطانهم.