قنبلة “فالتشاني” المالية
قيس قاسم

لم يحسِب بعض أصحاب الشركات العملاقة وعدد من مشاهير الفنانين ولاعبي كرة قدم وبارونات مخدرات وغيرهم من الأثرياء أن يأتي اليوم الذي ستنكشّف فيه حساباتهم البنكية السريّة المخبأة في البنوك السويسريةـ وغير المصرّح عنها رسمياً، أمام أعين دوائر تحصيل الضرائب في بلدانهم.
ولم يكن العالم بدوره منتظراً خروج موظف سابق في بنك “HSBC” السويسري، يدعى “إيرفي فالتشاني”، إلى العلن ليُفجّر فضيحة مالية ستوصف لاحقاً بأنها الأكبر في تاريخ البنوك العالمية.
أما على المستوى السينمائي فجاء عمل المخرج “بِن لويس” Falciani’s Tax Bomb باهراً لرغبته الحقيقية في الغور عميقاً في كشف أبعادها الأخلاقية ومدلولاتها القيّمية وفي قدرته على تأطيرها بأسلوب وثائقي مشوِّق يجمع بين روح المغامرة السينمائية والرغبة في المكاشفة الواعية.
في مثل هذه القصص يُترك عادة لساردها حرية الحديث لأنه ومن خلاله يمكن بناء جزء من معمار الوثائقي، وفي حالات معينة يكون منطلقاً لتجميع مواد أساسية أخرى مستوحاة منه كما لاحظنا في هذا العمل الذي أُريد له أن يزاوج بين الفنية والغنى المعلوماتي، فراح يكتب مساراً للأحداث بلغة بصرية جميلة، ديناميكية أبعدت الملل عن المشاهد مع كثرة ما ورد فيها من أرقام، كما تُركت فيه مساحة غير قليلة لشهادات وإسهامات من معنيين بالقضية وعلى أكثر من مستوى ومسار.
يسرد “فالتشاني” تجربته على مراحل بلغة هادئة تبدو كما لو أنه يحادث مُشاهده في جلسة صادقة. ينطلق في حديثه أولاً من اللحظة التي قرر فيها ترك العمل في بنك “HSBC” وتحميل كل المعلومات الخاصة بالحسابات السرية للأشخاص.
لم يُثر عمله الشكوك لأنه كان قد تولّى ومنذ عام 2006 مسؤولية تسجيلها بنفسه بوصفه موظفاً مسؤولاً عن قسم “تسجيل الزبائن”. قام بنسخ حسابات ما يقارب من مئة ألف شخص أجنبي خلال عامين كاملين في حاسوبه الشخصي وقرر تسليمها إلى الجهات الرسمية ودوائر الضرائب في أكثر من دولة في العالم، بعد أن شعر بدناءة أصحابها وتعارض سلوكهم مع القيم التي يؤمن بها وكونها تُرسِّخ لا عدالة صارخة، لأن دوائر تحصيل الضرائب في أغلبية الدول الغربية تستقطع ضرائب الدخل من العمال والموظفين مباشرة. فهؤلاء العمال لا يستلمون سوى رواتبهم الصافية نهاية كل شهر وهؤلاء هم “دافعو الضرائب” الحقيقيون، في الوقت الذي يتهرب الأثرياء فيه من تسديد استحقاقاتهم المجتمعية عبر عمليات تلاعب ضريبي تسهم البنوك العالمية الكبيرة في تسهيلها والتستُّر عليها من أجل ضمان تشغيلها والاستفادة منها.

ينقل الوثائقي الألماني حالة الرعب التي سيطرت على أصحاب البنك العملاق وعملائه السريين بعد توارد أخبار التسريبات إليهم. وعلى الخط يدخل مباشرة وزير المالية السويسري الذي يصف حالة الهلع التي أصابت جنيف باعتبارها واحدة من أكبر المراكز المالية في العالم وأشدها تحسّساً من التسريبات البنكية بوصفها نوعاً جديداً من “الحروب” لم تألفه من قبل ولهذا طلبت تدخله مباشرة للحد من انتشار “القضية” ولملمتها.
يراجع الوثائقي مع “فالتشاني” خطوته أو حربه التي لم يخشَ خوضها مع إحساسه بخطورة ما هو مقدم عليه ومعرفته المسبقة بالتحالفات القوية المضادة لفعلته، فيقدم وصفاً لآليات نقل الأموال “المهربة” إلى البنوك السويسرية، تم تنفيذها سينمائياً بطريقة مدهشة، توضيحية مدعومة بشهادات خبراء اقتصاديين كانوا على دراية بأساليب “التسجيل السري”.
واحدة من المبادىء التي تعكّز عليها بنك “HSBC” وغيره من البنوك؛ “السرية الخصوصية” أي اعتبار الحسابات البنكية أسراراً شخصية لا يحق لأحد الاطلّاع عليها وبالتالي قطعوا الطريق على الجهات القانونية للمطالبة بكشف حسابات أشخاص مشكوك بهم، في نفس الوقت أدّت إلى تشييد “جنات ضريبية” يمكن نقل الأموال إليها وإيداعها دون دفع ضريبة دخل عليها. واتِّفقوا مع الزبائن على آليات خارجة عن السياق البنكي التقليدي يمكن للزبون “الغني” عبرها وبواسطة شفرات خاصة متفق عليها معه، نقل أموال جديدة وتبييض أخرى مودعة لدى البنك دون خوف من كشف الجهات القانونية لهذا، ولولا تسريبات “فالتشاني” لظلت العملية مستمرة يصعب رصدها بالوقائع والأدلة الدامغة.
يُشرك الوثائقي طرفي المعادلة: المتهربِّين من الضرائب ومُبيضي الأموال غير الشرعية وشخصيات تمثل المؤسسات القانونية والاقتصادية الحكومية ليُظهر من خلال تعارض رؤيتيهما لطبيعة المشكلة التي أثارها المُسرب.
من بين من أقنعهم الوثائقي بتقديم شهادته، دون الكشف عن هويته، فرنسي نقل كل أمواله الموروثه من والديه والمودعة في بنك أمريكي دون علم الجهات المالية لبلده تهرباً من ضريبة “الدخل على الأملاك” إلى البنك السويسري، وبعد سماعه بالخبر شعر بالخوف من كشف أمره.
في الطرف المقابل تحدث وزير مالية ألماني سابق عن أساليب التهريب البنكية وعمليات النقل غير الشرعية التي كانت تنتهي دوماً في جوف خزائن البنوك السويسرية فيصعب كشفها بسبب السرية والممانعة الشديدة التي تتبعها البنوك مع أي طلب يريد منهم كشف حسابات مشكوك في نزاهتها. من الجدل بينهما تظهر علائق شديدة التماسك بين المصالح البنكية/ المالية وبين سياسيين في الدول الرأسمالية. تحالف يعبر عن مصلحة الأغنياء ويفسر في نفس الوقت عجز “فالتشيني”، في بداية الأمر، عن إقناع جهات حكومية متعددة للاستفادة مما يملكه من كنوز معلومات داخل حاسوبه الشخصي.

بحضور موظفة في بنك “HSBC” من أصل لبناني يضفي الوثائقي مصداقية أكبر على متنه الحكائي لكونها ارتبطت بالمُسرِب عاطفياً وسوية أسسّا شركة لاستخراج البيانات الحسابية وتوفيرها للراغبين بشرائها والاستفادة منها. أقنعها بفكرته وسوية ذهبا إلى بيروت وعرضا على أحد بنوكها جزءاً من القائمة المسربّة. لقد أصيبت صاحبة البنك بالذهول لحجم المعلومات السرية فيها ولكنها لم توافق على التعاون معهما.
بعد مدة وصلت أخبار الى فروع البنك السويسري بالمحادثة التي جرت في بيروت وعلى إثرها شدد البنك السويسري على مطالبته بتسليم “فالتشاني” إلى الجهات القضائية السويسرية. وجد المحارب نفسه محاصراً فلجأ إلى موطنه فرنسا. ولكونه يحمل جنسيتها فسيصعب على أجهزة الشرطة تسليمه للسويسريين. قدّم كل ما لديه إلى دائرة تحصيل الضرائب ولكنها تلكأت وماطلت في التعاون معه لأسباب كثيرة من بينها وجود قانون يمنع اعتبار المعلومات المتوفرة في الحواسيب المسروقة أدلة ثبوتية في المحاكم الفرنسية.
أجرت الشرطة الفرنسية من طرفها تحقيقات معه وخلالها عرض على رجالها التعاون معهم دون مقابل، وبعد فترة ليست وجيزة تحركت دائرة الضرائب وقدمت طلباً رسمياً باستخدام ما في حوزة المُسرِّب من معلومات تخصّ متهربين من الضرائب ورد ذكرهم في القائمة المسروقة.
حرَكَت فرنسا القضية وعلى خطاها تحرك الأمريكان فدفعوا بقوة لإلغاء قانون “سرية الخصوصية”. ستُشكل الفضيحة حركة رسمية تطالب بإعادة النظر في القوانين البنكية وكشف مواقع “جناة الضريبة” والتحقيق مع الأشخاص الواردة أسماءهم في القائمة المسربة وتقديم المدانيين منهم بجريمة التهرُّب الضريبي إلى القضاء.
لكن “إلى أين وصلت التحقيقات؟” للإجابة على هذا السؤال الإشكالي سيلاحق الوثائقي بصبر نادر ردود فعل الدول المعنية بالأمر ومعرفة الإجراءات المتخذّة ضد المخالفين لقوانينها وسيلازم المُسرِّب في تنقلّاته السرية خوفاً من “الإنتربول” والشرطة السويسرية والحرص على عدم توريطه في أي مشكلة قد تنشب بسببه.
قسمّت (مجموعة الدول العشرين) في اجتماع لها عقب وصول التسريبات إلى وسائل الإعلام، الدول المتعاونة مع بنوكها على تهريب الأموال إلى ثلاثة ألوان حسب الخطورة: الأبيض والرمادي والأسود. وجاءت سويسرا في الوسط وأقرب إلى السواد ما أثار حفيظة بقية الدول الغربية فاتخذّت قرارت صارمة أجبرتها على توقيع معاهدة تضمن تبادل المعلومات بين البنوك أوتوماتيكياً والتخلِّي عن “أكاذيب” حماية المستهلك، ومع هذا فالأرقام التي توصّل إليها الوثائقي تكشف قوة الرأسمال البنكي وقدرته على تسويف القرارت بحماية الأنظمة السياسية نفسها، فمن بين 3600 بريطانياً وردت أسماءهم في القائمة لم توجَّه تهمة التهرُّب الضريبي إلا لشخص واحد منهم فحسب، وفي اليونان حذف وزير المالية أسماء أقاربه المثبتة في القائمة ونفى علمه بوجود أموال منقولة إلى بنوك خارجية دون مرورها بالطرق الأصولية، وأكثر من هذا وجهت حكومته للصحفي الذي قام بنشرها تهمة الإساءة للأفراد واستغلال الإعلام للأغراض الشخصية!
تجواله وبحثه في ألمانيا ودول أوروبية أخرى ثبَتت أرقاماً كونية لم تخضع لأي نوع من الرقابة ما دفع مؤسسات رسمية للتدخل في الموضوع من بينها دائرة التحصيل الضريبي الإسباني باعتبار أسبانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي لا تقرّ “السرية الخصوصية” لهذا وفي نهاية عام 2012 استغلّت مرور “فالتشاني” عبر أراضيها وألقت القبض عليه.
لم تُسلمّه إلى سويسرا لكنها اعتقلته وطلبت منه التعاون معها. ما قدّمه لها من أرقام تخصّ مودعين إسبان في سويسرا كان مخيفاً فتحركت وقامت بإجراء تحقيقات سريعة مع بعضهم واستطاعت في النهاية الحصول منهم على مبالغ وصلت إلى أكثر من ملياري دولار أمريكي ثم قامت بإطلاق سراح المُسرِّب الفرنسي.
خوفه من انتقام البنوك دفعه للإقامة فيها والانضمام إلى حزب سياسي إسباني برنامجه الأساسي محاربة التهرُّب الضريبي.
يشهد الوثائقي موت “السرية الخصوصية” لكنه يظلّ متوجساً من قدرة رأس المال على التحايل والنهوض من جديد في ظلّ غياب آلية عالمية متكاملة لمحاربة الفساد البنكي.
قوة الوثائقي تكمن ليس فقط في عرضه وملاحقته لموضوع شائك احتاج قدراً كبيراً من الدراية بعالم المال، ولكن أيضاً في التزامه بأخلاقيات عمل لم ينحرف عنها حين ظلّ محافظاً على سرية كل ما أسَرَ به إليه “فالتشاني” من معلومات كانت كافية لتعريض حياته للخطر، وربما أيضاً في إفساد عمل سينمائي وثّق أكبر عملية تسريب في العالم بعد تسريبات “ويكيليكس” والأمريكي “إدوارد سنودن”.