“شيخ الجامع الأعظم” لإيمان بن حسين.. محاولة لإعادة قراءة تاريخ تونس الحديث
هو ليس الشريط الوثائقي الوحيد الذي تقدمه المخرجة التونسية إيمان بن حسين، ويحمل معه جدلا حتى قبل عرضه، فقد كانت أعمال بن حسين مرفوقة بالجدل منذ اِنطلاقتها في عالم الإخراج السينمائي.
ولعلّ في ذلك جانبا إيجابياّ، حيث أن الأعمال التي لا تثير جدلا عادة ما تكون أعمالا بسيطة عابرة لا تخلّف لدى المتلقّي على تنوّعه أيّ أثر، بل تمرّ مثل أي أمر آخر في سياق الحياة اليومية.

قدّمت إيمان بن حسين عملها الجديد الذي أنتجته الجزيرة وثائقية، في عرض خاص بالصحفيين، عقبه نقاش وجدل معها حول عديد النقاط، وبعيدا عن الجدل والرأي والرأي المقابل، كان الشريط وثيقة تاريخية موغلة في بعض التفاصيل متغاضية عن بعضها الآخر، وهو أمر طبيعي فلا يمكن لساعة من الزمن أن تأتي على مسيرة وشخصية دينية وإنسانية تواصلت على ما يقرب من قرن هو عمر الإمام العلاّمة شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور.
على عادتها اِشتغلت إيمان بن حسين على الصورة، فكانت وفيّة لرغبتها في تسويق صورة مفعمة بالإحاسيس، فرغم أنّها تشتغل على الوثائقي إلاّ أنّها لم تسقط في سياق الصورة النمطية البسيطة لمجرد ملأ الشاشة وتوثيق الوقائع أو الأحداث، إيمان تبحث دائما عن صورة اِستثنائية وهو ما كان في شريطها الأخير، حيث مزجت بين المشاهد التي قامت بتصويرها في عدّة مواضع منها جامع الزيتونة المعمور أو المدرسة الصادقية أو دار الكتب الوطنية أو منزل الشيخ بن عاشور الذي يتوسط حديقة جميلة واسعة بألوانها البهيّة، مزجت هذا بمقاطع أرشيفية يعود بعضها لبدايات القرن الماضي إبّان الإستعمار الفرنسي لتونس والذي يحسب له توثيق عديد الأحداث والوقائع والشخصيات، أو بتسجيلات صوتية في حالات غاب فيها العنصر المصوّر.
كما اِعتمدت بن حسين على تصوير بنورامي قدّم مشاهد جميلة مشبعة بالألوان والأشكال جعل من بعض المقاطع سارة للناظرين.
النص.. الراوي المفقود
من الأشياء التي كان يمكن في رأينا أن تضيف للعمل هي النص المصاحب أو “الراوي” الذي كان مفقودا، واِعتمدت المخرجة على ترابط الأحداث وتناسقها مع الشهادات العائلية أو الشهادات الأكاديمية.
كان يمكن للنص المصاحب أن يسلّط الضوء على عديد القضايا والمواقف التي تخصّ الشيخ دون اللجوء إلى شهادات مؤرخين ومختصين مع كل حدث أو موقف، خاصة فيما يتعلّق ببعض المواقف التي ارتبطت بالوضع السياسي في بعض الفترات بعينها، ولو أنّ الرجل كان رجل علم وفقه ولم يتورّط في اللعبة السياسية بشكل مباشر.
وهنا كان للمخرجة موقفها حيث أكدت أنها تعتبر أن الصورة أكثر إبلاغا من النص، وترى أنّ الشريط إذا أُضيف إليه نص سيصبح تقريرا صحفيّا أو إخبارية أكثر منه فيلما وثائقيا.
المسحة الإنسانية / العائلة
الجانب الإنساني في هذا العمل ربما كان نقطة الخلل الوحيدة إذا اِعتبرنا أن هناك خلا ما فيه، حيث لك يكن لحضور العائلة حيّز كبير رغم أنّ المخرجة تمكّنت من اِقتناص بعض الشهادات لعدد من أفراد عائلة اِبن عاشور، ولكنّ الأمر كان مقتضبا نسبيّا فلم نتعرّف على حياته الخاصة عن قرب، وخاصة علاقته بزوجته مثلا، فقط تدفٌّ الحديث في غير موضع عن علاقته الحميمة باِبنه الشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يلازمه بشكل كبير –مات قبله بسنوات) ولعلّ من الطرائف الجميلة في العمل أنّ إحدى حفيداته تحدّثت عن فطور الصباح الخاص بالشيخ وعاداته الصباحية والتي تنحصر تقريبا في القراءة أو الكتابة، وهنا كان يمكن التركيز على مثل هذه المواقف المفعمة بالإنسانية خاصة بعد وفاة اِبنه، وهنا كان يمكن ربط بعض المواقف مع رأي أحد الأكاديميين المشاركين والذي هو متخصص في علم الإجتماع.
وهنا تقول المخرجة أنها وجدت صعوبات كبرى في إقناع العائلة بتقديم شهادات، ولم تظفر بأكثر ممّا قدّمته في الفيلم.
الشهادات الأكاديمية
ما يحسب للمخرجة بدون أدنى شك في عملها الجديد، هو ااشتغالها على جمع أكبر عدد ممكن من الشهادات الأكاديمية لمختصّين تونسيّين، حيث تعاملت مع نخبة من الجامعيين الذين قدموا نظرتهم العلمية أحيانا والشخصية أحيانا أخرى، وهو ما أعطى للعمل مصداقية أكبر وعمقا تاريخيا وعلميّا، ليكون العمل أقرب لوثيقة تاريخية يمكن أن تمثّل نواة لأعمال أخرى تقترب أكثر سواء من شخصية الشيخ الطاهر بن عاشور أو علماء زيتونييّن آخرين بما أن “الزيتونة” كانت منجما خرّج شخصيّات كان لها وزنها في تاريخ تونس وتركت بصمات واضحة فيه.
بقي أن نختم بحادثة شكّلت منعرجا هاما في حياة الشيخ الجليل، وهي بعض مواقفه التي أثارت جدلا واسعا في حياته وبعد وفاته وحين إنجاز الفيلم، من ذلك قضية التجنيس، حيث رأى مؤرخون أن موقف الشيخ كان سلبيا لحد اِعتباره غير وطنّي أو خائن، ففي حين أعلن الحزب الدستوري وقتها (ثلاثينات القرن الماضي) أنّ المتجنّس مرتدّ ويمنع دفنه في مقابر المسلمين اكتفى شيوخ الزيتونة ومنهم بن عاشور بالصمت، وحتى طولب بفتوى قال أن المتجنس مرتدّ ولكن هناك ظروفا عديدة قد تكون فرضت عليه التجنّس وهو ما لم يرضِ الطرفين، المستعمر الفرنسي و”الوطنيين” وقتها فكان أن اعتبر البعض بن عاشور خائنا ووصل الأمر لمقاطعة صلاة الجمعة خلف الشيخ.

ولكنّ هذا لا يعني أنّ الشيخ كان أول من دعا لإصلاح التعليم وإدخال العلوم في منظومة التعليم الزيتوني المبنية أساسا على علوم الفقه والتفسير، ويكفي أنه صحاب “النحرير والتنوير” الذي يُدرّس في كل جامعات العالم المهتمة بالقرآن الكريم لغة وتأويلا.
ويكفي أيضا أنّ التاريخ أنصفه ولو بعد حين في مسألة موقفه من المؤتمر الأفخارستي الذي اِلتأم في تونس في مايو سنة 1930.
ويكفي أخيرا أنّ الفيلم جاء خطوة أولى في سياق إعادة قراءة التاريخ التونسي، وخاصة ذلك الذي يُدرّس في المؤسسات التربوية.