جحيم التكنولوجيا ونعيمها

محمد موسى

تُلاحق السينما التحقيقية ما يجري في العالم من تغييرات وتبدلات، فلم تعد هذه السينما تنتظر سنوات طويلة قبل أن تقارب ظواهر مستحدثة وكما كان يحدث في الماضي، بل تكاد تسير اليوم بالسرعة نفسها لتغطيات الصحافة المتخصصة، وما يُعرض من تقارير في القنوات التلفزيونية.

لقطة من الفيلم

فرغم أن موضوع الإدمان على الإنترنيت والتكنولوجيا يعَّد من الظواهر الحديثة نسبياً الى أنه حضر في عامنا الحالي في عدة أفلام تسجيلية، واحد منها قاس كثيراً عن عيادة خاصة لعلاج المراهقين الصينين من إدمانهم على الإنترنيت والالعاب الألكترونية، حمل عنوان “حشاشو النت: مراهقو الصين المدمنون”، في الوقت الذي يسلط فيلم “مُدمن على تلفوني”، والذي أنتجه البرنامج التلفزيوني التسجيلي الهولندي “زمبلا” وعرض أخيراُ، الأضواء على مشكلة الإدمان على التكنولوجيا المتفاقمة في العالم الغربي اليوم، فيختار الولايات المتحدة وكندا، لتكون ساحة لتحقيقه المُثير.
يمرَّ الفيلم التسجيلي بعدة قضايا ويتوقف أمام مجموعة من النماذج، التي تصب جميعا في تحديد ملامح علاقتنا بالتكنولوجيا. فيبدأ بالتيه الذي يعيشه أغلبنا عندما يتعلق الأمر بالبيانات الألكترونية التي نملكها كالصور وغيرها، وكيف أصبح من الصعب وأحياناً المستحيل العثور الى ما نريد وسط الاف الصور والبيانات في أجهزتنا الألكترونية. يقابل الفيلم في هذا الخصوص خبيرة كندية تعطي محاضرات عن أفضل الوسائل لتنظيم المكاتب الألكترونية، في الزمن الذي صار معدل ما نأخذه من صور في يوم عطلة واحد، يعادل ما كان يلتقطه جيل ما قبل الكاميرات الألكترونية في حياته كلها. تُعلق الخبيرة الكندية بحزن أن الكثيرين منا صار وهو يلتقط صوراً لمناسبات إجتماعية خاصة وعامة، لا يركز الا على موضوع الصور المحدد الذي يخصه ويهمل ما يحيط به، وهذا خسارة كبيرة لغرائزنا وإهتمامنا بالعالم.
على نفس المنوال، يسير الفيلم متعرضا للجوانب الآخرى من الثورة التكنولوجية، وعلاقتنا بها التي تصل أحياناً الى حدود التطرف. الى الحد الذي دعى بعض المطاعم في مدينة نيويورك لمنع إلتقاط صور للطعام المقدم، وهي الظاهرة المنتشرة كثيراً اليوم، لما تسببه من إزعاج للزبائن الذي يرغبون بتناول طعاهم بسلام، وتأثيره على تقاليد الأكل في الاماكن العامة. يركز الفيلم على مبادرات من هذا النوع، للحد قليلاً من الهوس بتسجيل كل تفصيلة من تفاصيل حياتنا، وعرضها مباشرة على العالم عبر وسائل التواصل الإجتماعي. فيصور لافتات خاصة وضعتها إدارات بعض المدن الغربية على أرصفتها المزدحمة، تحذر الماشون عليها من الأصطدام ببعضهم اذا لم يتوقفوا عن التحديق في هواتفهم النقالة أثناء مشيهم.
ينجح الفيلم في مقابلة مؤلفان تتناول كتبهم تجارب شخصية عن الإدمان على التكنولوجيا، وما يحصل مع البيانات التي نتركها في تصفحنا اليومي للإنترنيت. فالأول، الأمريكي دانيال سيبرغ، كان وحتى سنوات قليلة ماضية مديراً مُهماً في الشركة العملاقة “غوغل”، قبل أن يصيبه الإجهاد بسبب الإدمان على الإنترنت والتواصل الذي لا ينقطع ليلاُ او نهاراُ مع زملائه. وضع الشاب الأمريكي وصل من السوء الى الحد الذي اضطره الى المكوث في المستشفى لأيام، ليقرر بعدها ترك عمله والحياة بأسلوب مختلف كثيراً. جمع سيبرغ تجربته في كتاب حمل عنوان “حميّة الديجتال: الأربع خطوات لوقف إدمانك التكنولوجي وإستعادة زمام حياتك”، الذي يقدم نصائح عملية للمدمنين على الإنترنت، كما يساعد الذين يشكون في مدى إدمانهم بإختبار ذلك عبر مجموعة من الأسئلة التي يطرحها الكاتب.

 

أما جوليا أنغوين، الكاتبة الأخرى، فتحذر منذ سنوات لما يحصل لبياناتنا الخاصة على الإنترنيت. وكيف تقوم الشركات العملاقة ببيع هذه البيانات ودون أن نعرف الى شركات اخرى من أجل الإعلانات. ورغم أن هذا الموضوع قد تم تناوله من قبل، الا أن الفيلم يركز على كتاب آخير لهذه الكاتبة حمل عنوان: “مصيدة الامة”، وفيه تفاصيل بعضها مُقلق حول ما يحدث خلف ظهورنا لمعلوماتنا الخاصة، والتي يتم إستخدامها بشكل او بآخر لزيادة إنغماسنا في عالم الإنترنيت والتكنولوجيا. كما تقدم أنغوين نصائح عمليّة عن عما يُمكن أن يقوم به المتصفح الذي لا يملك خلفية تقنية واسعة، للتقليل من إنتهاك الشركات العملاقة لخصوصيته على الشبكة العنكوبتية.
ولعل أكثر فقرات الفيلم التسجيلي إثارة، لجهة التعريف بظواهر جديدة، تلك التي تخص معسكر المساعدة على الشفاء من الإدمان على التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وهو مبادرة صغيرة لكن شعبية. فالفيلم يسافر الى مركز هذه المبادرة الذي يقع في غابة بعدة عن المدن المزدحمة، حيث وجد منظمو المعسكر السكينة التي يبحثون عنها، وهناك سيعيش المشتركون أياماً عدة بدون تكنولوجيا حديثة، اذ يشترط أن يسلموا كل أجهزتهم الألكترونية قبل دخولهم الى المعسكر، كجزء من خطة المعسكر العودة بمشتركيه الى الحياة قبل “التكنولوجيا”. فهناك وبدل الكمبيوترات السريعة، طابعات قديمة تساعد، وحسب مختصون، على التفكير. كما وجد المعسكر حلاً لقضية الإدمان على البحث عن معلومات على موقع “غوغول”، فكل من يريد أن يعرف معلومة ما، يكتب سؤاله على ورقة، ويعلقها على لوحة معلومات خاصة، على أمل أن يقوم مشترك آخر في المعسكر بالإجابة على السؤال الذي تتضمنه.
يربط الفيلم خيوط قضايا عدة ببعضها، ويحللها على ضوء علاقتنا بالتكنولوجيا اليوم. الكثير مما مرَّ في الفيلم مألوف كثيراً لمعظمنا، بخاصة التفاصيل التي تتعلق بإستخدام الهواتف الذكية، والهوس في فتحها كل بضعة دقائق، وهو كما أعتبر مختصون في الفيلم، إشارة الى درجة من الإدمان. يستشرف الفيلم المستقبل، الذي سيقربنا أكثر من التكنولوجيا، فالفيلم يخصص جزءاً من وقته لعرض التطورات التكنولوجية التي تشهدها عمليات تصميم الثياب المزودة بأجهزة تحسس الكترونية، التي تقيس دقات القلب والنشاط العصبي. اذ يتوقع ان تكون هذه الألبسة شديدة الشعبية في المستقبل القريب كثيراً. فهذه الإكتشافات الحديثة، وحسب مستخديمها اليوم، تساعد كثيراً في مراقبة الوضع الصحي، وتحذر في الوقت المناسب من تغييرات غير محسوسة لكُثر. هذا الجانب المشرق من التكنولوجيا كان له حصة أيضاً في فيلم “مُدمن على تلفوني”، اذ عرض في هذا الأتجاه، شخصيات تجد متعة كبيرة في العيش وسط كم المعلومات الهائل الذي صار يطبع حياتنا اليوم.


إعلان