“الرجل الذي أنقذ العالم”
قيس قاسم
“الرجل الذي أنقذ العالم” فيلم جديد يضاف الى سجل الدنمارك في مجال صناعة الأفلام الوثائقية الروائية، وربما يضعها واحدة من بين أهم منتجي هذا النوع من السينما بعد عدة أفلام مهمة كان آخرها “المثالي”. وإذا كان الأمر بحاجة الى دراسة معمقة حول أسباب تميزها بهذا النوع فأن الخصوصية الدنماركية قد جلبت انتباه العالم اليها من قبل حين برز عندها تيار “دوغما 95” الذي أسسه المخرج لارش فون تيريه وشكل علامة خاصة في تاريخ السينما العالمية والآن تبدو ملامح تشكل “مزاج” سينمائي يراهن على قوة مضمون الوثائقي وتقديمه في أطار درامي. بالطبع ليست الدنمارك في طليعة المشتغلين “ديكودراما” ولكنها تملك تميزاً أسلوبياً، “اسكندنافياً” خالصاً يميل الى البحث في جوانيات الشخصيات والميل الى المعالجة النفسية الهادئة وهذا ما لاحظناه في منجز “بيتر أنطوني” الأخير حين اشتغل على تقديم شخصية روسية مغمورة، وقد بلغت من العمر عتيا، لكنها لعبت دوراً حاسماً في تاريخ البشرية بل قد يكون الضابط ستانسلاف بيتروف حقاً هو “الرجل الذي أنقذ العالم” بأسره من دمار شامل، وعليه استحق التفات السينما اليه وتوثيق بطولته قبل أن يدفنه التاريخ ويُنسى.
![]() |
في المشهد الافتتاحي يبدو ستانسلاف مريضاً مهملاً في غرفة صغيرة وسخة، تعكس حالته النفسية السيئة والإحباط الشديد الذي يعيشه في وحدته وعزلته. في المشهد نفسه يبدو التناقض صارخاً من خلال الحاح رنين الهاتف الذي لا ينقطع!. شتيمة الضابط السابق للصحافيين تُجلي حيرة المشهد فالرجل لا يحب الظهور الاعلامي ولا الحديث عن حياته الماضية. بعده مباشرة ينتقل الشريط الى مشهد من الماضي (تمثيلي) تظهر فيه زوجته، التي أحبها وأخلص لها، مريضة تعاني من آلام مرض السرطان الذي نخر جسدها. الانتقالات بين الوثائقي والدرامي خطر سينمائياً، والخطورة تكمن في احتمال ظهور هوة بين النوعين، وقد تتسع بشدة فيتخلخل وقتها مسار الفيلم ويضيع بينهما. إلا أن هذا الشيء لم يحدث عند بيتر أنطوني لحرصه الواضح على الامساك بخط درامي يميل الى تقديم الحكاية في اطار أقرب الى الروائي منه الى الوثائقي، من خلال اعادة تمثيل المشاهد التاريخية بنفس المستوى الذي يوثق فيه اللحظة الآنية، لدرجة يصعب معها على المشاهد المتابع له التفريق بين المستويين التسجيلي والدرامي المعروضة على الشاشة.
من حسنات غضبه وكرهه للصحافيين أنه لا يأبه بوجود كاميراتهم حوله بل يتعمد تجاهلها تماماً ولا يرغب مطلقاً النظر اليها ما وفر ودون أن يدري حيادية بينه وبينها. كان يكلم نفسه أحياناً ويتحرك بعفوية ويغضب كعادته كلما طُرح عليه سؤالاً عن “بطولاته” وكان يكرر جملة تلخص تكوينه الشخصي وتواضعه “أنا لست بطلاً، بل رجلاً صحيحاً تواجدت في المكان والزمان الصحيحين”. أما أكثر ما يبغضه فهو الكلام عن زوجته وموتها. كان يريد أن يُبقي ذكرياته معها له وحده، لا يشاركه فيها أحد، مثلما كان يريد أن لا يسأله أحد عن سبب الجفاء بينه وبين والدته التي ما تزال على قيد الحياة.
الوصول الى اللحظة ـ التي أتخذ فيها الضابط المسؤول عن مراقبة الأجواء الروسية قراراً حاسماً بعدم أطلاق صواريخ بلاستية عابرة للقارات ومحملة برؤوس نووية ضد صواريخ أمريكية أعلنت حواسيب أجهزة الدفاع الروسية عن دخولها مجالها الجوي وكانت ستؤدي لو أعطيت الأوامر بأطلاقها الى نشوب حرب نووية ـ أستوجب المرور بمحطات كثيرة من حياة البطل ستانسلاف والى مراجعة تاريخه الشخصي وعلاقاته الاجتماعية ووجد كاتب النص الآسر (نفسه المخرج بيتر أنطوني) في الدعوة التي وجهت اليه من الولايات المتحدة الأمريكية لالقاء كلمة فيها وتقديم الشكر له على موقفه الشجاع مدخلاً لعرض الظروف التي عاشها العالم خلال بداية الثمانينات من القرن الماضي وأطلق عليها اسم “الحرب الباردة”. كضابط روسي تشبع بالعقيدة العسكرية السوفيتية وعدم الثقة بالخصم الأمريكي.
![]() |
لقطة من الفيلم |
لقد أراد الروس بناء ترسانة دفاع نووية تحد وتخيف الأمريكيين من الشروع بأي هجوم محتمل. كان يكرر وحتى قبل بعد قبوله الدعوة بأنه لا يثق بهم مطلقاً الى درجة أنه كان يلح في سؤال مرافقته ومترجمته عن التزامهم بدفع بطاقة السفر وعدم نكوثهم بوعودهم التي قطعوها على أنفسهم حولها؟. حالة اللاثقة المتأصلة بين الطرفين جلية حتى اللحظة والماضي يشهد على ذلك بقوة. أما على المستوى الشخصي فكان ستانسلاف انساناً عادياً بسيطاً لا يهتم بما يقال عنه بل يبدو وكأنه مخاصماً للعالم كله رغم ما قدمه له من فضل كبير. لكنه في نفس الوقت كان كريماً في البوح عن أفكاره حول الخطر المحيط بالعالم نتيجة سباق التسلح وظل مقتنعاً بأن العالم سيدخل حروباً من هذا النوع مستقبلاً وربما بسبب هذة القناعة قبّل الذهاب الى أمريكا.
بدخوله الى هناك يأخذ الشريط طابع “أفلام الطريق”. ودون وجل يمضي صانعه في اشباع مَشاهده بتفاصيل الرحلة لكونها ستشكل في بعدها النفسي والفكري جسراً بين طرفين يريدان الآن فهم التاريخ من خلال رجل حي ساهم فيه وحافظ على نسل البشرية بحكمته وقراره الصحيح. أكثر ما يلفت في تلك الرحلة رغبة ستانسلاف في مقابلة نجمه السينمائي المفضل الممثل ” كيفن كوستنر” ومشاهدة بناية الأمم المتحدة. ثنائية الفن والسياسة واحدة من أجمل العناصر المكونة للفيلم. من خلالها توفرت فرصة لوضع الجوانب الشخصية الى جانب السياسية مع أنه كان يكرر دوماً بأنه ليس سياسياً بل مواطناً روسياً عادياً. قابل قبله دون اهتمام كبير الممثلين روبرت دي نيرو ومات دايمون ولم يكن قد سمع بالأخير! في بيت كوستنر تفتحت أسارير الرجل العصبي الغاضب لأن واحدة من أحلامه الشخصية قد تحققت. كلام الأعجاب الذي أستقبل به الممثل المشهور ضيفه المتواضع أشعره بالخجل. التفاتة كوستنر وربطه بين مفهوم “البطولة” السينمائية المجردة وبين “الحقيقية” التي يمثلها الرجل البسيط فتحت كوة واسعة لفهم علاقات انسانية خارج المعادلات الشكلية. فالبطل السينمائي في المقابلة صار عادياً في حين صار العادي بطلاً وبذلك تجسدت واحدة من المعاني الفنية/الانسانية واكتملت مع السياسية التي جسدها مشهد يزور خلاله البطل الحقيقي احدى منصات صواريخ سرية ثبتت وسط الصحراء. أستمع الى كلام مرعب من الدليل الذي رافقهم وحكى لهم عن قدرتها التدميرية؛ فقنبلة نووية واحدة منها تعادل في قوتها ما يقارب 60% من مجموع القنابل التي أُطلقت في الحرب العالمية الثانية. وفي الطرف الثاني كانت الصواريخ الروسية تكفي لازالة العالم من الوجود ولا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال بالقنابل الأمريكية التي سقطت فوق هيروشيما اليابانية. في الرحلة البرية الطويلة عرض المُنقذ أفكاره السلمية وخوفه على العالم من الحروب المجنونة وكانت فرصة مناسبة للوثائقي ليعيد تصوير اللحظة التاريخية التي أنقذ فيها الرجل العالم من حرب نووية مخيفة ويبرر بها سبب اقدامه على مشروع سينمائي لم يتضح للعالم نوع العمل الذي قام به بطله سيما وأن الحرب لم تنشب بالفعل ومازالت الكرة الأرضية حية لم تدمر. بمعنى آخر كانت الخلفية التسجيلية لفيلمه الوثائقي مجردة الى حد ما!. يصور المشهد الدرامي اللحظة التي كان فيها الضابط المراقب للأجواء الروسية بيتروف تسانسلاف (الممثل سيرغي شنيريوف) مناوباً في وحدة أطلاق الصواريخ النووية ومسؤولاً عن أفرادها. في ساعة متأخرة من تلك الليلة (25 سبتمبر عام 1983) أطلقت أجهزة
![]() |
بوستر الفيلم
|
الأنذار المبكر صفارتها معلنة عن اقتراب صاروح أنطلق من الأراضي الأمريكية صوب الأتحاد السوفيتي. الأصوات المحذرة وحركة الجنود وأوضاع الاستعداد العسكرية كانت تشتد كلما ظهر الصاروخ على شاشة الرادار. اتصاله بمسؤوله لم ينفعه لأنه كان نائماً وقتها في بيته وآثار الكحول ما زالت في رأسه، لهذا كانت استجابته ضعيفة وطلب منه عدم أزعاجه. وجد الضابط الشاب نفسه أمام مسؤولية جسيمة وتحت ضغط وملامة زملاءه الذين كانوا متحمسين للدفاع عن حدود بلادهم وعدم السماح للصواريخ المعادية بتهديمها. ركز الضابط على مراقب الحاسوب لمعرفة ما أذا كانت الشاشات تُظهر بوضوح مسار الصاروخ لكن الجواب لم يكن حاسماً بسبب اختلاف الوقت بين القارتين. الليل كان هنا في حين كان النهار في الجهة الأخرى ولهذا لم يتضح تماماً مسار الصواريخ إلا ان الأنذارات المبكرة كانت تتعالى وأعلنت عن وصول صاروخ ثانٍ ثم بعده ثالث. كان بامكانه وبسهولة تماشياً مع التعليمات العسكرية أن يعطي أوامره لأطلاق الصواريخ المضادة، لكنه تريث وأطلق صاروخاً تحذيرياً واحداً. لم يتوقف الضغط عليه فقد أعلن مجدداً جهاز الأنذار عن وصول صاروخ رابع ثم خامس. في تلك اللحظة كان مصير العالم متوقفاً على كلمة واحدة منه: أضغط. لكنه تريث بحكم أدراكه لخطورة القرار ومعرفته أن مصير البشرية كله كان مرهوناً بكلمة منه، فقرر الاعتماد على ضميره وعلى الرادارات اللاقطة بدلاً من نظام الحواسيب. اعتمد استراتيجية تفضي في حالة وصول الصواريخ المعادية الى مبعدة ثواني قليلة من دخولها الحدود فأنه سيعطي أوامره بالهجوم المضاد. يصور الوثائقي اللحظات الرهيبة التي كانت تنتظر العالم، مصحوبة بموسيقى موثرة كتبها للشريط الموسيقار كريستين أندرسن عبر من خلالها عن أجواء التوتر والحالات النفسية للأشخاص المشاركين في الحدث الدراماتيكي. لم تدخل الصواريخ الأراضي الروسية فتنفس الضابط ومساعديه الصعداء. بكى الرجل من فرحته لكن ضابطه المسؤول لم يثمن موقفه وأنبه على قرار اعتبره خرقاً للقواعد العسكرية!. ترك بيتروف الخدمة بعدها لأسباب سيحيلها الى مرض زوجته لا الى قرار عقوبته. في منزله وبعد خسارة من أحب أنطوى الرجل على نفسه ونسى العالم وقفته الشجاعة. لا يعيد فيلم The Man who saved the World الاعتبار لبطل مجهول من هذا الزمان بل أيضا يعيد علاقته بشخصية هي الأهم بالنسبة لرجل متألم؛ والدته. سيأخذنا الشريط معها في رحلة مصالحة مع الذات والعالم الذي بفضله بقى حتى اللحظة على قيد الحياة.