زواج صالونات.. أم زواج إجباري؟

حين تتعرض السينما الغربيّة لموضوع الزواج في الثقافات الشرقية، فإننا نلحظ بعض التناقضات الناتجة عن سوء الفهم. فهم يخلطون الثقافة بالدين خلطا شديدا وبالتالي لا يفرقون بين زواج الصالونات وبين الزواج الإجباري. الفكرة الراسخة هي أن أي تدخل للأهل يعني الإجبار وليس للفتاة أن تعترض. يبرز ذلك وبكثرة في الأفلام البريطانيّة التي تقدم زيجات هندية حيث تنتشر ثقافة ضغوط الأهل في اختيار رفيق الحياة. ومع الوقت أصبحت فكرة الحب قبل الزواج هي الفكرة الوحيدة المقبولة لإيجاد السعادة في السينما الغربية. هذه الفكرة يتحداها فيلم (Arranged Marriage) من إخراج (Diane Crespo) و(Stefan C. Schaefer) ومن إنتاج (Cicala Filmworks)، وهي شركة تحاول إثبات نفسها من خلال الفكرة وبإمكانيات مادية محدودة، ولذا فصعودها بطيء لكنّه ثابت. بميزانية لا تتعدى 120 ألف دولار، تم انتاج هذا الفيلم مما يعني عدم وجود ممثلين مرموقين ويظهر ذلك في الأداء أحيانا.

 بدأ عرض الفيلم في 2007 في صالة عرض واحدة لكنّه فاز بعدة جوائز، مثل جائزة أفضل فيلم في مهرجان “بروكلين” الدولي للأفلام وكذلك مهرجان سكيب سيتي الدولي ومهرجان واشنطن للأفلام اليهودية، وكل ذلك في نفس عام إصداره في 2007. لم يعتمد الفيلم على الدعاية المحاصرة لكنّه من الأفلام التي حين تشاهدها توقن أنّ نجاحه يعود إلى تميّز الحبكة الروائية.

لا توجد أدوار رجال رئيسية، فالفيلم يدور حول نصيرة خالدي المسلمة السورية المحجبة التي انتقلت إلى الولايات المتحدة في الخامسة من عمرها، و”راخُل” -أو راحيل كما يعربها البعض-اليهودية الأرثوذكسية. تعمل نصيرة و”راخُل” في مدرسة ابتدائية حكومية في بروكلين بنيويورك، وتلتقي الاثنتان في اجتماع المعلمين الذي تديره المديرة العلمانية والتي تعتبر الدين والاحتشام قيودا وخزعبلات.

تعمل “راخُل” في نفس صف نصيرة مع طالب من ذوي الاحتياجات الخاصة حيث إنّ تخصصها هو الصعوبات التعليمية. يُقّرب العمل بينهما وتنشأ صداقة تتوطد حين يعلق طالب في الفصل على أنّ إحداهما مسلمة والأخرى يهودية، ويسأل إن كان كل المسلمين يريدون قتل كل اليهود؟ وهنا تقترح “راخُل” نشاطا للطلاب تتبعه حلقة لمناقشة فكرة إطلاق الأحكام العامة والنمطية في التعامل مع الناس.

من المعروف أنّ بنيويورك جالية ملحوظة من اليهود وأخرى من المسلمين لكن ما في القلب يظل في القلب عند الكثير ووالدة “راخُل” إحداهم. ففي يوم كان عند نصيرة و”راخُل” عمل مشترك فدعت “راخُل” نصيرة لبيتها ليكملا ما بدأتاه، لكن والدة “راخُل” المتعصبة خافت أن تُرى ابنتها مع مسلمة فيؤثر ذلك على فرص زواجها من شاب يهوديّ أرثوذكسيّ لو رآها الجيران. شعرت نصيرة بصديقتها وعرضت بسخرية مريرة أن تقوما بإعادة النشاط في مطبخ بيت “راخُل” حيث كانت الوالدة، ثمّ انصرفت.

التمثيل في الفيلم ينتمي إلى الطبيعية، لا تكلف فيه. تشعر من الأداء الهادئ أنّك تشاهد جيرانك وأصدقاءك يتحاورون. التصوير تم بجودة والحوار سلس. الإضاءة طبيعية والتصوير الخارجي يتم في النهار وتتحرك الكاميرا لتلتقط الأبطال من بعيد ضمن الشارع ثمّ تركز عليهم. فالمناخ العام للفيلم يرسخ فكرة أنّ هؤلاء الأبطال من هذا الشارع الذي يمر به المشاهد، حتى بطلة الفيلم، نصيرة لم نعرف أنّها شخصية أساسية حتى مرور أكثر من مشهد من الفيلم. التصوير الداخلي تم بإضاءة لا تضفي وقعا في ذاتها بل المقصود منها نقل جو البيت والمدرسة كما هو. الفيلم محاولة لبيان أنّ المشترك بين أصحاب الديانات أكثر من المختلف عليه وأنّ هناك قيّما مشتركة تقارب بين الناس على اختلاف عقائدهم.

فكرة الزواج بتدخل الأهل ليست بجديدة وعادة تقدم كأمر بغيض يضيع مستقبل الفتاة وأملها في زوج يحبها وتحبه. الجديد في هذا الفيلم أنّه وضّح أن دور الأهل هو الاقتراح وأن للفتاة أن توافق أو تعترض، ويتحدى فكرة أنّ العلاقات قبل الزواج هي وسيلة أفضل لإيجاد الحب، وأنّ الملتزمين بالدين من كل العقائد يمرون بنفس الضغوط من المجتمع للتنازل عن مبادئهم. هذا الصوت غير معتاد في السينما الأمريكية والتي أصبحت تحرص حتى في أفلام الشباب على تقديم فكرة العلاقات غير الشرعية قبل الزواج على أنّها الأمر الطبيعيّ وأنّها هي الحب والدليل عليه وبتجاهل تام لآثار ذلك على التكوين السلبي النفسي والاجتماعي على الأسر والمجتمع.

الفيلم يقدم نموذجا آخر غير معتاد في السينما وذلك في هيئة مديرة المدرسة مدّعية الحرية وهي أقل الناس احتراما لها ويظهر ذلك في تدخلها السافر في ملابس نصيرة و”راخُل” المحتشمة وفي سخريتها من طريقتهما في إيجاد زوج المستقبل.

 الفيلم هو مزيج من الدراما والكوميديا الرومانسية المستقلة. ظهرت الكوميديا في المبالغة في شخصيات العرسان المتقدمين لـ”راخُل”، ما بين خجول مرتبك وآخر لا ينتظر إذنا ليتجول بالبيت؛ ما بين هادئ صامت وبين ثرثار لا يكل. وكذلك ظهرت الكوميديا في الحوارات وبخاصة حوارات نصيرة. فهي ليست بجديّة “راخُل” ولها تعليقات ومواقف ساخرة خاصة حين تقمصت شخصية يهودية لتجد زوجا مناسبا لـ”راخُل”. الفيلم في مجمله متميز كفكرة ويصلح لمشاهدة الأسرة بل وفتح نقاش بين الأهل والأبناء حول أفضل طرق التعارف وإيجاد الزوج المناسب. قدم الفيلم المسلمين في صورة حقيقية وأزاح الستار عن زواج الصالونات الذي يأنف منه الغرب دون فهم صحيح.

لا يوجد ما يريح الناس أكثر من المواضيع الاجتماعية. فالأمور الحياتية من تعارف وصداقات وزواج وغيرها تنقل الناس إلى المألوف وتشعر بالارتياح ومن ثمّ تبدأ حوارات التقريب. حين يقوم الفن بهذا الدور، فإنّه يقوم بدوره المنشود. هذا الفيلم تقع أحداثه في نيويورك ولا يعرض لقضية الصهيونية إنّما ينصب على الدين فحسب وكيف يمكن التحاور والتفاهم فيما لا يمس القضايا التي ستظل محل خلاف. ففي النهاية كل من يحاول الاستقامة على دينه يتعرض لنفس الهجوم والاستهجان من بعض من يُنحوّن الدين جانبا.

أثبت الفيلم أن للأفلام مكوّنات، أحد عناصرها مادية لكن جودة الفكرة وتميز صوت المؤلف تعوّض قلة الميزانية إلى حد معتبر، وأنّ هناك مساحة كبيرة فارغة لا تملؤها شركات الإنتاج الكبرى كـ(Disney) و(Weinstein Company) و(Brothers ) و(Warner) الذين شغلوا في الآونة الأخيرة بفكرة الأبطال الخارقين أو العوالم الافتراضية.

نحن في حاجة إلى رسائل تقارب بين البشر. في حاجة إلى فن يحاكي الواقع. في حاجة إلى أبطال قابلناهم في الشارع أو كانوا زملاءنا في الدراسة أو العمل.

على الرغم من إعجابي بفكرة الفيلم وبعدالته في تقديم الأسرة المسلمة وهي نادرة في السينما الأمريكية، إلا أنّه كان يمكن أن يقوى بتقوية أداء الممثلين. من المهم أن يكون الحوار مماثلا للطبيعة لكن حواراتنا اليومية لا تصلح دائما للعروض السينمائية. ففي يومنا أحيانا نعبر عن فكرة بسيطة بالعديد من الكلمات بحيث يتوه الموضوع. الحوار في (Arranged Marriage) لم يترك بصمة مميزة باستثناء بعض جمل نصيرة في رأيي والتي حوت “خفة دم” مألوفة لدى العرب. أكثر ما يظهر ضعف الحوار هو حوار مديرة المدرسة فيبدو أنّه مدسوس لإظهار الضغوط العلمانية على أهل الدين. وإن كان هذا النموذج موجودا بالفعل إلا أنّه من الصعب تخيل مديرة مدرسة تعرض نفسها للمساءلة القانونية بهذا القدر. فحتى وإن كرهت مظاهر الدين، فالكل يتلقى تدريبات في التعامل مع المختلفين بحيث لا يتعرض لدعاوى قضائية وخاصة أنّها وجهت كلامها لاثنتين من المعلمين في نفس الوقت، كما عرضت عليهما مالا ليشتريا ملابس تناسب “عمرهما” من وجهة نظرها. موقف المديرة هنا بدا ساذجا بلا مهنية تناسب دورها كمديرة مدرسة أو حتى كممثلة.

فكرة زواج الصالونات تختلط مع فكرة الزواج الجبري في الشاشات الغربية، وبينما حظيت الأخيرة بتركيز كبير سواء في الأفلام الإبداعيّة أو الوثائقيّة لم يأخذ زواج الصالونات المتناغم مع الأديان حقه من الاهتمام. على الرغم من نقاط الضعف بالفيلم إلا أنّه أبرز الحاجة لتمثيل قطاع كبير من المشاهدين المحافظين من كافة الأديان الذين لا يجدون في السينما من يمثلهم مما يدفعهم لمقاطعة المنتجات السينمائية ككل، وهذا من شأنه توسعة الهوّة في المجتمع إذ تخرج الرسائل الفنيّة العامة لفئة دون غيرها.

 


إعلان