“شيربا”.. جنون الصعود إلى القمة
أمير العمري
لاشك أن الفيلم الوثائقي البريطاني- الاسترالي المشترك “شيربا” Sherpa الذي عرض بالدورة الـ 59 من مهرجان لندن السينمائي (7- 18 أكتوبر) يصلح كأساس موضوعي وعلمي وتوثيقي أكثر إقناعا للفيلم الروائي الطويل “إيفرست” الذي عرض في افتتاح مهرجان فينيسيا السينمائي، بل هو أيضا أكثر إمتاعا وصدقا، وأكثر درامية وإثارة من الفيلم الروائي، فعلى حين يفشل “إيفرست” في تصوير المغزى الأكثر عمقا الذي يكمن وراء إصرار البعض من الغربيين تحديدا، على اعتلاء قمة الجبل الشهير في جبال الهملايا (نيبال)، تتجه مخرجة الفيلم الوثائقي جنيفر بيدوم، وجهة أكثر عمقا واقترابا من الإنسان، فشخصيات فيلمها وكل من يظهرون فيه هم بشر قريبون منا على الرغم من مغالاة بعضهم في إبداء مشاعر الرفض والغضب والاحتجاج والتمرد.
“شيربا” سيكون بلاشك أيضا الفيلم الوثائقي الأفضل في عام 2015، وهو أساسا عن الجانب الآخر الذي لم يلتفت إليه أحد، أي إلى السكان المحليين الذي يقطنون القرى النيبالية الواقعة أسفل الجبل، وهم فصيل إنساني ذو تكوين إثني وثقافي خاص، ويطلق عليهم “شيربا”، ومنهم الشباب الذين يصاحبون المتسلقين إلى قمة إيفرست يرشدونهم بخبرتهم خلال الصعود، ومن دونهم لا يستطيع أحد أن يصل إلى القمة الشهيرة. ويدفع الواحد من هؤلاء المتسلقين عادة مبالغ مالية تصل الى 75 ألف دولار لشركات متخصصة في تدريب الراغبين وتأهيلهم وتزويدهم بما يحتاجونه لتسلق الجبل، وتستعين هذه الشركات برجال “الشيربا” للصعود مع المتسلقين.
الرائدان
![]() |
كان أول من وصل إلى قمة إيفرست في العالم رجلان: النيوزيلاندي إدموند هيلاري، ورجل”الشيربا” “تنزينغ نورغاي”. حدث ذلك في التاسع والعشرين من مايو 1953. وقد اعتبر الأخير ولايزال، بطلا مرموقا يشار إليه بالبنان في منطقة جبال الهيملايا في نيبال. ويستخدم الفيلم الكثير من الوثائق المصورة (الصور الفوتوغرافية، ومقاطع من الأفلام والتسجيلات التليفزيونية التي يظهر فيها الرجلان) كما يتوقف أمام تدخل السياسة وكيف مورست التفرقة بين الرجلين، ونستطيع أن نستشف هنا أن النزعة الاستعلائية العنصرية كانت وراء ذلك، فقد تم الاحتفاء كثيرا بالنيوزيلاندي بينما اعتبر نورغاي” مجرد مساعد له. وكانت أنباء بلوغ الرجلين قمة ايفرست قد ذاعت في الثاني من يونيو 1953 أي في نفس يوم الاحتفال بجلوس ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية على العرش، وقد منحت الملكة النيزيلاندي هيلاري وساما من الدرجة الأولى، بينما حصل الشيربا نورغاي منها على تكريم أدنى كما نرى في الفيلم من خلال الوثائق المصورة، ولم يكن “نورغاي” مرحبا كثيرا بالحديث إلى أجهزة الإعلام كما لم يكن يعتبر نفسه بطلا، ولم تكن الشهرة تهمه، وقد كرر أنه قام بما قام به، من أجل المال الذي يعتمد عليه في تدبير معيشة أسرته، مثل كل رجال شيربا.
نورغاي لم يعد على قيد الحياة، لكننا نستمع إلى الكثير عنه كما يرويه حفيده كارما دوما شيربا. ويتركز اهتمام الفيلم في البداية على شخصية رجل الشيربا “فيربا” الذي يقول إنه إذا كان قد قدر له أن يكمل صعوده في 2014 (أي قبل وقوع الكارثة) لكان قد اكمل الصعود للمرة الثانية والعشرين الى قمة ايفيرست. بدأ الفيلم كمشروع عن حياة الشيربا وظروف عملهم الشاقة ومعتقداتهم الخاصة، لكنه تحول إلى عمل درامي مثير عن العلاقة بينهم وبين الغربيين هواة التسلق، كما أصبح بسبب الأحداث التي وقعت في المنطقة، أول فيلم يرصد تفاصيل الحادث الرهيب الذي وقع في أبريل 2014.
في أحد المشاهد التي توحي بأجواء التوتر التي ستتصاعد، نشاهد الاحتكاك الذي وصل الى الاشتباك بالأيدي بين الشيربا والسياح الأجانب عام 2013 عند المنطقة التمهيدية في منتصف الجبل بسبب ما صدر عن أحد منظمي التسلق من إساءة لأحد رجال الشيربا ظنا منه أنه لم يفهم ما تلفظ به من كلام مهين، ومن هذا الحدث تحديدا جاءت فكرة تصوير الفيلم.
ومن خلال مشاهد خلابة نشاهد أولا تقاطر السيارات التي تحمل مئات المغامرين عند سفح الجبل، ثم كيف يقوم رجال الشيربا بنقل المعدات الثقيلة ورفعها الى منقطة وسطى في الجبل يخصصونها لمعسكرات المؤن والمتابعة، فالحكومة النيبالية تحظر نقل المستلزمات الضرورية بالطائرات. وتشمل تلك المعدات اسطوانات الأوكسيجين والأمتعة والخيام والمأكولات والماء والأدوية. لكن الفيلم يبدأ من الحدث التراجيدي الأهم من خلال لقطات قريبة مصورة للانهيار الجليدي الكبير في 2014، الذي أودى بحياة 16 من رجال الشيربا واعتبر إلى حينه، الكارثة البشرية الأكثر فداحة في تاريخ التسلق.
يتعاون اثنان من عظام المصورين مع المخرجة في تصوير لقطات صعبة في مناطق وعرة في الجبل قبل وبعد وقوع ذلك الحادث الذي سيغير مسارالفيلم، كما يقوم المصوران بتصوير مشاهد عامة شديدة الجمال والتوحش من طائرة هليكوبتر، تكشف عن علاقة الانسان بالطبيعة وهيمنة الطبيعة الجبلية الطاغية على حياة الانسان في تلك المنطقة. ويعتمد الفيلم في تصعيد الدراما الكامنة على المونتاج الدقيق الذي ينتقل بين ما يرويه بعض الأطراف مثل الكاتب الصحفي المتخصص إد دوغلاس، وراسل برايس مسؤول إحدى “البعثات” المتخصصة في تسلق الجبل والتي تجني من وراء عملها الملايين سنويا، وبالطبع “فيربا” الذي يعتبر البطل الحقيقي الذي يدور الفيلم من حوله، ثم إلى لقطات صامتة كثيرة تتيح للمتفرج الفرصة للتأمل، وتتوقف الكاميرا في مخاطرة كبيرةامام أكثر اللحظات توترا في الحقيقة عندما تشتد المواجهة بين الشيربا ومشرفي التسلق. والفيلم مصاغ في بناء مثير يتصاعد تدريجيا دون أن يخل بمبدأ تصوير الحقيقة، وتوثيق الحدث. وتستخدم المخرجة أيضا بعض اللقطات التي التقطت من كاميرا التليفون المحمول، والتي تبدو ضبابية لمنطقة الانهيار الجليدي، ولقطات أخرى بكاميرا الفيديو المخصصة لتصوير مشاهد سريعة الحركة. ومن اللقطات النادرة تلك التي ترصد الانهيار الجليدي الضخم الذي يقع.
العام والخاص
![]() |
ملصق الفيلم
|
ينتقل الفيلم من الخاص إلى العام، ومن الواقعي إلى الخيالي الأسطوري، ومن رصد ملامح القلق والتوتر التي تعتري المجموعة التي تتأهب لتسلق الجبل من الأمريكيين والأوروبيين، إلى رجال الشيربا وما يشعرون به من عدم تقدير من جانب الآخرين. ونعرف أن الاشتباك بالأيدي الذي وقع في 2013 كان حدثا غير غير مسبوق في تاريخ العلاقة مع الشيربا، الذين بدأوا يدركون أنه يتم تهميش دورهم كثيرا، وأن ما يحصلون عليه من مال لا يوازي ما يتعرضون له من مخاطر، وكان قد توفي منهم في ذلك العام ستة أشخاص.
تعارض زوجة “فيربا” امتهانه هذا العمل، تريده أن يتخلى نهائيا عن صعود الجبل، وتؤمن مع أمه، بأن الجبل مقدس تسكنه روح إلهة، وأن قمته هي رأس تلك الإلهة، وليس من المناسب الصعود فوق رأسها، وتعتبران هذا تدنيسا لقدسية الجبل. ولكن الرجل مضطر لتدبير نفقات الحياة القاسية، وإن كان في الوقت نفسه يشعر بخطورة ما يقوم به ويخشاه.. هذا الشعور بالخطر، بل أيضا بالاستغلال من جانب الآخرين، سيتصاعد وصولا إلى تلك الليلة المشؤومة 2014 التي سيكون لها أثر نهائي، ليس فقط على العلاقة بين الشيربا والمتسلقين وشركات اعداد الرياضيين للتسلق، بل وعلى مستقبل ومصير قمة إيفرست نفسها، بل وعلى دولة نيبال التي يقول لنا الفيلم إنها تجني نحو 360 مليون دولار سنويا من وراء سياحة التسلق.
مصادفة تصوير الواقعة
تشاء الصدفة وحدها أن يتواجد فريق التصوير في تلك المنطقة في الثامن عشر من أبريل 2014، عندما وقع الانهيار الثلجي الهائل الذي قذف آلاف الأطنان من كتل الثلج مما أدى إلى مصرع 16 رجلا، كلهم من رجال الشيربا، بينما نجا الاوروبيون جميعا كما نجا “فيربا”. وتم العثور بعد يومين على جثث 13 شخصا بينما لم يتم العثور على جثث الثلاثة الباقين حتى يومنا هذا. وبعد ذلك عقد رجال الشيربا اجتماعا كبيرا كما نشاهد في الفيلم تفصيلا، وقرروا التوقف عن العمل، وطرحوا عشرة مطالب من الحكومة.
يصور الفيلم عمليات الشد والجذب، بين المسؤولين عن شركات التسلق التي ستحقق خسائر كبيرة بسبب ذلك القرار، ومحاولتهم إقناع الشيربا باستئناف العمل، وبين رجال شيربا الذي يعربون عن غضبهم واحساسهم بالمهانة سواء بسبب استغلالهم مقابل مبالغ مالية لم تعد توازي المخاطرة بحياتهم، أو من جانب حكومة نيبال التي أهملت مطالبهم بضرورة توفير ضمانات وتأمينات أكثر على حياتهم، ورفع قيمة التعويضات التي تدفع لعائلات الضحايا منهم. على إثر ذلك كما يسجل الفيلم أرسلت الحكومة أحد الوزراء نشاهده وهو يخبط بطائرة هليكوبتر فوق سفح الجبل، ثم يلقي خطبة عصماء تثير غضب الشيربا أكثر من أن تساعد في تهدئة خواطرهم، وينصرف دون أن يعد بأي شيء، ليستمر الاضراب ويعلن الشيربا التوقف تماما عن العمل حتى نهاية العام.
يحاول أحد المسؤولين عن بعثات التسلق القاء اللوم على قلة من الشيربا يتهمها بتهديد الآخرين الراغبين في مواصلة العمل، بالقتل إذا ما خالفوا تعليماتهم، إلا أن فيربا وزملاؤه ينفون في الفيلم أن يكون هناك أي ضغط عليهم أو تهديدات. وتصور المخرجة مقابلات مع عدد من هواة التسلق الأوروبيين الذين فقدوا الفرصة بسبب الاضراب، يتحدث بعضهم متعاطفين مع مطالب الشيربا بينما يبدي البعض الآخر حنقه، ويتهمهم شاب أمريكي باللجوء الى ممارسة الارهاب!
من خلال الأسطر التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم نعرف أن الحكومة استجابت فيما بعد لكل مطالب الشريبا، وأن العمل استؤنف عام 2015 غير ان مأساة أخرى حلت بالمنطقة مع وقوع ذلك الزلزال الهائل في 25 ابريل، أي بعد عام من المأساة السابقة، مما تسبب في مقتل تسعة آلاف شخص في نيبال، كما نتج عنه انهيار جليدي أدى إلى مقتل 19 شخصا في إيفرست في أكبر كارثة يشهدها الجبل.
فيلم “شيربا” تجربة شجاعة في الفيلم الوثائقي، الذي يترك للمشاهد المجال لكي يحدد موقفه، دون أن يفرض عليه شيئا، كما يعرض بتوازن دقيق، وجهات النظر المختلفة، ويربط بين القيمة الجمالية للصورة، وبين الوضع الصعب الذي يحيط بحياة الشيربا، وكأنه كتب عليهم المغامرة بحياتهم من أجل الاستمرار في العيش.