“على حلّة عيني”
محمد موسى

على الرغم من أن أحداث باكورة المخرجة التونسية الشابة ليلى بوزيد “على حلّة عيني” والذي عُرض أخيراً في مهرجاني فينيسيا وتورنتو السينمائيين، تبدأ وتنتهي في زمن قريب يسبق الثورة التونسية عام 2010. إلا أن الفيلم الروائي الطويل هو بلا جدال عمل عن تلك الثورة وناسها.
ليس فقط لأن الفيلم لم يكن ليُنتج لولا المناخات الفنيّة والسياسية الجديدة التي جعلتها الثورة ممكنة، وأيضاً، وهو الأهم، لأن أحداث الفيلم وشخصياته، تبدو وكأنها تتجّه صوب حدثاً مُزلزلاً، لا مناص منه سيغير نسق الحياة القائمة. تتجسّد الثورة التونسية أيضاً في انتقالات الفيلم بين الأجيال في أحداثه المتخيلّة، وكيف أن تركة الآباء من الظلم والقمع تتدحرج عبر الزمن ليتعثّر بها الأبناء. في دورة ستتوقف عندما أقدم محمد البوعزيزي على التضحية الأعظم، التي ستطلق الثورة في بلده والمنطقة بأكملها.
تؤلِّف المخرجة وبالتعاون مع الفرنسية “ماري صوفي شامبون”، قصة خياليّة لما يبدو الصيف الأخير الذي سَبَق الثورة التونسية. البطلة، فتاة تونسية تدعى: فرح، تعيش مع أُمها المطلقّة، فيما يسكن الأب المهندس المرموق في مدينة بعيدة، قريباً من عمله. تنتمي عائلة فرح للطبقة المتوسطة التي ابتعدت وبسبب الخيبات السابقة عما يجري في البلد. وانضمت بشكل أو بآخر إلى المنظومة الكبيرة للنظام التونسي السابق. فرح الشابة، التي لم تختبر بعد اصطدام الأمنيات والأحلام بصخور الواقع، هي مغنية في فرقة موسيقية شابة هامشية، تغني في حانات للسكارى، عن الوطن ومظلوميه. هي إذن من الجيل الشاب الذي سيقود بعد أشهر الثورة التونسية عبر التظاهرات والإنترنت.

لوهلة بدا فيلم “على حلّة عيني” (العنوان من إحدى أغنيات الفرقة)، وباتجاهه في نصفه الأول إلى التركيز على الموسيقى الثورية التي تغنيها الفرقة ولحدود الاحتفاء، وكيف أن هذه تُشكِّل لغة خاصة لوحدها تنقل دواخل وغضب الشخصيات فيما تسعى الكاميرا السينمائية أن تترجم الموسيقى والآداء المرافق إلى لغة سينمائية موازية لا تقلّ حماساً وغضباً، سيكون نسخة عربية لفيلم المخرج الإيراني الكردي بهمن قوبادي الرائع: “لا أحد يعرف عن القطط الفارسية” (2009).
فهذا الأخير كان في زمن عرضه عام 2009 استجابة مؤلمة لأحداث ما بعد الإنتخابات الرئاسية الإيرانية. وكلا الفيلمان يبحثان في عالم الموسيقى الثورية السريّة والمهمشة. سريعاً ستظهر الفروقات بين الفيلمين، فالفيلم الإيراني شحذ قوته من سيرة فرق موسيقية حقيقية، وفهم عميق لموسيقى تلك الفرق وظروف أعضائها، واستجاب سينمائيا لها. في حين بدا الفيلم التونسي منجذباً فقط إلى فكرة الموسيقى الثورية الرومانسية، فلم يربط نفسه بنماذج حقيقية من الواقع وقتذاك. هذا رغم أن مشاهد الحفلات الموسيقية فيه كانت الأكثر نضجاً سينمائياً من كل المشاهد الأخرى في الفيلم.
لن يبقى الفيلم مع الموسيقى، ذلك أن فرح، التي لا نراها تفعل أشياءً لافتة في نهارات الفيلم تُفسِّر أو تضيء غنائها الثوري الغاضب في الليل، تعيش أزمات عديدة، منها مع أُمها المُرتبكة حيال جرأة الابنة وإنشغالها السياسي. وأخرى عاطفية مع صديقها في الفرقة، الذي وقعت في حبه. هناك أيضا أب فرح، الموظف في أحد المعامل في الصحراء التونسية، والذي يطلّ أحياناً في الفيلم، استجابة لاستغاثات الأُمّ، دون أن يملك التأثير الكبير على فرح أو على دراما الفيلم. تتهمّش السياسة لصالح الدراما الاجتماعية التي يميل إليها الفيلم في النصف ساعة الأخيرة من زمنه، فيما يضيق العالم تدريجياً على فرح التي تواجه شروط عوالم البالغين القاسية.

ينتقل الفيلم عدة انتقالات أسلوبية، كما يتراوح اهتمامه بشخصياته الرئيسية. فكلما بدا أن الفيلم استقرّ على مقاربة واضحة انتقل إلى أخرى، مشتتاً ومُضعفاً من مُحصلِّته النهائية. فبموازاة “فرح” هناك الأُمّ، الشخصية الأكثر ثراءاً وتعقيداً. والتي لعبتها الممثلة التونسية “غالية بن علي” بتمكُّن كبير. فماضي هذه الأُمّ الذي يقترب منه الفيلم بحذر كان يستحق اهتماما أكبر.
نعرف من مشهد سريع مثخن بالرموز أن الأُمّ وحتى الأب كانا ناشطين سياسيين في شبابهما. في حين مثّل جار الأُمّ، رجل الأمن الكريه، تذكيرا دائماً بانحطاط قوى الأمن في النظم الدكتاتورية، والترهيب الجنسي الذي كان يمارس على النساء لوقفهن أو إذلالهن. انسحبت شخصية الأُمّ المكتملة دراميا إلى هامش الفيلم، فاسحة المجال لشخصية الابنة الضعيفة البناء، لتقود الفيلم إلى نهايته التي فاجئتنا بقتامتها.
اختارت المخرجة التونسية الشابة في أول أفلامها الروائية الطويلة شخصيات نسائية من بلدها ليتصدرّن القصة والأحداث. هذا الاختيار والذي يحمل لذاته أهمية كبيرة، حين تقوم المخرجة بالتركيز على واقع النساء وحياتهن في بلد لا يختلف بظروفة كثيراً عن البلدان العربية المجاورة. تعثّر أمام تقديم معالجة ناضجة تنطلق من الذاتي إلى العام.
فغابت الرؤية العميقة التي تربط بين الظواهر وتُحلِّلها. أو التي تغوص في عمق الشخصيات، لتُفسِّر أفعالها وضعفها وسقطاتها. ففرح الشخصية الرئيسية في الفيلم، ليست مغرية بالقدر الكافي، لتشكل حياتها المُتخيلة ما يشبه الأمثولة السينمائية لما سيحدث في الشارع التونسي. في حين تم إختزال دور الأُمّ إلى واحدة من الأمهات التقليديات اللواتي تحفل بهن السينما العربية، ويُشكِّلن بحضورهن وسلبيتهن جزءاً من التركيبة الذكورية للمجتمعات الشرقية.