“فيلم كتير كبير”
أمير العمري

ضمن برنامج مهرجان لندن السينمائي الـ 59 عُرض الفيلم اللبناني “فيلم كتير كبير”، أول أفلام المخرج ميرجان بو شعيا. والفيلم يعكس كل مشاكل البدايات غيرالمحسوبة جيدا، أولها السيناريو الذي يعاني من الارتباك وغياب الأبعاد المختلفة لكثير من شخصيات الفيلم، والتداخل فيما بين المشاهد، والانتقالات التي تزيد من إرباك المشاهد في الربط بين المواقف المختلفة.
هناك أيضا مشاكل أخرى في الإخراج تتعلّق بضبط إيقاع المشاهد، والتحكُّم في انسيابية المشهد بحيث أننا لا نعرف في بعض المشاهد ماذا فعل بطل الفيلم أو الشخصية الرئيسية هنا، هل سافر أم عاد من المطار، وهل عاد ليختبئ ممن يطارده أم أن من يبحث عنه لم يلحظ وجوده، وكيف تمكن من عبور الحدود من لبنان إلى سورية ثم عاد بشحنة المواد المخدرة التي يحملها معه على شاحنة ضخمة، وكيف يذهب إلى المطار ليسافر ثم يعود في اليوم نفسه، وغير ذلك كثير جدا من الأسئلة التي تتداعى في الذهن نتيجة عدم مراعاة ضبط النص أولا، ثم رعونة الإخراج وافتراض المخرج والمونتير الذي تغاضى عن غياب الكثير من المواد التي كان يجب تصويرها، أن المشاهد يمكنه أن يستنتج كيفما يشاء، فالمهم أن يضحك وهو يشاهد المواقف والمفارقات الطريفة التي يمتليء بها الفيلم دون أن يكون المنهج العام للفيلم معتمدا أساسا على تجاوز حدود المكان والزمان، والتداعي الحر الذي يتجاوز المنطق، بل نحن أمام فيلم تقليدي في بنائه.
الملاحظة الثانية الأساسية تتعلّق باضطراب أسلوب الفيلم نفسه، فهو يبدأ بأسوب الإثارة والتشويق ثم يغلب عليه الأسلوب الكوميدي الذي يعتمد على المبالغات، ثم يحاول أيضا الاستفادة من فكرة التعليق الاجتماعي السياسي الساخر.
ويدور الفيلم حول ثلاثة أشقاء توفي والدهم وترك لهم محلا لبيع شطائر البيتزا، لكن أكبرهم وهو زياد، يستخدم علب البيتزا في توزيع المخدرات لحساب تاجر يدعى أبو علي، وأثناء مشاجرة مع شخص مسلح في بداية الفيلم يطلق زياد الرصاص فيقتله، لكن شقيقه الذي يصغره “جاد” يعترف بأنه الذي أطلق الرصاص دون قصد فيسجن بدلا من زياد، أما شقيقه الأصغر فهو على علاقة عاطفية بزوجة مخرج سينمائي يتعاطى المخدرات ويدين لزياد بثمن ما استهلكه، وهو يعترض على انتهاج طريق الجريمة.

ينقل زياد لحساب أبو علي شحنة مخدرات إلى سوريا ولكنه يدرك أن أبو علي قد نصب له فخا وأنه سيفقد حياته بعد أن يكون قد أوصل الشحنة إلى من ينتظرونه على الجانب الآخر من الحدود، لكننا لا نعرف لماذا يريد أبو علي التخلص من زياد، فليس مقنعا أن يكون السبب أن زياد يريد التوقف عن المشاركة في التهريب، ثم يتمكن زياد من قتل الرجلين اللذين كانا في انتظاره في سوريا، والفرار ثم العودة بالمخدرات إلى لبنان حيث يقوم بإخفائها داخل مخبأ سري في محل البيتزا لم يكن شقيقاه يعلمان عنه شيئا. وزياد يريد أن يكافيء شقيقه جاد الذي ضحّى من أجله بإعداد مطعم خاص له لكي يتملّكه، ويريد أن يتوقف عن تجارة المخدرات، لكن ليس قبل أن يُحقِّق مبتغاه من هذه الهدية الكبيرة التي أصبحت في حوزته الآن.
يخرج جاد من السجن ليصبح طرفا في العملية بينما يعترض الشقيق الأصغر ويُهدِّد بإبلاغ أبو علي الذي يرسل رجاله للبحث عن زياد لاستعادة الشحنة التي استولى عليها. وعند هذه النقطة يتفرع الفيلم إلى قصة أخرى تتخّذ الطابع الكوميدي الهزلي عندما يقتبس زياد فكرة تهريب المخدرات في علب الأفلام، ويهدد صديقه شربل المخرج السينمائي المتهرب من دفع ديونه، لكي يخرج له فيلما سينمائيا ثم يعطيه علب البوبينات لكي يحصل بموجبها على تصريح بخروجها دون أن تمر على أجهزة الكشف في المطار.
ومن هنا إلى التعليق الاجتماعي والنقد السياسي، والدوران حول فكرة الطائفية التي تمزق لبنان، ولكن في إطار ساخر ربما يكون أفضل ما في الفيلم، عندما نرى المخرج وهو يضطر للرضوخ لرغبة زياد نحو تعديل مسار الفيلم لكي يتناسب مع ما يريده زياد الذي هو منتج الفيلم، كما يفرض زياد شقيقه جاد بطلا للقصة، ثم يعترض على أن يجعله المخرج مسلما ويجعل خطيبته مسيحية فيعكس الأمر، ثم يُدبِّر لوقوع مشاجرة كبيرة في موقع التصوير، يظن أهالي المنطقة التي يدور فيها التصوير الخارجي أنها مشاجرة حقيقية بين شاب مسلم وخطيبته المسلمة المحجبة وأنه يريد أن ينزع عن رأسها الحجاب بالقوة.. وهكذا.
يوجه الفيلم التحية إلى جورج نصر، الرائد الحقيقي للسينما في لبنان، والذي يظهر في الفيلم من خلال مقابلة يجريها شربل أي المخرج داخل الفيلم معه، فيروي كيف أنهم كانوا يصورون فيلما في لبنان بمساعدة شركة إنتاج إيطالية، وكيف استغلّ الإيطاليون علب الأفلام لتهريب المخدرات، ومن هذه الفكرة يقتبس زياد فكرته لتحقيق مليون دولار من تهريب الشحنة الكبيرة من المواد المخدرة.

يعاني الفيلم من الترهل الذي يتمثل في هبوط الإيقاع وكثرة الاستطرادات وتكرار الفكرة، وتداخل الأحداث على نحو يستعصي أحيانا على المتابعة السلسة، كما يختفي الشقيق الثالث من الفيلم على نحو مفاجيء بينما كنا قد شاهدنا إشارات واضحة إلى أنه مرتبط بعلاقة عاطفية مع زوجة المخرج شربل، التي تعيش حياة رتيبة مع زوجها، كما لا يبدو منطقيا أن يقبل أبو علي تاجر المخدرات في نهاية الأمر عودة زياد إلى العمل معه بعد أن استعاد منه شحنة المخدرات، وأفشل خطته في تهريبها بواسطة علب الأفلام بعد أن كان يود الفتك به.
وهي نهاية تقتل الحبكة وتُقلِّل كثيرا من أهمية وطرافة المشاهد الطريفة التي تسخر من علاقة المنتج السينمائي بالسينما ودورها، فهو لا يريد من الفيلم الذي ينتجه سوى علب من الصفيح يضع فيها المخدرات، ويسخر الفيلم من تدخلّه المستمر في تغيير الحبكة والأحداث وفرض شقيقه الذي لا يمكنه الثبات أمام الكاميرا بطلا للفيلم، والاستغناء عن شقيقه الثالث الذي أثبت موهبته في تجربة التمثيل أمام الكاميرا كما رأينا، كما يسخر الفيلم في مشاهد أخرى من الإعلام السائد الذي يُستخدم في الترويج لشخصيات لا وزن لها كما يحدث عندما ينجح زياد في أن يصبح نجما تليفزيونيا كبيرا، باستخدام حيل وأساليب متطرفة منها إشعال النيران في مواقع التصوير أو تفجير قنابل بالقرب من موقع تصوير الفيلم للإيهام بأن فريق الفيلم مستهدف من قبل عناصر معينة، في إطار السخرية السوداء من الوضع اللبناني المضطرب.
وأيا كانت الأخطاء التي تشوب الفيلم والتي تعتبر من أخطاء البدايات الطموحة التي تجعل المخرج الشاب يريد في أول أفلامه عادة، أن يقول كل شيء، وأن يجرب أساليب متعددة، إلا أنه يتعين علينا التأكيد هنا على أهمية التجربة، وعلى تميز التمثيل بشكل عام في الفيلم، وقدرة فريق الممثلين على الإقناع ونجاح المخرج في خلق نوع من الانسجام الواضح فيما بينهم، تبدي في ذلك الحماس الذي يميز الأداء، والقدرة على الاندماج، كما يتميز الفيلم بتلقائية الحوار وتدفقّه في عفوية طبيعية مثيرة للإعجاب. هذه تجربة لاشك أن المخرج بوشعيا سيتمكن من مدّها على استقامتها في أفلامه القادمة.