إرباك العقل وفوضى التشكيك
قيس قاسم
التشكيك بالحقائق العلمية المثبتة مختبرياً ودراسياً.. أسلوب اعتمد عليه أصحاب الشركات الصناعية الكبرى في الغرب، منذ عقود طويلة، لمنع العلماء من نقل الحقائق والمعطيات التي يتوصلون اليها ـ حول بعض المنتجات المضرة بصحة الإنسان والبيئة ـ إلى عامة الناس. وبزراعة الشك في نفوس المستهلكين استطاعوا الاستمرار في بيع بضاعتهم إليهم وجني الأرباح الهائلة بطرق تبدو لحذاقتها أقرب الى وسائل الخداع التي يستخدمها “السحرة” في فقراتهم المثيرة أمام الجمهور، وربما من وحيها جاءت فكرة إشراك الساحر جيمي سويز في الوثائقي الأمريكي “تجار الشك” Merchants of Doubt واعتماده كحلقة ربط بين فصوله الزاخرة بالمكاشفات العلمية والسياسية الشديدة التعقيد الى درجة دفعت المخرج روبرت كينير، صاحب العمل الوثائقي الرائع “Food, inc”، للاستعانة بأدوات
![]() |
الساحر جيمي سويز
|
توضيحية واستخدام لغة بصرية تعليمية تُسَهل على المتلقي فهم موضوعات علمية صرفة، لعب على صعوبة فهمها “تجار الشك” منذ البداية واستغلوا ذلك للتشويش على عقولهم وبالتالي حولوا العلم الى قوة عكسية، ضده وضد غاياته النبيلة، ومن هنا جاء كشف العالمة نعومي أوريسكس مذهلاً حين وجدت آلاف البحوث العلمية مكدسة في أقبية المعاهد والجامعات العلمية لم تصل أبداً الى الناس رغم انها في مجملها تعنيهم مباشرة وتعني مستقبلهم ومستقبل كوكبهم. سيقفان العالمة والساحر على ضفتي حكاية الوثائقي، وعلى مدار ما يزيد عن تسعين دقيقة ستظهر على المساحة الفاصلة بينهما الكثير من التفاصيل الغنية والشخصيات المثيرة للفضول.
يترفع الساحر جيمي عن مقارنته بأصحاب الشركات المخادعة لأن ما يقوم به، كما يخبرنا في المفتتح المذهل ـ المنفذ بمساعدة الحاسوب لعرض حركة أوراق اللعب “كوتشينة” وطريقة التلاعب بها بحذاقة تخدع أبصار الناظرين اليها ـ لا يتعدى التسلية والربح القليل وأن عمله مقبول من قبل الجمهور لأنه بالنسبة اليهم “غشاش” معلن في حين أن غش أصحاب الشركات الصناعية الكبيرة خطير يضر بالبشر ويهدد الكوكب بالدمار وغير ظاهر، لهذا تحمس للمشاركة في عمل سينمائي يريد كشف أكاذيب التجار وتنبيه المخدوعين الى عملية الخداع العظيمة التي ما زالوا يتعرضون اليها، ومن بين أبرزها مدعاة لغضبه نكران شركات صناعة السجائر مسؤوليتها عن أصابة المدخنين بأمراض قاتلة أو تشكيك أرباب المصانع بدور ما تطلقه معاملهم من عوادم سامة تسهم في تلوث البيئة وترفع درجات حرارة كوكبنا الأرضي!.
يدعم الوثائقي متنه الحكائي بتسجيلات غنية تصل الى مستوى الأفراد الذين يقابلهم ويحرص على عرض صورة شبه متكاملة لهم،عبر مراجعة متأنية مدعومة بالصورة لبداية عهد كل واحد منهم بالموضوع المناقش وأين يقف منه اليوم، لتتبلور بهذا التتابع مسيرة عملهم الطويلة وتعكس خبرتهم المتراكمة التي تضفي على كلامهم صدقية عالية. واللافت أنه أعطى هذا الحق لكل الأطراف المتناقضة ولم ينحاز لأي واحد منهم. من بين المشاركين فيه بحيوية العالم غلانتز ستان الذي يظهر شاباً عام 1978 وداعياً الى تقليص أماكن التدخين والتنويه بخطورته واليوم وقد بلغ سن الشيخوخة يناقش التطور اللافت في الموضوع. فالفكرة كانت وقتها تبدو شبه مستحيلة، لا بسبب صد المدخنين عنها وانتشار عادة التدخين في كل مكان تقريباً حتى في المستشفيات، بل لتكذيب أصحاب الشركات المصنعة للتبغ والسجائر حقيقة أن التدخين مضر أساساً بصحة الانسان ويسبب أمراضاً سرطانية ولا حتى بكون النيكوتين مادة
![]() |
العالمة نعومي أوريسكس
|
تشجع على الإدمان، بل أن كلام العلماء لا أساس له من الصحة ولم يُبرهن عملياً. مع كلام العالِم ستان يرجع الوثائقي الى موضوعه الأصلي “التشكيك” ويراجع مع العالِمة نعومي تاريخ طويل من التشكيك المنتظم الذي اعتمدته الشركات خلال حقب صناعية طويلة، وأن سبب عدم عرض النتائج الخاصة بالبحوث المتعلقة بمئات المواد المضرة بصحة الإنسان الى العلن يعود الى التكتيك البارع الذي اتبعه أصحاب الشركات للتقليل من أهمية ما يتوصل اليه العلم من حقائق ثم الألتفاف عليها. جمعت العالِمة وبمساعدة الوثائقي ما يقارب 90 مليون صفحة بحث علمي حول التدخين وأضراره ومن بينها دراسات خاصة بالشركات المنتجة سُربت من داخلها الى علماء أمريكيين. المفارقة الصارخة في هذا الحقل تُظهر أن مراكز الأبحاث الخاصة بالشركات أكثر تطوراً من كل مختبرات الجامعات والمعاهد العامة التابعة للدولة وأنها قد توصلت الى حقائق مذهلة عن أخطار التدخين تكتمت عليها من بينها قوة تأثير النيكوتين على الدماغ وحين وصل صدى أجراس تحذير العلماء والبحاثة المحايّدين، التي أنطلقت منذ عام 1963 الى مسامع الكونغرس عام 1994، أي بعد ثلاثين عاماً تقريباً وقفت مجموعة من أصحاب المصانع أمام لجنة تحقيق خاصة وأقسموا كلهم أمامها بأن النيكوتين مادة لا تسبب الإدمان على التدخين!. مضوا بعدها في عملهم وتعرض ويتعرض حتى اليوم الملايين من الناس للأمراض المميتة بسببهم.
يُجْمِل الشريط الصبور أساليب “التشكيك” وتطورها على مدى عقود ويتوقف عند أهم مفاصلها المتعلقة بمفهوم “زعزعة اليقين” الى جانب التأثير النفسي غير المباشر على الناس بالاعتماد على شركات اعلامية مختصة تقوم بوظيفة المروج الاعلامي، مثل شركة هيل وتولنتون التي يدخل الوثائقي الى كواليسها ويراجع بعض أرشيفها السري الذي يُتبيَّن منه الكيفية التي حمَّت بها الشركات نفسها بعد أن بدأت تشعر بالقلق من نشاط العلماء وقوة تأثيرهم على الناس والحكومات فاستعانت بجهودها من أجل الاستمرار بعملها بذات المواصفات. أولى النصائح المقدمة لمدرائها كانت؛ أن لا يقوموا بنفي وجود مواد ضارة في التبغ بل التشكيك بالنتائج المقدمة من قبل العلماء حولها وخلق حالة من الارتباك بين المدخنين مع تشكيل هالة ضخمة من عدم اليقين بصحة بما يسمعونه من كلام حول أضرار ما يستنشقون في صدورهم من سموم. يعرض “تجار الشك” عشرات المقاطع المسجلة والمأخوذة من مناظرات وحوارات سجالية حول التدخين تُظهر كلها تشديد المسؤولين عن انتاجها على عدم حسم الموقف من التدخين وأختلاف الأراء حوله بين العلماء. لأجل هذا أشترت الشركات ضمائر علماء وزجتهم في معمعان نقاشات تفضي دوماً الى نقطة اللاحسم، توافقاً مع الاستراتيجيات التي وضعتها شركات الاعلام والتي توصلت بعد عقود من العمل الى نظرية تسمى ب”Play Book” وهي عبارة عن نصائح وطرق تضليل المستهلك وقد أُعتمدت من قبل الشركات المنتجة كمبادىء عمل ناجعة لا تُقلل أرباحهم رغم موت أكثر من نصف مليون أمريكي سنوياً بسبب التدخين.
على خط الوثائقي دخل صحافيون من جريدة “شيكاغو تريبيون” فأنتقل معهم الى موضوع جديد يصب في ذات الخط الذي بدأ بحثه في نصفه الأول، ولكن هذة المرة حول مواد كيمياوية سامة تسمى “المواد الواقية من الحرائق” وتدخل في صناعة الأثاث المنزلي، الغاية منها هو تقليل أنتشار الحرائق في المنازل. أثبت العلماء انها سامة وتسبب أمراضاً خطيرة ومع هذا ظلت الشركات تنتجها لحين ظهور صراع مع شركات التبغ، وبروز حقائق جديدة تؤكد أن أغلبية الحرائق سببها أعقاب السجائر التي لم تكن قبل عقود تتوقف عن الأشتعال ذاتياً. الصراع حُسم لصالح شركات التبغ والسبب هو “التفاهم الوسطي” الذي جاء كمبدأ جديد للعمل وأُدرج ضمن “كتاب اللعب”. جوهره أيجاد “كبش
![]() |
بوستر الفيلم
|
فداء” جاهز للنحر حال بروز تناقض حاد في التحليل والتقييم للأضرار الناتجة عن منجين مختلفين فأن الطرف الضعيف في هذة الحالة ينسحب لصالح القوي مع ضمان أرباحه وأمكانية بقائه في السوق ولكن بشكل جديد. ألهمت شركات الدعاية أيضاً روادها بفكرة زرع العملاء في المؤسسات الرسمية وتكليفهم بلعب دور المشكك بكل ما يضر بسمعتهم. لقد زجت الشركات الخاصة بانتاج التبوغ والمواد المقللة للحرائق بعملائها في نوادي “رجال الأطفاء” ومؤسساتهم وقاموا بدور المدافع عنهم بطريقة غير مباشرة، أضافة الى تبنيهم تكتيك جديد يُحيل سبب الأضرار على المستهلك بالمطلق لا على المُنتَج. فالسجائر بكل ما فيها من مواد اضافية سامة وخطيرة “بريئة” ولكن المدخن هو المسؤول عن تصرفاته ويتحمل تبعاتها! ما يكشفه الوثائقي مخيف في هذا الجانب ويفضي الى كشف حقائق مذهلة عن عمليات شراء دمم علماء وربطهم بمشاريع سياسية وبمصالح أحزاب متنفذة. يقابل “تجار الشك” عدداً منهم ويسمع محاججاتهم القوية حول موضوع ينشغل الوثائقي به في ثلثه الأخير يتعلق بالبحوث الخاصة بالاحتباس الحراري والخطر الجدي الناتج عنه على كوكبنا. يكرس العلماء المتوافقون مع برامج الشركات الصناعية العملاقة جل جهدهم للتشكيك بمزاعم الطرف الآخر الذي يؤكد أن عوادم السيارات والمصانع وغيرها تسهم في التلوث البيئي وتسبب في تلاشي طبقة الأوزون تدريجياً. بمعنى آخر احالة المشكلة الى الإنسان لا الى الطبيعة نفسها كما يزعم الطرف المعارض لسَن قوانين تحد من التسريبات الكيمياوية. لا يتوقف الأمر على أضعاف حجج الخصوم بل الى تهديدهم إذا تطلب الأمر. تتعرض العالمة نعومي وعدد آخر من زملائها الى تهديدات مباشرة بسبب أصرارها على المشاركة في برامج البحث عن الدراسات العلمية المهملة في الأدراج وأستخلاص المفيد منها، وبخاصة المتعلقة بالتلوث البيئي. في حين يذهب الوثائقي مع الصحافيين للتحري عن أسباب حماسة بعض العلماء في الدفاع عن الشركات والتصنيع الحربي ليتوصل الى حقيقة تشير الى أن أغلبيتهم ينتمون الى أيدولوجيات تربط بين معارضة النمو الصناعي بالمؤامرة اليسارية التي تريد حسب رأيهم أضعاف أمريكا والغرب، وأن الكثير منهم قد أنضموا في منظمات ونوادي علمية لجأت الى الكذب والتزوير لتكبير دورها وأضفاء صبغة علمية بحته عليها مع أن الوثائقي يكشف ودون لبس انتماء كثر منهم الى الأحزاب اليمينية المحافظة القريبة من دوائر صنع القرار السياسي في واشنطن وسبق لهم أن عملوا كمستشارين لشركات صناعية في نفس الوقت الذي كانوا يتولون فيه مراكز علمية في معاهد وجامعات معروفة. يقدم العالم الفيزياوي هانسن جيمس شهادة شخصية عن معاناته مع المؤسسات الحكومية ومع علمائها بالرغم من مستواه العلمي المرموق. فقد تعرض للحبس والتهديد بسبب مواقفه المعلنة من الخراب البيئي الذي يشهده عالمنا وأشتراكه في التظاهرات السلمية المناهضة للعولمة وغيرها من المشاريع التي تسهم في انهاك عالمنا وتزيده تدميراً ومع هذا يتوقف الوثائقي عند حالات متناقضة يمر بها علماء كثر تحمسوا للدفاع عن الحقائق العلمية في شبابهم ولكنهم وعند الكهولة شعروا بخيبة أمل من نتائجها في حين مازال البعض مصراً على المضي بنفس الطريق لكن بأشتراطات جديدة تريد من الناس أن يقودوا الحراك بأنفسهم وأن يقدم العلماء لهم خبرتهم وعلمهم بطرق بسيطة تسهل عليهم فهم العالم المحيط بهم وفهم ألاعيب الشركات العملاقة التي لا تتوانى لحظة عن تسريب شكوكها الى عقولهم من أجل أن تبقى قوية في أسواق الأقتصاد وتجنى المليارات على حساب مستقبل الكوكب البشري الوحيد.