“العتبات الممنوعة” لـلمخرج التونسي رضا الباهي

د. وسيم القربي

ينتمي رضا الباهي إلى الموجة الأولى من السينمائيين التونسيين، فهو مخرج وكاتب سيناريو، ومنتج، من مواليد 07 أغسطس 1947 بالقيروان. انطلقت مسيرته السينمائية في إطار نادي السينمائيين الهواة بعاصمة الأغالبة، ولئن لم يكن ببال القيروان أن يصبح ذلك الفتى الصغير من أهم السينمائيين التونسيين بالنظر إلى المخاض الصعب لسينما الستينيات، فإنه استطاع أن يثبّت تواجده على الخارطة السينمائية من خلال عدّة أفلام وثائقية وروائية على غرار “شمس الضباع” و”وشم على الذاكرة” و”السنونو لا يموت في القدس”… وهو يستعد في هذه الفترة لتصوير فيلم روائي طويل بعنوان “زهرة حلب”، من بطولة الممثلة هند صبري، وسيتناول من خلاله عمليات تجنيد الشباب العربي للقتال في سوريا.

“العتبات الممنوعة” ورواية واقع الحقيقة…

“سليم بن فرج”


يقول “جون لوك قودار”: ما هو الفيلم الوثائقي؟ ما هو الروائي؟ أعرف ذلك جيّدا لكنه ليس بالأمر الهيّن.
يتشابك هذا المفهوم في تجربة رضا الباه�� من خلال فيلم “العتبات الممنوعة” على سبيل المثال، وهو فيلم تمّ إخراجه سنة 1972، يدوم 31 دقيقة ويروي قصة شاب يدعى “سليم بن فرج” يبيع البطاقات البريدية للسياح الأجانب من زوار مدينة القيروان. بقطع النظر عن مسكنه المتواضع وحالة الفقر التي يعيشها، يقضي سليم معظم أوقاته أمام النزل التي تعتبر ممنوعة على أمثاله من المهمّشين، يحدق بنظرات جائعة لجمال الأجساد الأنثوية التي لا يستطيع الوصول إليها. في الأخير وأمام الكبت الذي يعيشه، ينتهي به الأمر إلى اغتصاب سائحة ألمانية قرب جامع المدينة، ليحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات.
يقول الباهي حول موضوع هذا الفيلم: “هي حادثة واقعية لم تحدث في الجامع، بل صارت على الشاطئ،  فتدخل رئيس الجمهورية بخطاب عن هذه الواقعة آنذاك، وحوكم الشاب بعشر سنوات سجنا، ليخفض الحكم فيما بعد إلى حدود خمس سنوات. لقد نال الموضوع انتباهي، وقررت تصويره في مدينة القيروان لأعالج بعض مواضيع تلك الفترة. هو فيلم مستوحى من اغتصاب سائحة على شاطئ المنستير فصورت اغتصاب سائحة قرب جامع عقبة ابن نافع”.
شريط “العتبات الممنوعة” مستوحى من واقعة أثارت جدل الرأي العام التونسي في تلك الفترة. فالفيلم يطرح مجموعة من الإشكاليات المتداخلة تتراوح بين واقع شاب مزري ومعاناته وبين علاقته بالآخر والتخيّل العنيف لصورته الحالمة ارتكازا على موقف إيديولوجي واضح للمخرج من خلال رموزه وإيحاءاته.

من فيلم “العتبات الممنوعة”

تدور أحداث الفيلم من خلال عملية استرجاع فني يسرد خلالها “سليم” على مسامع الحضور في قاعة المحكمة تفاصيل حادثة الاغتصاب، وبالتالي يمثل الفيلم زمن المحاكمة من خلال مراوحة الاستحضار المشهدي للأحداث ثم الرجوع لقاعة المحكمة.
يعتبر يوري لوتمان في كتابه “قضايا علم الجمال السينمائي” أنّ السينما تقدّم “نموذجا للعالم الواقعي. لكن المكان والزمان هما من أهم خصائص الواقع. والعلاقة القائمة بين الخاصية المكانية – الزمانية للموضوع (أي العالم الواقعي) والطبيعة المكانية – الزمانية للنموذج (أي السينما) هي صاحبة الدور الأكبر في تحديد جوهر هذا النموذج وقيمته المعرفية”. على هذا الأساس يحيلنا مفهوم الزمان وواقعية الأحداث نحو وقائع تخدم الرسالة السينمائية وتخطّ دلالات فيلمية تعجّ بالمعاني.

النظرة التوثيقية في الفيلم الروائي…
عمّق رضا الباهي من جدلية التخييلي والتوثيقي انطلاقا من واقعية القصّة وتناولها الفيلمي حيث يقودنا، عبر نظرة توثيقية داخل إطار الكاميرا من خلال إبراز صورة اليومي، في جولة عبر أرجاء مدينة القيروان لتبرز مظاهر من الحياة اليومية القيروانية ترصد صورة الحيّ الذي يقطنه “سليم”، حيث أطفال بصدد اللعب وصولا إلى أزقة القيروان وأسواقها الشعبية والحركيّة الدؤوبة التي تشهدها، هذا بالإضافة إلى المقهى المزدحمة بلاعبي الورق والمطعم الشعبي ونماذج من سكان المدينة. تظهر ملابس الشخصيات القيروانية لتلك الفترة والتي لم يرتّبها الباهي حسب أهوائه باعتباره لا يمكن أن يتحكم في ملابس ذلك العدد من الشخصيات التي تجوب شوارع القيروان وأزقتها.

المخرج “رضا الباهي”

فالملابس هي تأريخ لصورة نموذج مجتمع تونسي في فترة أواخر الستينيات، حيث يعكس اللباس خاصياته عبر الجولة التوثيقية التي تجوبها الكاميرا لتظهر الأصالة والمعاصرة عبر ملابس تونسية تقليدية (الجبة- البلوزه- الشاشية- السفساري) وأخرى عصرية.
لقد مرّر المخرج الفضاء العام التي تدور فيه الأحداث من خلال صور توثق الحياة اليومية وتصوير أبرز معالم هذه المدينة التي تتجسم في صورة لجامع عقبة ابن نافع العريق رمز عراقة البلد ككل وأسوار المدينة العتيقة، وهو ما جعل جانبا مهمّا من هذا الشريط يتخذ الجانب التسجيلي لنقل مشاهد من الحياة اليومية في سياق البناء التخييلي المولّد للدلالات والرموز والمواقف من خلال تحريف الواقع سينمائيا…
مدينة القيروان، كما صُوّرت، هي انعكاس لشعور الباهي تجاهها، فهي الفضاء الملهم الذي أحبه بجنون خفيّ، وهي التي باينت أفكاره ليرسم عبر ماضيها أفقا حياتيا. هي إذن، مجموع علاقات انفتحت لتقدّم لغة سينمائية فلسفية رمزية يسكن في رحمها زمن الستينيات. 
تمثل القيروان رمز المدينة الإسلامية مما جعل تصوير موضوع هذا الفيلم يثير العديد من ردود الفعل العنيفة إلى حدّ جعل الرقابة تمنع خروج هذا الفيلم في تونس إلى حدود أوائل التسعينيات. ولقد طوّع الباهي حادثة اغتصاب السائحة على شاطئ مدينة المنستير ليحوّلها إلى مدينته، ويشير في هذا الإطار ” لقد نال الموضوع انتباهي، وقررت التصوير في مدينة القيروان لأعالج مواضيع تلك الفترة، وبالتالي لم يكن في اعتقادي ولم يدر بخلدي عند تصوير الفيلم بإحداث ثورة…”.


إعلان