في مهرجان لندن السينمائي الـ 59
إنجريد برجمان التي لا يعرفها أحد
أمير العمري
الانطباع الأول الذي يخرج به المرء بعد مشاهدته الفيلم التسجيلي الطويل “إنجريد برجمان من كلماتها” Ingrid Bergman In Her Own Words للمخرج والناقد السينمائي السويدي ستيج بوركمان، أن النجمة الأيقونية الشهيرة التي لا تزال تتمتع بنجومية أسطورية (حلقت صورتها في كل مكان على ملصق الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي)، لم تكن فقط ممثلة سينمائية ومسرحية مرموقة، بل كانت أيضا مصورة أو بالأحرى، “مدمنة تصوير”، أي شخصية تؤمن بقوة، بأهمية الصورة والوثيقة وقيمتها كشاهدة على الفترات المختلفة في حياة المرء، فكانت حريصة على تسجيل كل لحظة من لحظات حياتها بالصور الفوتوغرافية أو بالكاميرا السينمائية، وهو ما نعرف من هذا الفيلم أنها اكتسبته عن والدها الذي علمها التصوير وكان يصورها منذ مولدها وظل يفعل حتى وفاته المبكرة عام 1929.
![]() |
إنجريد برجمان
|
لم تكن برجمان تمسك الكاميرا وتصور نفسها أو تدع الآخرين يلتقطون لها الصور وهي ممسكة بالكاميرا في أماكن كثيرة مختلفة من العالم فقط، بل كانت أيضا قد بدأت وهي بعد في الثانية عشرة من عمرها، في تسجيل مذكراتها بانتظام وبحرص شديد رغم ما اعترى حياتها من اضطراب وابتعاد، سواء عن وطنها أو عن أبنائها. ومن هذه الصور واللقطات والأفلام الشخصية والعائلية والمذكرات المكتوبة التي تركتها إنجريد برجمان، يتكون هذا الفيلم الممتع الذي يكشف الوجه الآخر للممثلة، الوجه الإنساني الذي لا نعرف عنه كثيرا، وهو ما لم يكن هناك مهرب منه أمام مخرج الفيلم، أولا لأن المادة التي توفرت له، فرضت عليه هذا المنحى، ثانيا أن هذه المادة، بسحرها وأهميتها التاريخية والتسجيلية والتوثيقية، لا تتناول فقط حياة وأبناء وعلاقات وصداقات وأزواج برجمان والمخرجين الكبار الذين عملت معهم، بل تلتقط وتسجل أيضا الكثير من التفاصيل الفرعية التي لفتت أنظار برجمان مبكرا، كما في المشاهد التي صورتها أثناء رحلتها إلى برلين في الثلاثينات قبل اندلاع الحرب، للشبيبة النازية في ملابسهم الشهيرة وهم يسيرون شوارع برلين، أو الاستعراضات النازية، ثم الحوانيت اليهودية التي تحمل شعار نجمة داود تمييزا لها، وغير ذلك، كما نرى لقطات سجلتها بكاميراتها السينمائية لبرلين بعد الحرب مباشرة وكيف كان الألمان يكافحون من أجل رفع الأنقاض بعد تهدم معظم مباني المدينة. ولكن هذا لا يعني أن الفيلم يخلو من، أو يقصر في التوقف أمام المراحل الفنية المختلفة في مسيرة برجمان، وما قامت به من أدوار، والظروف التي دفعتها للعمل مع عدد من أشهر المخرجين في تاريخ السينما مثل كنج فيدور، وفيكتور فليمنج، وهيتشكوك، روسيلليني، وجون رينوار، وأناتول ليتفاك، وانجمار برجمان، وأمام عمالقة التمثيل في العصر الذهبي: كلارك جيبل، وكاري جرانت، وهمفري بوجارت، وسبنسر تريسي، وغيرهم.
يعتمد مسار السرد في الفيلم على مذكرات برجمان نفسها التي تسردها بصوتها الممثلة السويدية أليسيا فيكاندر، بمصاحبة الموسيقى الرومانسية الناعمة التي كتبها الموسيقار الكبير مايكل نيمان. ويبدأ الفيلم بما تسجله برجمان عن وفاة والديها ثم الأركان الأساسية لعائلتها وهي لاتزال طفلة صغيرة، وتعلق بقولها إن هذا كل ما تتذكره عن تلك الفترة. نراها طفلة في الصور مع والدها، ثم نقفز مع نزول عناوين الفيلم الى إنجريد برجمان النجمة المرموقة التي يحيط بها المصورون والجمهور وهي تحضر العروض الأولى لأفلامها، ثم نعود في استعراض طويل لمسار حياتها من خلال تلك الوثائق والصور والأفلام والمقابلات.
تتحدث برجمان الحقيقية بالصوت والصورة في مقابلات عديدة انتقاها المخرج بدقة من تلك التي أجراها معها بعض ألمع الإعلاميين ومقدمي البرامج في محطات التليفزيون العالمية. وهي تتحدث في بداية الفيلم عن حياتها وأعمالها، ثم يقدم لنا الفيلم أبناءها: ايزابيلا وانجريد وروبرتو روسيلليني وهم أبناؤها من المخرج الإيطالي روبرتو روسيلليني، قبل أن يتطرق الفيلم إلى علاقتها بزوجها الاول “بيتر” في السويد الذي أنجبت منه ابنتها الأولى “بيا”.. وجميع
![]() |
هؤلاء الأبناء الأربعة يظهرون في الفيلم يتحدثون عن علاقتهم بأمهم وانطباعاتهم عنها وانتقالاتهم المختلفة معها أو اضطرارهم للعيش بعيدا عنها في أوقات أخرى، وربما يكون من أهم ما تقول ابنتها إيزابيللا روسيلليني (التي أصبحت فيما بعد ممثلة معروفة) إنها لم تجد في مذكرات أمها سوى حديثها المتصل عن “أبنائها”، على عكس ما كانت إيزابيلا تتوقع، من أن تعثر على الكثير من التفاصيل حول عملها وأفلامها. وقد يكون هذا هو السبب الأساسي الذي جعل الفيلم يميل أكثر إلى التركيز على فكرة تقديم بورتريه شخصي عن برجمان الإنسانة، أكثر منه عن برجمان الممثلة.
في الفيلم لقطات نادرة من أفلامها السويدية الأولى، قبل أن تنتقل الى هوليوود بدعوة من المنتج ديفيد سلزنيك، الذي أنتج لها فيلمها الأول “إنترميتزو” (1936)، وهي تروي كيف قضت فترة قبل تمثيل الدور، تتعلم إجادة التعبير باللغة الإنجليزية، وتطلع على عالم السينما في هوليوود، بعد أن خصص لها سلزنيك فتاتين للقيام بتلك المهمة المزدوجة. لكنها لم تحب هوليوود كثيرا بل شعرت بالملل بعد مرور سنوات وبعد حتى فوزها بالأوسكار، وأرادت أن تنتقل نقلة جديدة (لا يتوقعها الآخرون- كما تقول) فتقول أنها أرسلت خطابا الى المخرج الإيطالي روسيلليني، أحد رواد الواقعية الجديدة، تقول له إنها شاهدت فيلميه “روما مدينة مفتوحة” و”بايزا”، وترغب في العمل معه إذا كان يوافق على الاستعانة بممثلة تجيد الانجليزية، وتستطيع التعامل بالفرنسية، ولا تعرف سوى عبارة “أحبك” بالإيطالية!
من هنا يتطرق الفيلم الى انتقالها الى روما، وبدء علاقتها الشخصية بروسيلليني الذي تحمل منه في طفلتها الأولى، بينما لم تكن قد انفصلت بعد عن زوجها الأول، الطبيب السويدي بيتر ليندستورم، وهو ما شكل فضيحة كبرى لها في الصحافة الأمريكية التي شنت حملة عليها وصلت الى حد المطالبة بحظر التعامل معها في هوليوود!
نتابع كل هذه التفاصيل من خلال الصور واللقطات التسجيلية والمذكرات التي دونتها ونستمع إليها وهي تعلق عليها بعد مرور سنوات طويلة، ونشاهد كيف أنها تركت إيطاليا وذهبت الى باريس بعد انتهاء الحرب وشاهدت احتفالات الفرنسيين بهزيمة النازيين، وهناك التقت بروبرت كابا، وهو مصور حربي مجري، أقامت معه علاقة عاطفية قبل أن تتركه وتذهب الى بريطانيا للعمل مع الفريد هيتشكوك وفي لقطات ندرة نرى استقبالها من جانب الصحفيين في المطار، وأمام الطائرة تقف وبجوارها هيتشكوك أمام الميكروفون وعدسات المصورين لكي تجيب على اسئلة يوجهها إليها هيتشكوك نفسه، ثم نشاهد مجموعة من اللقطات الملونة التي صورتها برجمان لهيتشكوك في مواضع مختلفة، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تجمعها به.
تقول برجمان في الفيلم إن أفلامها مع روسيلليني لم تكن ناجحة، وإنه ابتعد عنها خاصة بعد سفره لتصوير فيلم في الهند ثم عاد فأقام علاقة مع امرأة أخرى، وتضيف أنها تحب أن تجري تغييرا في حياتها كل عشر سنوات. وتقول
![]() |
ابنتها “بيا” من زوجها الأول، إنها كانت تؤمن بأن الحياة مغامرة، وقد عاشت مغامرة الحياة بكل ما يعتريها. لكن هذا الانسياق وراء المغامرة الدائمة، لم يمنع انجريد من التفكير الدائم في أبنائها، وانتهاز كل فرصة تلوح للالتقاء بهم، ونشاهد في الفيلم كيف تزورها ابنتها “بيا” في لندن للمرة الأولى بعد أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها، ثم ذهبت اليها في ايطاليا بعد زواجها من روسيلليني وأقامت وقتا هناك استمتعت فيه بصحبة أخواتها من روسيلليني، وما كانت لترغب في العودة لكنها ارتبطت بوالدها ارتباطا كبيرا وظلت حتى النهاية لا تفهم- كما تقول في الفيلم- لماذ تخلت أمها عنه وهو الذي تراه شخصا رائعا!
يتوقف الفيلم أمام علاقة برجمان بالمسرح وولعها به رغم نجوميتها الكبيرة في السينما، وكيف أنها عادت مرة أخرى الى أمريكا بعد 21 سنة من مغادرتها، لكي تقوم بدور في مسرحية أمام الممثلة سيجورني ويفر التي تظهر في الفيلم لتتحدث عن انطباعاتها عن العمل مع انجريد برجمان. وتروي إنجريد في إحدى المقابلات المصورة، كيف تعرفت للمرة الأولى على المخرج السويدي الراحل إنجمار برجمان في مهرجان كان السينمائي وكانت هي عضوا في لجنة التحكيم في تلك السنة، ثم طلبت أن تعمل معه، وكان أن تعاونت معه في فيلم “سوناتا الخريف” (1978). وهي تروي كثيرا عن كيف أنها أبدت اعتراضا شديدا على طريقته في العمل، كما تتحدث عن رفضها وتمردها على كل تفاصيل الدور والحوار والديكور بل ورفضها التعامل مع الممثلة الثانية في الفيلم لينا نيمان، ثم كيف استطاع برجمان أن يدفعها الى النظر إلى الشخصة التي تؤديها من زاوية مختلفة تماما عن نظرتها إليها، وهو ما ألهمها طريقة التعامل مع الشخصية لتؤديها بطريقة لم تكن تخطر على بالها!
لاشك أن أهمية الفيلم تنبع أساسا من اللقطات والصور النادرة التي يضمها، ومن اهتمامه بنسج تفاصيل بورتريه لشخصية امرأة تمردت مبكرا على واقعها، ورفضت الاستسلام له، وقررت أن تبحث عن وجودها وفرض شخصيتها الخاصة، من خلال ارتباطها بعالم التمثيل الذي كانت تعيشه كأنها تعيش الواقع في حين أنها كانت تتعامل مع الواقع كما لو كان قصة خيالية، أي لا تقيم له وزنا كبيرا.
وإنجريد برجمان التي توفيت جراء اصابتها بسرطان الثدي عن 67 عاما عام 1982، ظلت بابتسامتها الساحرة وشخصيتها التلقائية وتمردها وجرأتها في مواجهة نتائج اختياراتها، شخصية مثيرة للخيال ومنبعا للإلهام. إننا نراها في الفيلم بعد تقدمها في العمر وأحد رجال الإعلام يسألها عما إذا كانت تشعر بالندم إزاء أي شيء في ماضيها؟ فتكون إجابتها التلقائية المباشرة: لست نادمة على أي شيء فقد كنت أفعل ما كنت أشعر به.. بل أنا نادمة على ما لم أفعله!