“عواصف الربيع”.. شجاعة المرأة المصرية منذ اندلاع ثورة يناير

منذ اندلاع ثورات الربيع العربي قبل سنوات انبثق عدد من الأفلام التي أخذت على عاتقها مهمة مواكبة تلك الأحداث الساخنة في مختلف البلدان، وأغلب هذه الأفلام كانت وثائقية، وقد حاولت أخرى روائية -وهي قليلة العدد نسبيا مقارنة بالوثائقية- على استحياء الانغماسَ في الإمساك بأسبابها أو تناول أحداثها أو لحظات منها.

بالطبع، هناك تفاوت كبير جدا في مستوى ما قُدّم من أفلام وثائقية أو روائية على امتداد السنوات السابقة وحتى اليوم، وهذا التفاوت ليس عيبا في حد ذاته، بل يكاد يكون طبيعيا ومفهوما ومقبولا أيضا، لكن ما ليس مقبولا هو وقوع أغلب هذه الأفلام في نقاط ضعف مشتركة، تفاداها أحد الأفلام الوثائقية التي تناولت الربيع العربي من منظور خاص، ويحمل عنوان “عواصف الربيع” (The Trials of Spring)، وهو من إخراج الأمريكية “جيني ريتيكر”.

أثناء تلك الأحداث الساخنة أو بعدها وقع غالبية المبدعين السينمائيين في فخ عدد من الأخطاء القاتلة ونقاط الضعف المشتركة، ومنها على سبيل المثال السرعة والتشوش بين فكرة وأخرى، وانتفاء التماسك البنائي أو التناغم أو الوحدة الموضوعية، إلى جانب الافتقار إلى وجود بؤرة أو خيط واضح تتركز حوله أحداث ومشاهد الأفلام. ناهيك عن المستوى الفني الخالي من الإبداع والتجديد والابتكار والثورية بالأساس، ومن ثم فقد جاءت أغلب الأعمال مواكبة لهذه الأحداث المفاجئة وغير التقليدية، لكن بأساليب ومفردات جامدة وشديدة التقليدية.

أفلام الربيع.. وثائقيات لا ترقى لمستوى التقرير التلفزيوني

لقد بدا جليا أن أكثر الأفلام التي تناولت الربيع العربي في النهاية ليست سوى مجموعة من اللقطات المتكررة والمستهلكة، ومحض تقارير إخبارية مُجمّعة موضوعة معا جنبا إلى جنب لتشكل في النهاية ما يطلق عليه “فيلم”، أو هي في أحسن تقدير لا تكاد ترتقي إلى مستوى التقارير الصحفية التي تعدّها القنوات الفضائية والتلفزيونية لمواكبة الأحداث الساخنة في العالم.

ربما كان جزء من هذا مردّه لعامل السرعة والرغبة الحارقة في المواكبة والإنجاز، بصرف النظر عن الجودة، وربما أيضا للوهم الخاطئ بأن مجرد توفر مادة نادرة الحجم والقيمة أو غير مستهلكة يمكن أن يصنع فيلما متميزا، بصرف النظر عن أي شيء آخر.

من ناحية أخرى ربما يكون الأمر نتاج تشبّع المخرجين بما بُثّ على مدى شهور وسنوات طويلة أثناء تلك الأحداث أو بعدها، وبالتالي فقد انطبعت في أذهانهم بشكل واع أو غير واع نفس تقنيات السرد الإخباري التقريري التي بثت بها المحطات الإخبارية مادتها.

هذا العيب يعيدنا لما ذكرناه آنفا، من غياب الرؤية والتخطيط والتركيز والسرعة، وقبل كل شيء مسائلة المخرج لنفسه، قبل الإقدام على خطوة الإمساك بالكاميرا والشروع في التصوير، عن ما يريد صناعته بالضبط، وما الذي يرغب في إيصاله أو قوله.

هذا ما لا نراه، على سبيل المثال في فيلم “ماء الفضة” للمخرج السوري المتميز أسامة محمد، إذ يتميز بجودة البناء وصلابته، ووجود الرؤية والهدف وراء صناعته للفيلم، وطموحه في الخروج من وراء كل تلك الصور المفزعة برؤية شاعرية نجح في تقديمها. ناهيك عن معرفته التامة بما يرغب في قوله وإيصاله، وكيفية القيام بهذا على نحو فني شديد الجودة والتميز والتكثيف.

“عواصف الربيع”.. عمق وحيادية في اضطهاد المرأة المصرية

يعتبر فيلم “عواصف الربيع” للمخرجة “جيني ريتيكر” من أهم الأفلام الوثائقية التي صُنعت عن الثورة المصرية، ويمتد زمن عرضه لساعة ونصف تقريبا، وهو آخر أفلام هذه المخرجة التي تتمحور معظم أفلامها بشكل أساسي حول قضايا المرأة واضطهادها ومعاناتها في ظل مختلف القوانين الجائرة بالبلدان العربية، أو ما تمارسه تلك المجتمعات على المرأة بمختلف انتماءاتها وطبقاتها.

يتلافى فيلم “عواصف الربيع” تقريبا كل العيوب التي رصدناها وتحدثنا عنها من قبل، ورأينا أنها شابت أغلب أفلام الربيع العربي، فهو يتسم بالعمق والحيادية من ناحية، إلى جانب التركيز -وهذا هو المهم- على طرح قضية واحدة رئيسية بعينها، وهي هنا اضطهاد المرأة المصرية بصفة عامة وشجاعتها بصفة خاصة، مع التركيز على ذلك زمنيا عبر الفترة التي بدأت مع اندلاع الثورة وسخونة الأحداث وتفجّرها في عام 2011، وذلك من خلال رصد نموذج واحد بعينه لفتاة مصرية.

النساء المصريات كان دورهن واضحا في ثورة يناير عام 2011

إن بناء فيلم “عواصف الربيع” يعتبر من أهم نقاط قوته، حيث اتساق الشكل مع المضمون، والخط الرئيسي مع الخطوط الثانوية، وكلها بالنهاية تخدم الفكرة الرئيسية، وتعمل على إيصالها على نحو شديد القوة.

هند نافع.. شعلة الثورة التي تكاتف الجميع على إخمادها

يتركز خيط الفيلم الرئيسي حول قصة الشابة هند نافع التي تسافر من قريتها للإسهام في إسقاط نظام مبارك في الأيام الأولى من الثورة، فيقبض عليها وتضرب وتعذب على يد الأمن، ثم تعاقب وتحبس لاحقا على يد أسرتها لجرأتها وتمردّها ومطالبتها بحقوقها من ناحية، ومن ناحية أخرى جراء ما جلبته إلى العائلة من مشاكل لا قبل لها بها.

الأمر الذي يدفعها في النهاية لترك منزل عائلتها للعيش بالقاهرة، والدفاع عن قضيتها وحقها الطبيعي في إبداء رأيها. منذ تلك اللحظة فصاعدا، تتخذ حياة هند منحى آخر مغايرا تزداد فيه حدّتها وشراستها في الدفاع عن نفسها وحياتها ومستقبلها، كلما أمعن المجتمع من ناحية والسلطة الباطشة من ناحية أخرى في ظلمها والتنكيل بها والتعدي على خصوصياتها.

لقد تعمدت المخرجة ترك القضية المتهمة بها هند نافع دون تتبعها لنهايتها وإنهاء الفيلم، وذلك في دلالة واضحة لعدم انتهاء المشكلة الرئيسية المتعلقة بالظلم، وفي نفس الوقت، إظهار مدى قوة هند في التصدي لها والدفاع عن نفسها حتى النهاية.

شجاعة في وجه المراهنين على الانكسار.. رسالة الفيلم

ترصد الخيوط الفرعية التي يتتبعها الفيلم على نحو مكثّف ظواهر قهر وتعذيب وحرمان المرأة بصفة عامة في المجتمع المصري، وحتى أوجه التنكيل والتحرش بها في مختلف المجالات، وذلك على امتداد الفترة الواقعة منذ بزوغ الحلم في يناير عام 2011، وحتى أفوله التام في مطلع عام 2015.

وللتركيز على هذه الجوانب استعانت المخرجة بعدد من اللقطات الأرشيفية الجديدة بعض الشيء أو المستهلكة، لكن في الوقت نفسه وظفتها جيدا من خلال المونتاج، لتخدم الهدف الرئيسي للفيلم وخطوطه الثانوية، وتحقق أقصى استفادة ممكنة.

إلى جانب هذا استضافت المخرجة مجموعة قليلة من الناشطات والمساهمات في الثورة المصرية، وذلك للإدلاء بآرائهن والتعليق على الأحداث بصفة عامة، وعلى قضية هند نافع بصفة خاصة، ورغم أن تلك الشهادات تعتبر أيضا خطوطا فرعية أو ثانوية، فإنها لم تحد في النهاية عن الخط الرئيسي، وعن الرسالة التي أرادت المخرجة توصيلها عبر فيلمها.

وإلى جانب تسليطها مزيدا من الضوء على ما تتعرض له المرأة في مصر، فإن تلك الرسالة تتلخص بقوة في أن هؤلاء النسوة اللاتي تعرضن ويتعرضن وسيتعرضن لكل هذا لم تنكسر شوكتهن أبدا، ولم تضعف قوتهن ولن تهن عزيمتهن، بل يخرجن وسيخرجن دائما أكثر قوة وحماسة وفداء، رغم درايتهن التامة بالعواقب، وأن كسر قوتهن وإرادتهن بالفعل هو الهدف الرئيسي من استهدافهن والتنكيل بهن.

إن شجاعة المرأة التي فاجأت وأدهشت الجميع بما أقدمت عليه من أفعال وسط كل هذه الأحداث العصيبة منذ اندلاع الثورة؛ هي ما أرادت المخرجة أن تبرزه لنا وتقدمه عبر نموذج الفتاة هند نافع.

رصد السلبيات.. تجاهل وجهة نظر الطرف المدان

قد يأخذ البعض على فيلم “عواصف الربيع” جنوحه التام منذ البداية إلى النهاية إلى رصد السلبيات منذ فترة حكم المجلس العسكري، ومرورا بانتخاب وحكم الرئيس محمد مرسي، وانتهاء بمرحلة حكم السيسي، إضافة إلى عدم وجود أي وجهة نظر أخرى محايدة، أو حتى تنفي أو تدين أو توضح القضية المثارة بالفيلم.

هذا برأينا هو دور أي فيلم جاد؛ التركيز على المشكلات، ورصد السلبيات بالأساس مهما كانت قتامة الصورة، وبصرف النظر عن أي انحيازات سياسية كانت أو فكرية أو عقائدية أو غيرها، طالما أن الواقع لم يتغير.

أما عرض وجهة النظر الأخرى، وهي هنا وجهة النظر المتعلقة بالطرف الآخر المدان سياسيا واجتماعيا وسلوكيا، حتى لو رغبت المخرجة في استعراض وجهة النظر الأخرى تلك، فبالتأكيد أنه من الصعوبة بمكان أن يسمح لها بهذا، أو حتى بتصوير مثل هذا الفيلم من الأساس.


إعلان