بلال.. من مؤذن إلى شخصية جدلية في هوليود
تبدو الفترة المبكرة من الإسلام عصيّة على دخول السينما، فشخصيات أبطالها الأساسيين ولا سيما شخصيتها الرئيسية النبي محمد عليه السلام ما زال تجسيدها محل إشكال وحساسية لم تحسم بعد عند المسلمين.
هذا يعني أنك ستحكي حكاية بصرية بدون بطلها، وهو إشكال أصاب المسلسل الذي أنجزه حاتم علي ووليد سيف حول الصحابي عمر بن الخطاب، فكانت أعمالهم المشتركة مثل “ثلاثية الأندلس” و”الزير سالم” أكثر جمالا ونضجا، وذلك لأن رفع التقديس الشكلي يتيح المجال لتقدم قدسية الجمال، ويجعل التاريخ ممكنا ومتاحا للمحاكاة والتخيّل.
إن فيلم “بلال.. سلالة بطل جديد” (Bilal.. A New Breed of Hero) الذي نحن بصدده يحكي قصة الصحابي بلال بن رباح، وهو من إنتاج شركة “بارجون إنترتينمنت” عام 2015، وإخراج المخرج الباكستاني “خورام آلافي”، وكتابة وإنتاج السعودي أيمن جمال، وبالتعاون مع الممثل الأمريكي “ويل سميث”.
لقد احتاج العمل إلى حوالي سبع سنوات ليرى النور كما يقول القائمون عليه، ويحتوي على 88 شخصية، من بينهم أبو بكر الصديق وحمزة بن عبد المطلب وأميّة بن خلف وسعد بن أبي وقاص، وهو أول فيلم لإستديو “بارجون إنترتينمنت” السعودية، وأول فيلم رسوم متحركة طويل المدّة يُدعم ويُنتج في “الشرق الأوسط”.
بلال بمواصفات هوليود النمطية.. خلل بناء الشخصية
لقد كان الفيلم فعلا على درجة عالية من جماليّة الصورة، وامتاز بلقطات مُتقنة مصحوبة ببناء مميز للأماكن والشخصيات والحبكة، بالإضافة لجمالية الموسيقى التصويرية المرافقة للفيلم.
الفيلم ناطق باللغة الإنجليزية، مما يعني مبدئيا أنه ليس موجها لنا، لكن هذه ليست المشكلة، فالفيلم لم يكن عن بلال من الأصل، إنك لن تشاهد فيلما عن حياة الصحابي بلال كما كنت تظن من الإعلان، بل من الممكن أن يكون عن “سليمان نورثوب” بطل فيلم “12 عاما من العبودية” (12 Years A Slave)، تلك النوعية من الأفلام التي صدّعت هوليود رؤوسنا بها لحل إشكالية ضمير الرجل الأبيض.
حسنا يتضح الآن أن بشرة بلال السوداء واستعباده أهلّته ليكون بطل الفيلم في منطقة شهدت الرِّق لكنها لم تقم عليه، ولتكتمل “المهمة الدعوية” التي دفعت بالفيلم أن يُنتج؛ كان على بلال أن لا يعود بلالا.
إنه بلال وقد هيّئ ليصبح مقبولا عالميا، بلال وهو في طريقه لإلقاء خطاب عن الحرية والمساواة على منابر الأمم المتحدة.
أمية بن خلف.. ثورة ضد رأسمالي ملحد في المجتمع المكي
يبدأ الفيلم ببناء شخصيّة بلال منذ خطفه من أرض الحبشة من بين ذراعي أمه، ليجد نفسه في مكة عبدا لأميّة بن خلف أحد سادة قريش، وأميّة سيّد إقطاعي ورأسمالي أيضا لا يقدس شيئا غير المال، ولا يعرف قانونا غير قانون السوق، في وقت لم يكن فيه رأسمالية ولا سوق.
يتوالى بناء السيد أمية بهذا التسطيح ليظهره مُلحدا لا يؤمن حتى بآلهة قريش، وإنما يراها مصدرا لجني المزيد من الثروات والتراكم، ويحرس عملية مراكمته لرأس المال رجل دين يشرف على إقناع الناس بتقديم الأموال للآلهة وشراء الأصنام التي يقترحها أمية في مجتمع لم يشهد ظاهرة رجال الدين.
ومع أن هذه الصورة لا علاقة لها بالوقائع التاريخية، فقد كان من الضروري تركيبها بمحاكاة مع التجربة الأوروبية، لأن الفيلم مصنوع لهذا الغرض، فإن كان المشاهد الغربي كسولا عن قراءة السياق التاريخي لمنطقتنا، فلنغير هذا السياق لما يعرفه.
أما شخصية بلال فإنها تتوق للتحرر من العبودية بعد أن التقى بالتاجر الطيب أبي بكر الصديق الذي أخبره أن الحرية والمساواة مبادئ أصيلة، وأنها ممكنة التحقق، وحين يعلم لاحقا أمية بهذه الصداقة الجديدة، فيسأل بلالا عن ذلك، فيلقي عليه خطابا يشبه خطاب “مارتن لوثر كينغ” أثناء مسيرة واشنطن للحرية “لدي حُلم” (I have a dream)، فيوقع عليه العذاب الأليم في صحراء مكة.
وخلال ذلك فإن الشعار الشهير الذي اشتهر به بلال وهو “أحدٌ.. أحدٌ” يتحول إلى “فقط واحد” (Only One)، بعد أن يسأله صفوان عُدّ معي كم آلهة نعبد؟ حيث يطلق بلال صرخة تخرج من أعماقه بكلمة “حر” (Free)، وهي تشبه صرخة “ميل جيبسون” في فيلم “قلب شجاع” (Brave Heart).
“تحسين صورة الإسلام”.. فيلم موجه لجميع الأديان
تسير أحداث الفيلم بتجاهل تام للرسالة السياسية والتوحيدية التي كانت تحملها التجربة، ومع توجيهات حكيمة من أبي بكر الصديق لبلال بأن العنف لا يحل المشاكل، نشاهد بلالا خلال كل ذلك يغني بالإنجليزية، لكنه لم يمارس مهمته التي لم يشتهر بغيرها وهي الأذان.
لم يعد بلال يؤذِّن حتى في حضرة مشروع “تحسين صورة الإسلام”. بل هو محاولة للتسويق والترويج المعرفي لشخصية بلال بن رباح، دون التطرق إلى أي ملامح دينية، كما يقول كاتب الفيلم أيمن جمال، مشيرا إلى أنه فيلم موجه إلى جميع الأديان، وليس إلى المسلمين فقط الذين درجوا على الانغلاق على أنفسهم في السينما، وإنتاج أفلام موجهة لهم دون سائر الملل والنحل. لكنه بالمقابل وعد أن يدرج الأذان في النسخة العربية من الفيلم.
إنّ فكرة إنتاج فيلم دعوي موجه للغرب هي فكرة تُسيء للسينما والفكرة معا، فليست السينما منتجا دعائيا، ولا الفكرة بضاعة للتداول في السوق، ومع ذلك فالفيلم لا يمكن وصفه بأنه دعوة موجهة للغرب، بل هو إعادة إنتاج للإسلام بما لا يزعج الغرب.
انسلاخ السياق.. مفهوم الحرية الممسوخة ثقافيا
لقد نزع الفيلم السياقات التاريخية للعرب في فترة النبوة ووضعها في قلب القرن الثامن عشر في الغرب، ومن ثم عمل على تقشير القصة من كل حمولتها الذاتية لتصبح مجردة من نفسها، إنها أي شيء آخر إلا قصة بلال والدعوة المحمدية، وإن كان هذا في مصلحة الإسلام -كما يفترض عادة- فهو في مصلحة الإسلام مقلّم الأظافر الذي تتقبله قوى السيطرة في المنطقة، وكأنك لكي تتبرأ من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، عليك أن تتبرّأ من نفسك وتلقي بها في سياقات الآخرين.
إن تضخم “المفهوم” وتحوله لرمز ناتج عن ضيق واقعه، وهذا ما حدث مع مفهوم الحرية، لذلك حين نتساءل لماذا لم يحضر مفهوم الحرية بشكل مركزي في سياقنا التاريخي، فذلك لأن الدولة الإسلامية الأولى ليست كالدولة الليبرالية الحديثة التي لم تدع تفصيلا إلا ووضعت أنفها فيه، جاعلة كل الوظائف الاجتماعية والسياسية لا تقوم إلا تحتها، كما يذهب لذلك عبدالله العروي، هذا يعني أنه لكي ينضج مفهوم ما، يشترط ذلك أن يسبقه نضج نقيضه.
وإن كان الفيلم يحاول البحث عن الحرية بما هي “قيمة” وليست “مفهوما” (وهي مهمة لم يقم بها الفيلم) فسيجدها في البداوة والتصوف والتصعلك، إنها تعابير جسّدت ما تطلع الناس إليه وقتها من سعة في العيش وفسحة التصرف، ومع العروي نذهب إلى أن الفرد التقليدي يعي بذاته حينما يغادر نهائيا الجماعة ويواجه الدولة، أو يرفضها رفضا مطلقا، وإن كان مجردا. هكذا كان يفعل الصعلوك إزاء القبيلة، والفرد الصوفي إزاء الدولة.
ومن الممكن البحث في قيم التوحيد ذاته التي يمكن اشتقاق قيم التحرر منها كما صاغها ربعي بن عامر حول “إخراج العباد من عبادة العباد، لعبادة رب العباد”.
لا يمكن لهذه الجملة أن تكون ليبرالية الطابع، إنها توحيدية تقترح التوحيد كخلاص من أي علاقة بقوة أرضية، وإعادة ربطها بقوة عليا، مما يعني أن تقديمها يكون بوضعها في سياق ما اقترحته هي، والحكم عليها وعلى مدى تحقُّقها في فضاء التجربة متروك للمعالجة السينمائيّة.
نظام الرق.. مجتمعات عبودية من الصفر في العالم الجديد
إن العنصرية كإقامة لتمايز هرمي بين الــ”نحن” و”الآخر” كانت موجودة منذ القدم -كما يذهب لذلك الأنثروبولوجي “شتراوس”- وصحبتها حالات واسعة من الاسترقاق، لكن نشوء “نظام الرقّ” بما هو نظام، فقد تطور في حضن الحركة الاستعمارية الغربية بعد اتصالها بأفريقيا وغزوها للأمريكتين، فلقد بنت إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال مجتمعات عبودية من الصفر في العالم الجديد، وتحالفت الثقافة العنصرية مع رأس المال في نظام الرق، فلا يمكن إسقاط هذه التجربة بأثر رجعي، لأنّه ليس من الممكن فهم “نظام الرقّ” بدون فهم الرأسمالية والاستعمار معه.
ثمّة مأزق أوقع الفيلم نفسه فيه؛ فإذا كانت دعوة الإسلام هي دعوة تحرير عبيد ومساواة، فكيف يمكن تفسير العبودية في ظله بل وتوسعها؟
لم يحرر الإسلام العبيد، لكنه ثابر على تجفيف منابع العبودية من خلال التشريعات التي وضعها، وهذا في سياق طبيعي لدعوة تاريخية، أما نزعها من سياقها التاريخي واقتراح أسئلة الحاضر للإجابة عليها؛ فهو تحامل على التاريخ من حيث نظن أنه إنقاذ له.
السؤال الذي خرجت به عندما انتهيت من مشاهدة الفيلم هو التالي: هل بإمكاننا إنتاج فيلم تاريخي عربي يلتزم بالشرط الجمالي المتحرر من هاجس إثارة إعجاب الآخر، ومن مجاملة الذات التي ترى بالتاريخ مدينة فاضلة، أو تثابر على خلقه كذلك؟