“طريق مانديلا”:عن الروائي والوثائقي والذاتي

طاهر علوان

” لقد مشيت طريقا طويلة نحو الحرية ولكنها لم تنتهِ بعد ..”
 مانديلا

الطبيعة الممتدة التي تحتضن قرى هادئة من ” اومتاتا ” في جنوب إفريقيا والكل يرقص رقصة اسمها الحياة فيما صوت مانديلا الطفل والفتى الذي لا يهدأ تتردد أصداؤه وإن هو إلا ذلك الفتى الذي يحمل اسم “أوليس لاسا” كما سمّاه أباه ومعناه “صانع المشاكل” لكنه منذ ذلك الحين وهو يُعلِّق ضاحكا، إنني لم أكن يوما صانع مشاكل أبدا لكنني إنسان عاشق للحياة والحرية وكاره للعبودية .
إنه مانديلا الإنسان والثورة والتاريخ، في سيرة أخرى جديدة تضاف لمن تناول ذلك التاريخ الحافل سواء روائيا أو سيرة ذاتية أو فيلما وثائقيا ولابد أن نُذكِّر هنا الأفلام الآتية التي تناولت هذه السيرة: فيلم مانديلا ، إخراج فيليب سافيل / 1987، فيلم مانديلا وكليرك ،إخراج جوزيف سارغيت / 1997، فيلم وداعا بافانا، إخراج بيل أوغوست / 2007 ،فيلم الذي لا يقهر للمخرج كلينت ايستوود 2009 / ،فيلم ويني مانديلا، إخراج داريل رودت / 2011
ها نحن مع فيلم: “مانديلا: مسار طويل إلى الحرية” للمخرج  “جاست تشادويك” وهو آخر ما أنتج من أفلام عن سيرة هذا العملاق وكان هو يحتضر في لحظة العرض الأول للفيلم في إحدى الصالات البريطانية بحضور ابنتيه (زيناني – 1959) و (زيندزي – 1960) وبحضور الأمير ويليام الذي لم تفارقه الصدمة ساعة خروجه من الفيلم فراح يرثيه بكلمات متأثرة قائلا:” يجب أن نتذكّر على الدوام أي إنسان استثنائي وملهم هو مانديلا ” .
نحن الآن في حقبة الأربعينيات من القرن الماضي مع مانديلا الشاب وقد تخرّج من كلية الحقوق ليجد مكانه الصحيح في الدفاع عن الحق والحرية – يؤدي الدور الممثل والمنتج والموسيقي البريطاني وأصوله من سيراليون “إدريس إيلبا” وها هو بصوته الجهوري يدافع عن امرأة بريئة ويطلق سراحها ثم ليفنّد الادعاءات في مقتل شاب ضربا حتى الموت لأسباب عنصرية على أيدي البيض.

من هنا ستنطلق الشرارة وسيتابع الفيلم مراحل انطلاق الثورة ضد نظام الفصل العنصري “الأبارتهايد” بينما يخوض مانديلا الشاب وضعا اجتماعيا غير مستقر بسبب غيابه الطويل عن أسرته مما يتسبب في تصدعها ولقائه مع أول فتاة إفريقية تعمل في مجال الخدمة الاجتماعية في جمهورية البيض وهي رفيقة دربه ويني (الممثلة نعومي هاريس) .
لن تفلح محاولات ثنيه عن الحدّ من نشاطاته الثورية وتعرض حياته للخطر فها هو يقود تظاهرة لاعتصام الأفارقة عن ركوب الباصات تفضي إلى صدام دامٍ مع أجهزة الأمن ثم ليتصاعد الصراع بسبب طلب السلطات من جميع السود أن يحملوا على الدوام ما يثبت هويتهم، وهو ما يدفع مانديلا وصحبه وسائر المنتفضين إلى إعلان العصيان على هذا القرار العنصري والبدء بإحراق الهويات الشخصية ثم تنظيم تظاهرات ضخمة تنتهي بصدام دام جديد مع أجهزة الدولة وهو ما يترتب عليه إعلان الكفاح والعصيان المسلح والثورة وذلك من خلال الجبهة التي أسسها مانديلا وصحبه، ثم ليتبع ذلك سلسلة من التفجيرات واستهداف المقار الحكومية حتى يصبح مانديلا والمجموعة المقربة منه هدفا مباشرا لأجهزة الدولة المنشغلة في البحث عنه لكنه لن يتوقف عن تثوير جمهوره وإلقاء الخطب الحماسية وتوزيع المنشورات التي تدعو للثورة .
“خمسون عاما ونحن نتحدث عن السلام والمطالب المشروعة فيما تفرض الحكومة السلاح على شعب غير مسلح وعاجز” .. بهذه الكلمات يعلن مانديلا قيادة التمرد ليلاحَق من طرف السلطات ويلقى القبض عليه في العام 1963  ثم ليصدر الحكم بالسجن المؤبد ضده وضد زملاءه ولينقل إلى جزيرة روبن في العام 1964  ليقضي محكوميته هناك .

بعد هذا الفصل المهم سنكون إزاء ثنائية  الوثائقي/الروائي إذ سرعان ما سيتبادر إلى الذهن سؤال عن كيفية ملء تلك الفجوة أو المساحة الممتدة زمانيا وهي زمن السجن في تلك الجزيرة  1964)) والأحداث التي وقعت في إطار الثورة المتصاعدة التي خلّفها مانديلا وراءه وصولا إلى خروجه من السجن ((1990 .
لعل استخدام الوثائق الفيلمية هي إحدى الأدوات التي لجأ إليها المخرج في تدعيم قصة الفيلم وعدم إشعار المشاهد بالرتابة وترهل الأحداث فيما يتعلق بحياة المعتقل اليومية، بل إنه في الحقيقة أقام توازنا موضوعيا في البنى السردية ما بين الروائي والوثائقي إذ ظلّت العلاقة نديّة بين مانديلا وسجانيه، وفي أقلّها ذلك السجال بينه وبين آمر السجن في تلك الجزيرة النائية الذي أمعن في التنكيل بمانديلا وصحبه .
يقرأ الناقد (جوردان هوفمان) هذه العلاقة الإشكالية الثلاثية: الروائي – الوثائقي – السيرة الذاتية.. فيما يتعلق بمانديلا وعلى مرّ التجارب الفيلمية التي جسدّت شخصيته أن المخرج قد استفاد منها في إعادة صياغة معالجة مختلفة، ركّز كثيرا على خطابات وأحاديث مانديلا وجعلها خلفية للأحداث، ولنا أن نضيف منح المخرج لحياة مانديلا الشخصية مساحة مقنعة ومبررة إلى حد ما كمشاهد فشل زواجه الأول، والرومانسية التي طبعت صلته برفيقة دربه (ويني)، وقد أظهر مانديلا وهو الواثق من قراراته رغم اختلافه مع مكتبه السياسي في اعتماد النضال السلمي بديلا عن العنف وهي نقطة خلاف جوهرية مع ويني التي أفضت إلى انفصالهما قبل سنوات من رحيله.
إذاً فيما يتعلق بالسيرة المتشعبة والتي تعج بالأحداث نجد أن كاتب السيناريو (وليم نيكولسون) والمخرج سعيا إلى إدامة جذوة الصراع لمحور أساسي مع عدم غغفال الفضاء الاجتماعي والإنساني لمانديلا وهو ما سيظهر في طبيعة علاقته مع زملاءه ومع والدته وحتى مع سجّانه الذي أمضى معه زمنا في جزيرة روبن.

مونتاجيا وسرديا حفل الفيلم بجماليات مضافة عززت من البناء الروائي للسيرة الشخصية لمانديلا كمشهد إلقاء القبض عليه والمشاهد واللقطات من الاعلى لسيارته المحاصرة بين سيارات الشرطة، مشهد عزله في الزنزانة في مقابل زوجته المنشغلة بأطفالها في مشهدين متوازيين صُورّا من أعلى، الهجوم على منزل ويني واعتقالها في مقابل الأشغال الشاقة التي فُرضت على مانديلا، اجتماع رجالات الحكم العنصري للبحث عن مخرج للأزمة في مقابل البوح الشخصي لمانديلا  (voice over).
سنصل إلى العام 1970 وإطلاق سراح ويني بعد قرابة عام ونصف من السجن والتعذيب وهو ما يدفعها إلى تأكيد ان لا سبيل للثورة السلمية وأن الحقوق تؤخذ بالصدام المسلح المباشر وهي نقطة خلافها الجوهرية مع مانديلا. وابتداء من ذلك العام سنشهد تصاعدا في الصراع: تدفق للصور الوثائقية لمقاطعة البضائع التي تنتجها الحكومة العنصرية، المظاهرات والصدامات الدامية، انطلاق مطالبات على مستوى العالم لإطلاق سراح مانديلا ثم لتتوالى عروض حكومة الفصل العنصري لمانديلا بغرض السيطرة على العنف وفي إطار ذلك نقله في العام 1983 إلى سجن في كيب تاون أتاح له مزيدا من التواصل مع أسرته ولتشهد حقبة الثمانينات تصعيدا  دمويا مروعا في المصادمات بين الطرفين حتى أصبح نظام (الأبارتهايد) علامة فارقة على مستوى العالم، ففي تظاهرة واحدة قُتل 300  متظاهرا من السود في مقابل شخص واحد من البيض، وهنا يُعرض على مانديلا منحه حصة من السلطة في مقابل إسكات التظاهرات والصدامات اليومية، لكن مانديلا سيطرح سؤالا محددا للمفاوضين البيض الذين أرسلهم الحاكم العنصري دي كليرك: ماذا تريدون؟  الانتقام أم العيش بلا خوف وبلا كراهية؟ فمنح حصة من السلطة معناه استمرار الانتقام والانتقام المضاد وأما منح الحقوق المدنية كاملة فمعناه أن يعيش الطرفان بلا خوف ولا كراهية.

هاهو شكل البلاد يتغير فجأة: مشاهد أكثر دراماتيكية في ذكرى عيد ميلاد مانديلا السبعين وحيث تلقي ابنته خطابا تضمّن خارطة الطريق من وجهة نظر مانديلا لإنقاذ بلاده، ليزداد تمسُّك الثوار به وبزعامته وسيتدخل لوقف العنف مرارا وخصوصا في أحداث مطلع العام 1990  الدامية لكن ذلك لن يحيد مانديلا عن طريق سلمية الثورة، فها هو وقد أمضى 27  عاما سجينا يقول لسجانيه: “لقد أذهبتم نصف عمري في سجونكم وظلمكم لكنني لن أنتقم..” ويدعو شعبه لمسامحة جلاّديه في مقابل الحرية الكاملة والاحتكام لصندوق الاقتراع الذي يتوِّج مانديلا رئيسا لجنوب إفريقيا (1994-1999)، وحتى تقاعده وهو يخاطب شعبه وجلادّي الأمس والعالم قائلا: “بلادي لم تكن أرضا للكراهية  ولا يولد الإنسان وهو يكره غيره بسبب لونه، بل الآخرون هم الذين  يُعلمونّه الكراهية ويمكن تعليمه الحب بدلا عن ذلك “.
تكتمل في هذا الفيلم عناصر كثيرة أسهمت في تميّزه، منها الأداء المتميز للممثل (إدريس إيلبا) الذي أدّى دور مانديلا بتمكُّن وإجادة، ومن ذلك حركات مانديلا وطبقة صوته وردود أفعاله، كذلك المزج المتقن للعناصر الوثائقية والتصوير بعيدا عن الاستديوهات في أماكن حقيقية مع استخدام وافر للحشود المصحوبة بخلفيات صوتية مميزة، وتوظيف جيد للموسيقي التي ألفّها “أليكس هيفيس” فضلا عن مهارات مميزة في التصوير على يد مدير التصوير “لول كراولي”.


إعلان