“سيتزين فور”: اللحظة التاريخية لإدوارد سنودن

محمد موسى

 

ستمرّ أكثر من عشرين دقيقة، من زمن الفيلم التسجيلي “ستيزن فور” للمخرجة الأمريكية لورا بويتراس، قبل أن يطلّ إدوارد سنودن على الشاشة. لا تبدو غايات المُخرجة، من تلك الافتتاحية الطويلة، حبس أنفاس المتفرج فقط، تمهيداً لوصول الفيلم إلى الشخصية الأساسية المثيرة التي يدُور العمل في فلكها ويستند في جزء كبير منه على شهادتها الشديدة الأهمية والتي تحولت سريعاً وبفعل الوقائع المتلاحقة إلى حدث عالمي خاص، فالدقائق الأولى تلك، كانت مُهمة في توطئة الموضوع، وفك شفراته، ووضعه في سياق تاريخي واضح. كما تضمنت البداية تلك، استعادة على نحو تصاعدي للعلاقة التي ربطت بين المخرجة، كصانعة أفلام جدليّة، وبين الأمريكي الشاب، الذي طرق بابها في بداية عام 2013، أثناء بحثه عن إعلاميين شجعان، قادرين على حمل المهمة التي يريد أن يلقيها على أكتافهم، بفضح الجهاز الأمني لأقوى دولة في العام، والذي لم يكتفِ بالتجسس على بيانات خاصة لمواطينه، بل نشر مراكز جمع معلومات سريّة، متناثرة اليوم على جغرافيا واسعة، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى قلب القارة الأوروبية.

عندما يصل الفيلم إلى الجزء الخاص بإدوارد سنودن، يكون المشاهد قد تعرّف قليلاً على ما يعينه فعل “التجسس” على بيانات خاصة لبشر عاديين، وتمظهراته العديدة اليوم. هو، وكما شرحه أحد المختصين في الفيلم، يعني أنظمة الكترونية مُعقدة تُمكن الحكومة الأمريكية، وعبر البطاقات الإلكترونية التي نستخدمها يومياً مثل: البطاقات الائتمانية البنكية وتلك الخاصة في وسائل النقل العامة، ونشاطنا العادي عبر الإنترنيت، من الاقتراب الكبير من معرفة ماذا نفعل كل ساعة من اليوم ومن نقابل. هذا الأمر، الذي ربما لا يُزعج البعض، من الذين يسيرون على مبدأ: “اذا كنت غير مُجرماً فلماذا أخاف من السلطات”، هو فعل غير قانوني، وليس له أساس في تشريعات الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا، وهو الذي جعل إدوارد سنودن، الموظف في جهاز “وكالة الأمن القومي” الامريكي، يُقرر أن يخرج إلى العالم، كاشفاً بشجاعة كبيرة عما يحدث في مكان عمله، في فعل نبيل، يبدو غريباً عن العالم الذي نعيشه، المُعقد والقاسي والفاقد لأي بوصلة أخلاقية.

يصل الفيلم التسجيلي إلى الجمهور (يعرض حالياً في أوروبا وينافس على جائزة الأوسكار القادمة في فئة الأعمال التسجيلية)، بعد أكثر من عام ونصف من الضجة التي أطلقها إدوارد سنودن. يعرف مُعظمنا اليوم، وبفضل التغطية الإعلامية المُكثفة للقضية، المسّار الزمني للأحداث بعد وصول الأمريكي إلى هونغ كونغ هربا من بلاده وما وقع بعدها. ما يفعله فيلم “ستيزن فور”، هو تقديم خفايا أيام هونغ كونغ، وما حصل في ذلك الفندق، الذي التجأ إليه سنودن، ليقابل اثنين من الإعلاميين الغربيين بالإضافة إلى المخرجة، والذين كان على تواصل معهم لأشهر، ليكشف لهم، من على سرير غرفته أحياناً، تفاصيل ما كان يجري في بنايات “وكالة الأمن القومي” الأمريكي. احتفظت المُخرجة التي صورت تلك الجلسات، بما سجلته، ولم تنجرّ إلى إغراءات الصحافة والتلفزيونات وقتها وبعد انفجار القصة إعلاميا، لتكون حطب تغطيات تلفزيونية عابرة. هي اشتغلت بتأنّي على تلك المادة المصورة، اختارت منها الكثير لفيلمها التسجيلي الطويل “ستيزن فور”، وكَملت، إلى حد كبير، المفقود من الصورة الواسعة للحدث التاريخي ذاك، الذي تشكل في غرفة فندق المدينة الصينية.

لا يختلف “إدوارد سنودن”، الذي ظهر في العام الماضي في مقابلات صحفية تلفزيونية قليلة، عن صورته التي قدمها الفيلم التسجيلي هذا. فالصورتين تتطابقان على نحو يؤكد فرادة الشخصية النبيلة للأمريكي الشاب الذي لم يتعدَّ وقتها الثلاثين من العمر. حتى في الأيام الثمانية في الفندق الصيني، والتي كان فيها الشاب الأمريكي لا يعرف ما ينتظره في المستقبل، احتفظ برباطة جأش لافتة وإمكانية مُدهشة لشرح موقفه ودواعي ما يقوم به ومسؤليته أمام الحقيقة وتجاه أبناء بلده. لن تكون هناك لحظات كشف كبيرة في الفيلم لجهة تقديم جانباً لم نره من شخصية إدوارد سنودن، عدا بعض التفاصيل القليلة، الإنسانية الجوهر، عندما كشف الشاب الأمريكي عن توجسّه من المستقبل الذي لا يعرف وجهته القادمة، وكيف أن هذا يحمل لذاته إثارة غريبة مُقلقه، أو عندما أبدى خوفه على صديقته في مدينته الأمريكية، والتي لم تعرف شيئاً من خطط صديقها الهاديء بطبعه. وحتى بعد تم كشف تفاصيل قصة إدوارد سنودن للعالم، حافظ الشاب على توازنه. وعندما بدت التطورات تشير إلى أن الشاب الأمريكي أصبح مطارداً من سلطات حكومته، قاد إدوارد سنودن عملية الخروج الآمن من “هونغ كونغ” بالحكمة والرصانه ذاتها.

اختار إدوارد سنودن المُخرجة الأمريكية التي تعيش في برلين لورا بويتراس، لتكون من المجموعة الصغيرة للغاية التي سيكشف لها قصته. هذا لحاله يؤكد ما بلغته السينما التسجيلية من أهمية وتغلغلها في الوعي الجمعي، ومكانة هذه السينما المتزايدة كأداة للكشف والاستقصاء. لا شك أن سيرة المُخرجة السابقة كانت وراء هذا الاختيار، فهي أنجزت منذ الحادي عشر من سبتمر عام 2001 فيلمين تسجيلين مُهمين (“بلادي بلادي” عن تأثيرات الحرب الأمريكية في العراق على عراقيين وفيلم “الوعد” عن يمنيين ارتبطا بشكل أو بآخر بزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن )، من التي يُمكن أن تندرج تحت عنوان:”سينما التشكيك” بالمسلمات، بغوصها النقدي  في سجل بلدها مع الحريات وحقوق الإنسان. ليس هناك تميز أسلوبي خاص في المشاهد الطويلة التي صورتها لورا بويتراس في الفندق في هونغ كونغ، كما أنها اكتفت بالأسئلة التي كان يطرحها رفاقها في الغرفة (صحفي جريدة “الغارديان” البريطانية : الأمريكي الأصل غلين غرينوالد و البريطاني أوين ماكاسكيل) على إدوارد سنودن. ربما لم تخمن المُخرجة وقتها بأن ما يحصل أمامها سيهزّ العالم لبرهة، ويصل بتردداته إلى بقاع بعيدة. كما أنها وصلت إلى هناك بعد إقناعات شاقة من الشاب الأمريكي، والذي راسلها لأشهر طويلة تحت اسم “ستيزن فور”، الأمر الذي جعلها لا تهتم كثيراً بالتحضيرات المكثفة، خاصة أسلوب التصوير داخل الغرفة. والذي على الرغم من تقليديته، كان يقطع الأنفاس لقيمته التوثيقية، إذ تحول المشاهد هو أيضا لشاهد على “تاريخ” يتطور وتتضح ملامحه أمام عينه.

تُواصل المُخرجة، في الربع الأخير من الفيلم، مُتابعة قصة “سنودن”، وحتى وصوله إلى موسكو، التي يعيش فيها لاجئاً اليوم. لم ترغب المُخرجة منافسة المُتابعات التلفزيونية المُكثفة للقصة وقتها وتقديم الصور الإعلامية الشائعة. هي في المقابل تركز على صور أقل انتشاراً، نجحت في رصدها، بفضل وجودها في مواقع حسّاسة في أوقات حرجة. تصور المخرجة مثلاً التوتر الذي ضرب مكاتب صحيفة “الغارديان”، عندما تعرض صحافيوها لضغوطات كبيرة من الحكومة البريطانية لتحديد ما ينشر من قصة إدوارد سنودن. كذلك تكشف عن المراسلات الإلكترونية التي أجرتها مع إدوارد سنودن، بعد أن تركته في هونغ كونغ، وحتى وصوله إلى موسكو. هناك أيضاً مقابلة قصيرة مع جوليان آسانج مؤسس موقع “ويكليكس”، والذي دخل على الخط، لمساعدة الشاب الأمريكي في الهروب من هونغ كونغ وتأمين وصوله إلى مكان آمن. في كل ذلك، تواصل المخرجة في “ستيزن فور”، تقديم المُعالجة الأسلوبية نفسها التي ميزت أفلامها السابقة، اللافتة بطولها الزمني، ونفسها التسجيلي الملحمي الخاص، الذي يتميز بالمشاهد الطويلة الساكنة، ومراهنتها على الأثار التراكمية النفسية للسرد البطيء ومنح الشخصيات الرئيسية والثانوية  زمناً أطول عن الذي اعتادته مُعظم الأفلام التسجيلية من الأعوام القليلة الماضية. 
 


إعلان