الحرب.. إلى ما أبعد من حذاء فان جوخ !

طارق خميس

لقطة من فيلم “كل شيئ هاديء على الجهة الغربية”

مبكّراً  أدخلت السينما الحرب إلى فضاء تناولها؛ فبعد سنتين من عمرها قام المخرج “جورج ميليه” بإخراج وإنتاج أربعة أفلام عن أحداث الحرب اليونانية، ومن يومها دعيت كضيف ثابت على مائدة السينما.
والحرب أشد حضوراً من أن تكتفي بدور المادة بيد المخرجين، يشكلونها كيفما تملي عليهم عيونهم السينمائية وتوجهاتهم السياسية، فأخذت تبادلهم التشكيل، على صعيد التقنية  كما حدث مع “ليني رفينشتايل” في تجربتها مع الدعاية النازية، فهذه التجربة عادت بالفائدة على تقنيات السينما ودفعت بها للأمام، وعلى صعيد طريقة التناول؛ حيث ساهمت في إحداث موجات من الأفلام كالسينما التعبيرية الألمانية والواقعية الجديدة في إيطاليا.

لقد سيطرت طريقتين على تناول الحروب في السينما، الأولى: ذهبت نحو إدانتها إنسانياً وإظهار قبائح ما تحدثه من أثر.كما نلاحظ مثلاً مع فيلم ” كل شيء هادئ على الجهة الغربية 1930 ” حيث اعتبره الناقد “ستيفن جاريت” من أوائل الأفلام التي تبنّت فكرة عداء الحروب. وقد ساهم تكثيف الرؤية البصرية الذي مارسه مخرج الفيلم “لويس مايلستون” لجعل أهوال الحرب تمتلك لغة بصرية بشعة تدين نفسها بنفسها.
 والثانية: وجدت لها مبرراً إما من خلال وضعها في سياق الرواية الرسمية للمنتصر، أو من خلال مساهمتها في بناء وعي الأمة عبر البثّ في رموز حربية. كما نجد في أعمال “كلينت إستوود” الذي كان آخر أعماله فلم “القناص الأمريكي” الذي يروي حكاية ” كريس كايل” قناص أمريكي خدم في العراق خلال الفترة من 1999-2009، قتل خلال تلك الفترة ما يقارب من 160 عراقي يتفاخر بقتلهم في روايته ومقابلاته التلفزيونية.

هل يمكننا أن نبحث خارج ثنائية الإدانة والتمجيد، عن الحرب؟! الحرب كموقع لإنتاج المعنى وليس للاستخدام الدعائي المباشر. كونها أقرب المناطق للقاء الفرد بمصيره قبل أن يتحول المصير ذاته لمادة استهلاكية.
 هذا هدف المقال الذي سيتناول فيلم “خط أحمر رفيع” وفيلم “نَفَس” ويبين الفروق بين تناول الحرب شاعرياً بهدف وضعها على تناقض مع الطبيعة والحياة كما يظهر مع “خط أحمر”، وبين وضع الحرب في قلب الحياة ليس بغرض تمجيدها وإنما لأنها كذلك، أي بكون الحرب تحدث وتتدفّق فينا ومنا.

“خط أحمر رفيع”

لقطة من فيلم “خط أحمر رفيع”

مخرج فيلم ” خط أحمر رفيع 1998 ” هو الشاعر والفيلسوف تيرينس ماليك، وكما كل المبدعين الذين يحترمون الصمت كاستمرار للعملية الإبداعية، يصمت ماليك كثيراً بين أعماله فهو مُقلّ في الإنتاج.
تدور أحداث الفيلم المقتبسة من رواية تحمل العنوان نفسه للروائي “جيمس جونز” بعد معركة “بيرل هاربر” التي خسر الأمريكيون فيها أسطول الباسيفيكي بتاريخ 7 ديسمبر 1942,وتحديدا في خليج جزيرة غوادالكنال, على أرض هذه الجزيرة النائية و البعيدة ستدور أكثر المعارك دموية وشراسة في حروب الباسيفيك, جزيرة كانت قبل أن تلتهمها ألسنة الحرب جنة يعيش فيها سكانها الأصليين الابوريجان على إيقاع زمن دافئ وهادئ.

يتابع الفيلم رحلة كتيبة عسكرية أمريكية (الكتيبة شارلي) التي تحُضِّر لغزو الجزيرة وطرد اليابانيين منها. ثم يتعرضون لهجوم مفاجئ، تتصيدهم النيران دون أن يعلموا مصدرها، وهذا العدو اللامرئي يجعل من الحرب في عيون تيرينس ماليك ليست حرباً بين خصمين بل حرب بين الإنسان ونفسه، إن النيران هنا تحضر لتجعل الصوت الداخلي أكثر وضوحاً، يظهر صوت الراوي المتعالي معلّقا: “هذا الشرّ الكبير، الحرب، كيف تسلل إلى الحياة ومن بثّه في النفوس.” هذا الصوت ثيمة حاضرة في أفلام ماليك، ودون أن يتحوّل الراوي منقذا بالحكي لعجز الصورة فإنه يدخل بتكامل تام مع المشاهد البصرية الرائعة وكأنه موسيقى تصويرية، يتنوع الصوت في مستوياته : ” لماذا يجب عليّ أن أخشى الموت؟ أنا أنتمي إليك و عندما أسبقك سأنتظرك هناك، على الجانب الآخر للمياه المظلمة ستكون معي الآن”.. ” ما هذا الشر العظيم؟ كيف تسلّل إلى العالم؟ من أي بذرة نمى؟ و من أي جذع امتدّ؟ من الذي يفعل كل هذا؟ من الذي يقتلنا؟ يخطفنا من الضوء و الحياة؟ “

تتشابه الحوارات مع صوت الراوي وإن كانت أقل منها تكثيفاً، في السؤال الموجّه لإدوارد (شون بين) من ويت، حينما سأله: “هل تشعر بالوحدة على الإطلاق؟ فأجابه إدوارد :فقط عندما يكون الناس حولي.”
هل الحرب جعلت الوحدة هي الأمر الوحيد الممكن؟! أم أن الوحدة جعلت الحرب هي الأمر الوحيد الممكن؟! في كلا الحالتين لا يتوقف ماليك عن إدانة الحرب عبر وضعها في تناقض دائم مع قيم الحياة (الحب، الأطفال، السلام، الطبيعة.. الخ ).

“نَفَس”

لقطة من فيلم “نفَس”

يحكي فيلم ” نَفَس  2009 ” قصة مجموعة صغيرة من محاربي تركيا، يواجهون الموت وجهاً لوجه في إحدى المناطق النائية بشرق تركيا بين صراعات الجيش وحزب العمل الكردستانى، يأتي الكابتن ميته (ميته هوروزأوغلي) مع كتيبته لتعزيز وجود هذه الفرقة، التي سرعان ما يظهر أنها تعاني من الإهمال والكسل.
يبدأ اللقاء بين الكابتن ” ميته” والمجموعة، عندما يباغتهم وهم يغطّون في النوم، يمسك خنجره ويشرع في تمزيق أربطة حذائه العسكري، وهو يحكي قصة الهجوم الذي تعرضّوا له خلال قدومهم إلى هنا، مشهد يحاكي لوحة “زوج الأحذية” لفان جوخ، حيث يمكننا اقتباس تعليق مارتن هايدجر على اللوحة، لنجعله تعليقاً على مشهد الفيلم دون أن يختلّ المعنى: “.. من خلال الفتحة المظلمة للحذاء البالي تبدأ خطى العامل المتعبة… يتخلّل هذه الأداة قلق غير مُتذمِّر من الثقة بالخبز، ويتخللها مرح بلا كلمات من تجربة الثبات أمام الإرادة، والارتعاد أمام سرير طفولة قريب اللحظة وأمام وعيد الموت.., هذه الأداة تنتمي للأرض، ..من خلال هذا الانتماء المصون تنهض الأداة (للبقاء في ذاتها)”.

 تحلّ الحرب وحذائها العسكرية كقيمة لذاتها، ليست بوصفها حرباً بين أخيار وأشرار وإنما كموطِن أعلى للولادة، حيث توضع كل المشاعر الإنسانية على المحكّ، نختبر محبة الذين ينتظرونا كما نختبر غريزة البقاء عندنا في حدودها القصوى.. ” ليست البطولة سوى البقاء على قيد الحياة، أما ذلك المجد الذي ينتظره الجنود فمدتّه 45 ثانية على نشرة الأخبار” هذا ما يقوله الكابتن “ميته” وهو يوبخ جنوده كل باسمه، في مشهد مرعب استمرّ لأكثر من ستة دقائق، بدأ المشهد بغيوم سريعة متحركة وانتهى بها، وهي الغيوم ذاتها التي سترافق الكثير من مشاهد الفيلم، قلق المحاربين من الموت ومن الحياة أيضاً، رافقته على الدوام تلك الغيوم، إنه ما يسميه  أيزنشتاين بالمونتاج المركب، حيث تحلّ اللقطة بقرب لقطة أخرى ليس لتحدث تتابع سردي عادي؛ بل ليصبح مجموع اللقطتين أكثر من اثنين، إنه القفز بالمشهد لما فوق ذاته، حيث تقارب الصور يحيل لما هو أبعد منها .

في حوار يجريه الكابتن مع أحد الجنود من مدينة إسطنبول، يسأله إن كان لديه عشيقة، يجيب الجندي بالإيجاب. يعلق الكابتن بأن الحب قليل في المدن الكبرى، ويضيف: ستخونك، هل أنت مستعد لذلك؟ .. يظن الجندي أنه يقصد حبيبته؛ لكن الكابتن يصحح له: أقصد الحرب يا بني. هذا الالتباس بين الحب والحرب يرافق الفيلم حتى نهايته، وإن كان خط أحمر رفيع هو ما يفصل أبطال ماليك تيرينس عن الحب الذي تركوه هشّاً خلفهم فإن أبطال فيلم “نَفَس”، تدفع بهم الحرب لاصطحاب الحب معهم، في مزج يجعل الحدود بين المفهومين محلّ شك، كما يظهر برسائل الكابتن ومن ثم حركة الكاميرا التي تُعبّر عن استلام رسائله بعد أن اختفى الصوت تماماً، وحضر الصمت محدثاً ضجيجاً يتفوق على الكلام نفسه. 
ليست الحرب هي مهمة ينجزها الجندي ويعود لما كان عليه قبلها، إنها مكان اكتشاف ضمانات جديّة للوجود ذاته، وهو ما دفع “الدكتور” خصم الجيش التركي لترك كلية الطب والالتحاق بالجبال، فيما يسأل “الكابتن” أحد جنوده عن متطلبات حصوله على قرض من البنك الذي يعمل فيه، يجيب الجندي أنه يحتاج لضمانات من أجل القرض، يرد الكابتن أن الجبال هي ضمانه. يرد الجندي، أن البنك يحتاج لأوراق تثبت ذلك. فيعلق الكابتن: ليست لدي أوراق تثبت ذلك، إن الجبال لا تعني شيئاً للبنك.

 كلاهما “الدكتور” و”الكابتن” يدركا السرّ الكامن في هذه الجبال، إنها التكثيف الأعلى للحياة، فيما تتخفّف الحياة من كثافتها هناك في المدن، وحين تستلقي مقاتلة حزب العمال الكردستاني تنزف من رقبتها بعد أن أصابها الجنود الأتراك، ينطلق صوت التلفاز في مقابلة لملكة جمال تركيا التي كانت تشكي أن رقبتها لم تعد تعجبها بعد الحمية، وكأنه بين نوعين من الرقاب يقف ذلك التدفُّق الذي نسميه “الحياة” بشكلين لا يشبهان بعضهما، حتى تغدو كلمة واحدة للتعبير عنهما مجرد لغو لا معنى له، بين الحمية والبندقية مسافات من الفراغ ملأتها الحرب وشهدت على بشاعتها وجمالها الجبال في آن واحد.
هذه عبقرية فيلم “نَفَس” التي تجعله يقف أعلى سُلّم أفلام الحروب، حيث أنه لم يعالج معنى مركباً؛ بل عالج الحالة التي تنتج عن لقاء معنيين مركبين.
بعد انتهائي من مشاهدة الفيلم تذكرت السؤال الاستنكاري الذي طرحه أحد الأصدقاء عليّ؛ حين كنا نتجوّل في الطرق الواصلة بين مدن الضفة الغربية، قال – وهو ينظر للجبال الممتدة – : كيف خسرنا الحرب، وعندنا كل هذه الجبال؟!.


إعلان