“لعبة التقليد “: سيرة ذاتية متشابكة وسط الحرب

طاهر علوان

” اللعبة بسيطة، إن كل اوامر القصف والهجوم كانت تحوم في الهواء، وكل طائر يمر عبر المحيط تدخل بياناته في هذا الشيء”.

بهذه السطور تُختصر حقيقة حرب عاشت فصولها البشرية كما عاشتها أوروبا وبريطانيا في صراعها الدامي ضد النازية إبان الحرب العالمية الثانية. لندن تجد نفسها أرضا وبشرا وسماءً تحت رحمة رسائل مُشفرّة تصدرها آلة الحرب النازية فتقصف ساعة تشاء وتهاجم ساعة تشاء وتخرب وتدمر وسط هلع القادة الإنجليز وسعيهم للحاق بهذا الغول الذي دمّر بلادهم .
وها نحن أمام قصة حقيقية موثقّة من خلال فيلم (لعبة التقليد) للمخرج (مورتين تيلدوم)، نحن أمام جهود أجهزة الاستخبارات، بحثها عن ألمع العقول الشابة التي ربما تتمكن من مجاراة تلك الحرب المهولة والمتشعبة، شبابا كثر يتقدمون من الألمعيين في حقول العلوم والرياضيات خاصة، يتقدمون إلى مسابقات خاصة بهدف إثبات قدرتهم على فك الرموز ولكن من دون جدوى حتى يتقدم إلى تلك اللجان شاب لم يتجاوز عمره الـ 27 عاما، يدعى آلان تورينغ (الممثل بينيديكت كومبرباتش)، رحلته في القطار حيث يجري توديع الجنود الذاهبين إلى الحرب، وفي الأجواء طائرات النازيين تواصل قصف أوروبا وبريطانيا، وأصداء خطاب ونستون تشرشل الذي يعلن فيه أن بريطانيا قد دخلت الحرب.

الشاب “آلان تورينغ”،  الأستاذ النابغة في جامعة كيمبردج ذاهب إلى المقابلة ولكن سرعان ماسيكون موضع تشكيك وحتى سخرية من القائد المباشر مانستون (الممثل تشارلز دانس) والمشرف على اختيار أولئك الشباب للعمل تحت أحد أجنحة الاستخبارات البريطانية (إم  (6 خاصة وأنه لا يجيد الألمانية، مما يثير سخرية القائد، متسائلا وكيف يمكنك اختراق الرسائل باللغة الألمانية، لكن ذلك العالم الشاب محترف في حل الألغاز المرتبطة بالأرقام والرياضيات والأحاجي المعقدة، وساعة أن يأمر القائد بطرده يقول لك له كلمة واحدة هي (إينيغما)، إنه الجهاز والبرنامج والنظام الذي يستخدمه النازيون في تشفير رسائلهم التي تتضمن الأوامر اليومية بتنفيذ الهجمات وقصف الطائرات وتحريك الكتائب الحربية.

الروس ،الألمان ،الفرنسيون ،الأمريكان بكل ماعندهم من خبرات يعجزون عن فك ألغاز (إينيغما) تلك حقيقة تاريخية وهي مفتاح للولوج إلى النواة الصلبة للعسكرية النازية، خلاصة يواجهها الحلفاء والبريطانيون خاصة وهم يعترضون آلاف الرسائل اليومية المتبادلة بين الفيالق الألمانية المحاربة وقياداتها مع عجز كامل عن فهم ألغازها وشيفرتها العجيبة التي تصل بمجموعها إلى أكثر من 150 مليار احتمال يستغرق الوصول إليها آلاف السنين بالشكل والإيقاع المتبع في اعتراضها.
يجتمع الفريق من النوابغ ومعهم واحد من ألمع أبطال الشطرنج في العالم، مشهد محتدم وعجز يلوح في وجوه الجميع باستثناء (آلان) الذي يجد نفسه وجها لوجه مع تحدّي تلك الألغاز المشفرة.

يحشد الفيلم أبطاله في فضاء من التوتر الشديد، إينيغما، الماكنة والنظام والعقل النازي تواصل قهرهم، آلاف الرسائل المشفرة يستخرجها جيش من موظفي وضباط الاستخبارات البريطانية ولكن من دون جدوى، لكن ها هو (آلان) ينزوي في عالمه ويشرع في الإبحار في ذلك العالم من الألغاز والأرقام والأسئلة من دون إجابات حتى يبدو جافا، منعزلا، سلبيا، مضطرب الكلام، شارد الذهن، هكذا تبنى شخصيته وسط زملائه لأنه يعيش عالما بعيدا عن عالمهم، فهو يستشرف الحقائق البعيدة ومنها تحدي إينيغما وقد بدأ تصميمات الجهاز الذي سيفكك تلك الشيفرات المجهولة لكن مشروعه سيوقف بسبب شكوى زملائه وصرامة الضابط (مانستون) الذي يخبره أخيرا أن الوحيد الذي يمكنه التظلم عنده هو ونستون تشرشل شخصيا، وهو ما يفعله بتوجيه رسالة إليه وتكون استجابته عليها أن يتولى (آلان) قيادة الفريق ويمنح المال الكافي لبناء ماكنة التحدي لإينيغما.

يمضي السرد الفيلمي متتبعا جذور وحياة العالم “آلان تورينغ” ، تلكم السيرة الذاتية التي كتبها (اندريو هودج) ليكشف لنا عن صبي نابغة، تبشر به أمه أنه سيكون عالما حقيقيا، ولكن هاهو موضع سخرية أقرانه، بسبب نبوغه وعزلته ثم ليسجنونه في صندوق خشبي لاينقذه منه إلا صديقه (كريستوف)، هذا الصديق هو الوحيد الذي سيحفر في ذاكرته عميقا لأنه آمن به ودافع عنه وساند نبوغه وفهمه جيدا من دون أن يتكلم، بل إن السرد الفيلمي بناءا على تلك السيرة يذهب بعيدا إلى ميول مباشرة بينهما وهو ماسيتطور لاحقا عندما يبلغ (آلان) القمة ويصبح عالما مُدان بسبب ميوله المثلية مما يترتب عليه إما أن يقضي عامين سجنا أو أن يتلقى علاجا إجباريا وهو ماسنشهد نتائجه في المشاهد الأخيرة من الفيلم.
يتنقل السرد الفيلمي صعودا وهبوطا في مزيج ملفت للنظر بين مراحل صبا وشباب ونضج (آلان) لكنه لم يعرف حياة لاهية كما الآخرين، ولم يعرف كيف يجامل امرأة في حياته فهو غارق في عالمه، نتنقل بين محطات حياته المتشعبة وفي كل مرة نعود إلى أيام دراسته الثانوية وذكرى صديقه الأثير (كريستوف) الذي سيموت في ظروف غريبة لكن ذكراه لن تمحى.

التعليق المتواصل في الفيلم من طرف آلان يشكل عنصرا إضافيا في ذلك البوح والتدفق الذي يكشف عن حقيقة شخصيته المسالمة، لكن الآخرون غير ذلك، تخبره خطيبته جوان (الممثلة كيرا نايتلي) بتلك المآخذ, وللتخلص من تلك النظرة السلبية تجاهه والتي يريد إثبات خلافها يحمل كيس تفاح يوزعه على زملائه، ويروي نكتة ثقيلة لن يضحكوا عليها، ليتأكد أنه لا يمكنه أن يكون طريفا وسلسا، ولا أن يكون عاشقا ثم زوجا.

مع ذلك التدفق الصوري – التوثيقي – لجوانب من حياة (آلان)، تولد ماكنة التحدي، الجهاز الحلم الذي أطلق عليه (آلان) اسم (كريستوف) وفاءا لذكرى صديق طفولته، الجهاز الذي يفترض أن يفكك شيفرات اللغز الألماني، وها هي الماكنة تدور عجلاتها للمرة الأولى، لكن (آلان) في حاجة قبل ذلك إلى ألمعية وذكاء فتاة شابة في سنه، تنضم إلى فريقه ثم تشعر بالسأم من العزلة والروتين فتغادر الفريق ولكنه سيأتي بها مجددا ثم ليعلن خطوبته منها، ووسط جلسات الاستراحة لفريقه يتكشف أمران، أنه لايصلح لا لحب امرأة ولا للزواج منها ربما بسبب ميوله المثلية، وأن زميله في فريق العمل جون (الممثل ألين ليتش) ماهو إلا عميل للروس، ثم يتفق الاثنان على كتمان سريهما، لكن الأمر سيؤرق (آلان) فلا يستطيع التستُّر على زميله الجاسوس، ليكتشف فيما بعد أن أجهزة الاستخبارات على علم بالقصة كلها.

ها نحن في مشهد دراماتيكي، الماكنة بعد اكتمالها والنظام الذي بناه (آلان) وفريقه عاجز  عن اعتراض الشيفرات الألمانية، الضابط ماتسون ساخط، يقرر تفكيك الجهاز وطرد (آلان)، لحظة صادمة للجميع، لكن المفاجئة أن يتضامن زملاءه الذين طالما اتهموه بالسلبية، ويهددون بتركهم للعمل إذا تم طرده، مطالبين بمنحهم مدة شهر آخر للعمل.

تحدث المفاجأة حين يلتقط “آلان” كلمة عابرة وهو في المطعم مع زملائه من إحدى الموظفات العاملات في اعتراض الرسائل النازية، تفيد بأن الشيفرات الألمانية تتألف في بدايتها من ثلاثة كلمات دائما، ثم يبدأ البث بعدها للإحداثيات والأوامر وسرعان مايهرع الفريق إلى الماكنة وينفذون الفكرة وبالفعل ينجحون في اعتراض الرسائل الألمانية وفك الشفيرة والدخول إلى عالم الجهاز الألماني، وباختصار شديد إن جهاز “آلان” يكون قد اختصر عامين من الحرب وأنقذ حياة قرابة مليون إنسان بسبب التسلل لشيفرات النازيين والحيلولة دون وقوع مئات الهجمات.

حصد الفيلم وما يزال يحصد المزيد والمزيد من النجاحات، فهو حقا فيلم مكتنز بكل عوامل النجاح، قصة فيلمية وإخراجا وتمثيلا وسردا وموضوعا وتاريخا، وهو في طريقه إلى الأوسكار بعدد كبير من الترشيحات، لثمان جوائز، وهو على قائمة هوليوود لأفضل سيناريو (ما يسمى القائمة السوداء – مجازا) وهو أحد أفضل عشرة أفلام في العام 2014 بحسب ترشيحات معهد الفيلم الأمريكي، فضلا عن ترشيحات (جولدن جلوب الشهيرة) وتزكيات أخرى استحقها عن جدارة.


إعلان