“تنظيم الدولة”.. الى أين؟
قيس قاسم
أغلب ما يقال عن تنظيم الدولة الإسلامية وما ينقل من أخبار على مدار الساعة “مجزأ”، أما ما جاء عنه في فيلم “صعود تنظيم الدولة” فهو “مترابط” فيه وحدة موضوع ظاهرة، ربما هي خصلته الأميز لأن كاتب نصه ومنتجه الأمريكي مارتن سميث تبنى خطة عمل طموح أرادت توثيق مسار صعود الحركة زمنياً، بموصفات فلمية وليست إخبارية، وتحليل أسباب بروزها مع تركه الباب موارباً لما سيؤول إليه مستقبلها.
![]() |
ملصق الفيلم
|
ينطلق الفيلم من لحظة خروج القوات الأمريكية من العراق، واعتبارها إعلاناً لنهاية الحرب، فيما سيبرهن وعلى مدار زمنه المكثف أنها كانت لحظة “انفجار” الكثير مما كان مغطى تحت عباءة الاحتلال. سيكرس الوثائقي للبرهنة على هذة الفكرة جهداً كبيراً تطلب منه مقابلة شخصيات مهمة لعبت دوراً في الحدث العراقي ومراجعة مقابلات تلفزيونية أجراها عدد من الصحافيين العالميين من بينهم مارتن سميث الذي يوصف بـ”مطرقة” ثقيلة لا تتردد في ضرب أي رأس كبير يحاوره، حول مآلات المشهد العراقي بعد الانسحاب ومن بينها ظهور “تنظيم الدولة” ودور رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي كمولد نشط للمشاكل التي تعاني منها البلاد اليوم!. يبدو التواطؤ ظاهراً بين إدارة الرئيس أوباما والمالكي لمرحلة ما بعد الخروج. فالأمريكان عززوا مكانة الأحزاب الدينية الشيعية في العراق بعد سقوط صدام حسين مباشرة وخلال التفكير بالانسحاب كان رهانهم منصباً على رئيس الوزراء الذي أوحى لهم بقدرته على ملء الفراغ الذي سيتركونه. هل خدعهم أم توافق مع رغبة الأمريكان في تنصيب حاكم “قوي” يساعدهم على نسيان العراق؟ سيتضح خذلان هذا التصور بعد سنوات، لأن الرجل كان يُبيت ومنذ البداية خطة طموحا للانفراد بالسلطة وتصفية خصمومه وتكريس سلطة حزب الدعوة وهيمنة طائفة بعينها على مقادير الحكم بمؤزارة إيرانية قوية. يكشف من خلال تسجيلات نادرة الحوارات الداخلية التي جرت بين أوباما والمالكي خلال زيارته التي أعقبت خروج الأمريكان وكيف استغل اللحظة، التي وجد نفسه فيها مقبولاً عند الأمريكان وكل طموحاته الشخصية والحزبية مباركة، ليعلن عن وجود مؤامرة يقودها نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، والتي سارع بنقلها إلى الرئيس الذي أجابه بشيء من الغموض وما معناه بأن هذا شأن داخلي يخصكم. هكذا فهم المالكي جواب أوباما أو هكذا أراد فهمه فشرع بتصفية “ممثلي” السنة واحداً بعد الآخر وبحجة تآمرهم عليه ورغبتهم في الاستيلاء على السلطة الجديدة بانقلاب عسكري. عند هذة النقطة
![]() |
نوري المالكي
|
يراجع الوثائقي طبيعة المالكي وتكوينه النفسي ليظهر خلالها كشخص مصاب ب”بارانويا المؤامرة” والخوف المرضي من ضياع السلطة والشك الدائم بالآخر وعدم الائتمان. تكوين نفسي يتقارب مع أكثر الديكتاتورين في العالم بفارق أن سلطته بقيت هشة ومعتمدة على تغذية الصراعات الطائفية التي سيستفيد منها لاحقاً “تنظيم الدولة بل سيحشد كل طاقته الدعائية استناداً على أخطاء المالكي وتفرده، وسيظهر هذا جلياً خلال المظاهرات التي خرجت في المنطقة الغربية ذات الأغلبية السنية وطالبت بإطلاق سراح السجناء غير المحكوم عليهم بجرائم وبشكل خاص السجينات ومعاملة مناطقهم دون تمييز وسكانها كعراقيين لهم نفس الحقوق والواجبات. لقد استهتر المالكي بهم وصعد من أسايب تصفيته للقادة السنة المشاركين في العملية السياسية ما دفع الكثير منهم إلى تبني شعارات المتظاهرين بالكامل. بالتفصيل يستمع الوثائقي إلى مشاركين فيها وإلى خطب سياسيين انضموا اليها وأعلنوا صراحة فيها مقاطعتهم للعملية السياسية بل ومحاربتها. خلال هذة الفترة كانت “القاعدة” تراقب بعد انحسار دورها ولم يبق منها إلا مجاميع ضعيفة في الصحراء الغربية. يسجل الوثائقي نقطة تحول دراماتيكية في المشهد السياسي حين أمر المالكي قواته بإطلاق النار على المتظاهرين في مدينة الحويجة وارتكاب جنوده مجزرة ضد المتظاهرين السلميين بحجة قتلهم عسكرياً! وليسمح الحدث بفتح الطريق أمام “البغدادي” ليتقدم الجبهة السنية ويرتفع أعلامه السوداء فوق خيم المتظاهرين ويعلن فشل فكرة المشاركة في العملية السياسية وضرورة استبدالها بمحاربة الحكومة بالسلاح وبأشد الوسائل دموية. عند هذا الحد كان لابد للوثائقي من متابعة مسار صعود “تنظيم الدولة” قبل وصوله إلى خيام المتظاهرين في الرمادي، وسيكون مسحه شاملاً لتحولات الحرب الأهلية في سوريا وكيف لعب التنظيم دوراً فيها حين أرسل البغدادي بعض مقاتليه إليها عززوا مع الوقت مواقعهم هناك وكسبوا مزيداً من المقاتلين داخل البلاد ومن خارجها لدرجة تراجعت معها بقية التنظيمات ذات الصلة بـ”القاعدة” وسيتوصل الكثير من المحللين الذي شاركوا في الوثائقي بأن سوريا كانت “هدية” ثمينة لـ”تنظيم الدولة” ولولاها لما أصبحت قوته كما هي عليه اليوم. صورة البغدادي يرسمها الوثائقي الأمريكي بعناية فائقة وعبر خطوطها يتوصل إلى استنتاج مهم بأن سجون الأمريكان والحكومة العراقية صارت مدرسة لتخريج “المتشددين” ومن بينهم البغدادي الذي قضى سنوات في سجن “بوكا” قبل خروجه ليؤسس خلافته على فكرة تحرير الأسرى وهذا ما يفسر انطلاق عملياته قبل وصوله إلى الموصل بتحرير أكثر من 500 أسير من سجن “أبو غريب” وضمهم إلى صفوفه في رمزية شديدة الصلة بتجربته وذات دلالة تنطوي على مضامين المظلومية التي طالما تعكزت عليها الأحزاب الشيعية خلال صراعها مع صدام حسين وحتى بعد هيمنتها على مقاليد الحكم عبر نظام برلماني اعتمد المحاصصة الطائفية أسلوب عمل له. تبادل أدوار للسلطة والمظلومية ستعطي زخماً إلى “البغدادي” وستطرح أسئلة حول سبب صمت الأمريكان وهم يشاهدون
![]() |
ويسمعون بتقدم “تنظيم” .. سيسمع الوثائقي حججاً واهية من ممثلي الإدارة الأمريكية لا تدعمها الوقائع بل تشير إلى رهان خاسر على المالكي وموقف برغماتي غير معني بتطور الأوضاع داخل العراق فكل ما كان يهمهم هو عدم العودة إليه ثانية وهذا أيضاً لم يوفقوا به لأنهم وفي نهايته يلمح الوثائقي إلى احتمالية عودة جنودهم وزجهم في الصراع الداخلي الذي تركوه يتصاعد إلى درجة أخذ فيها “تنظيم الدولة” كل الموصل واقترب من أربيل وفصل العراق بشكل شبه كامل بين السنة والشيعة وامتد وجوده إلى مدن سورية سيطروا عليها بالكامل مثل “الرقة” ليتخذوها مركزاً لخلافتهم. يكرس “صعود تنظيم الدولة” وقتاً جيداً لتفسير أسلوب التنظيم وبشاعة سلوكه الدموي من خلال تسجيلات سربها التنظيم بنفسه لكن الوثائقي أضاف إليها معطيات جديدة من قياديين في الجيش الأمريكي وفي أجهزة مخابراته ليصل إلى استنتاج يفيد بتفرد “تنظيم الدولة” عن بقية التنظيمات المتطرفة ببطشه المنفلت وبإدارته العسكرية الجيدة المستفيدة من خبرة الضباط العراقيين الذي خدموا في الجيش العراقي قبل حل الأمريكان له، وإلى قوة دعايته التحريضية. سيدفع سيطرتهم على الموصل واقترابهم من حدود كردستان إلى “يقظة” الغرب والبدء بهجوم جديد في نفس المكان الذي تركه الأمريكان قبل سنوات قليلة والآن يعودون إليها من بوابة “تنظيم الدولة”. أخطر ما يسجله الوثائقي أن سيطرة التنظيم على الموصل لم يكن مخططاً له، لأن التفكير وقتها كان محصوراً في تحرير السجناء وفتح سجون المدينة وتركها بأسرع وقت، ولكنهم وحينما شاهدوا فرار الجيش أمامهم غيروا موقفهم وقرروا البقاء في ثاني كبريات مدن العراق. تدخل سيقربهم كثيراً من مدينة أربيل الكردية التي أعدت كخط أحمر دفعت الأمريكان إلى شن غارات طائراتها على المتقدمين من الحركة على حدودها والعمل بشكل فوري على تشكيل تحالف جديد يُعيد إلى الأذهان التحالف ضد صدام حسين ولكن بمتغيرات جديدة قدمها الوثائقي بشكل مذهل وأبقى سؤالاً مفتوحاً ومحيراً يتعلق بخطة الأمريكان الجديدة وما إذا كانوا سيشاركون في حرب برية قادمة؟ سؤال جاءت الإجابة عليه وكالعادة غامضة وغير مفهومة تسمح بالتأويل والتفسير ولكنها في النهاية تكشف عن طريقة عمل تمجد السرية وتضع كل الاحتمالات مُشرعة على المجهول.