رواندا.. بالسينما تتعافى!
قيس قاسم
هل يمكن للسينما أن تكون علاجاً ومطهراً للذنوب؟ هل يمكن أن تكون وسيلة لنسيان آلام الماضي والانفتاح على المستقبل في أشد تجارب البشر دموية؟ من هذة الأسئلة ينطلق الفيلم الوثائقي “لُقْيَة هيليوود” ليبحث في التجربة الرواندية المتواضعة والطموحة في مجال انتاج أفلام سينمائية بعد المجازر البشرية التي ارتكبتها حكومة الرئيس هوتر في عام 1994 ضد قبائل التوتسي وراح ضحيتها قرابة مليون انسان، تناولتها بعض الأفلام الغربية من بينها ”
![]() |
فندق رواندا” لتيري جورج الذي جاء بعد عشر سنوات من المذبحة ليقول شيئاً فيها، في حين ثمة محاولات محلية سبقتها ولكن لبساطتها وقلة التركيز الاعلامي عليها لم يلتفت اليها أحد ومن هذة الزاوية يمكن قراءة نص ليا وارشافسكي وكريس توي اللذان أرادا تنبيه العالم الى وجود محاولات واعية تريد تأسيس فن سينمائي يراجع من منظور مستقبلي الحدث الذي هز العالم وينطلق الى آفاق أرحب تتجاوزه بفن لا يحتمل التوقف، متحرك دوماً، وهذا ما أدركه عراب “السينما الرواندية أيوب كاساسا ماغو واشتغل عليه بأفلامه أو عبر ادارته لمهرجان “هيليوود” السينمائي الجوال ومنه جاء اسم الفيلم “لُقْيَة هيليوود” الصادم بجماله وقوته.
لأن أيوب ماغو محب للسينما فحديثه عنها حديث العاشق عن معشوقته، ولأنه من ضحايا الابادة الجماعية فهو يعرف ما الذي تعنيه لمن أكتَوَى بنيرانها ولأنه مثقف أيضاً فهو يعي مهمته ولا يرتضي لأدواته التعبيرية، السينما أن تكون وسيلة انتقام بل يريدها منجزاً ابداعياً تشخص الواقع وتبني عليه لإنطلاق انساني متسامح ومن هنا سندرك لماذا كان التركيز عليه واضحاً في الشريط الذي أراده صانعاه الأمريكيان ان يكون مثل كتاب مُصوَّر يُقَلبه أحدهم ويحكي قصة كل صورة فيه بلغته الخاصة ولهذا جاء شاملاً ومتنوعاً، فيه؛ تخطيطات توضيحية ومقاطع من أفلام قديمة ومقابلات ومشاهد من جمال بلاد أفريقية سنمر عليها عبر مسيرة المهرجان السينمائي وتجربة سينمائيين جدد فيها وبهذا سنتابع مرحلة تاريخية تمتد من بداية “الابادة الجماعية” الى لحظة نهاية دورة قريبة من دورات المهرجان الجوال على سيارة تقطع البلاد طولاً وعرضاً وتعرض على الناس في القرى أفلاماً أغلبيتها من صنع مبدعيها وتتحدث بنفس لغتهم التي يعرفونها؛ الكينيرواندية.
في خاصه الكثير من العام، وفي تجربته اختصار لتجارب آلاف مثله من ضحايا عنف قادة سياسيين جيروا القبلية لمصالحهم على حساب بلد عاش فترات مظلمة لن يذكرها التاريخ إلا بوصفها محطات خراب وكراهية بغيضة يتوقف المخرج أيوب كثيراً عند أكثرها ايلاماً على نفسه، قتل والدته وشعوره بالذنب الذي دفعه للإدمان على المخدرات والوصول الى حافة الهاوية. يحكي أيوب عن ندمه لطلبه من والدته، التي كانت وقت اندلاع المذبحة معه
![]() |
في أوغندا، العودة الى البلاد. لقد قتلها شباب قبائل الهوتو في ذروة اندفاعهم الجنوني للإنتقام من الأقلية التوتسية وأحرقوا جثتها مع عشرات من أقاربها في القرية. ستدفع التجربة المريرة المخرج للانطواء والانسحاب والى تناول المخدرات التي أنجز، بعد أن تعافى منها، فيلماً عنها: “يوم الخروج” وسيتذكر تجربته السينمائية الأولى بعد أن انتشلته زوجته من الموت البطىء الذاهب اليه بنفسه ـ في فيلم كيفين ماكدونالد “آخر ملوك اسكتلندا” ولعب دور البطولة فيه الممثل فورست ويتكر. لقد شَغَله منتجه كريستن بوكسون مديراً تنفيذاً محلياً عنده ومن خلالها أحب السينما واكتشف وجود ميول خيالية عنده تصب في هذا السحر الذي يتعرف عليه لأول مرة. ثم يقلب في صوَره الشخصية ليصل الى اللحظة التي قرر تعلم هذا الفن في “مركز رواندا للسينما” المتواضع الامكانيات المتطوع لتعليم شباب رواندا فن السينما. سيكرس بعد مدة أيوب كل وقته وجهده للسينما وسيشتغل مع زملائه الطلبة ومعلميه في عدة أفلام محلية توثق بالكاميرا المحمولة المجزرة وتفاصيلها. عن هذة التجربة سيتولى صاحب المركز أريك كابيرا الحديث عن الصورة التي توثق تاريخ السينما الرواندية الحديثة العهد “التقيت بمخرجين أجانب ومصوريين جاؤوا الى هنا لصنع أفلام عما حدث في بلادي ولكنهم كانوا في الغالب يجهلون الكثير عنا”. يتذكر أن أحدهم قال له “أصنعوا أفلاماً بأنفسكم وسيعرف العالم عنكم الكثير” هكذا بدأت فكرة المركز والعمل على انتاج أفلام صُناعُها من رواندا وكانت منطلقاً للشروع بتأسيس مهرجان التلال “هيليوود”.
الموسيقى ستتغير عند الانتقال الى هذا الفصل من الوثائقي لتكون فرحة، سعيدة راقصة تصاحب السيارة المتجولة وتنتقل مع ركابها؛ السينمائيون المتطوعون لتعريف شعبهم بفن أغلبيتهم وبخاصة سكان القرى البعيدة يجهلونه، ومن يعرفه منهم يعرفه من خلال هوليوود لا “هيليوود” الرواندية بامتياز. سينقلب طابع الفيلم من سردي مصحوب بالصور التوضيحية الى فيلم “طريق” مصحوب بدفق من مَشاهد تعكس جمال الطبيعة الساحرة والألوان الزاهية وحركة شعب بسيط في الحقول مازال يتألم من وجع الماضي إلا أن أطفاله ينشدون حياة جديدة ربما يريدونها سعيدة وساحرة مثل الشاشة التي تبهرهم بما يتحرك فوقها من صور لم يشاهدوها من قبل.
![]() |
مصاحبة الشريط لفريق المهرجان في انتقالاته وعروضه ومعرفة المشاكل التي تواجهه من مناخية وأشدها كراهية على أنفسهم المطر الذي يعيق المشاهدة والعمل وأخرى لها صلة بشح الكهرباء الى جانب نقص المال الدائم لتعكس بدورها الواقع الحقيقي للبلاد ومعضلاته الاقتصادية والاجتماعية والأصعب السياسية حين يمر بقبائل مختلفة متناحرة كانت، وبعضها لم يتخلص حتى اللحظة، من ضغائن الماضي لكن اللافت أن الأفلام والسينما وبتكرار المهرجانات قد غيّرت الكثير وبخاصة عند الأطفال الذين بدأوا نسيان ما كان أهلهم يُسمعونهم من حكايات رعب وخوف من الآخر. لقد وحدت السينما في حدود قدرتها بالفعل شعب متحارب وقربت رؤى مبدعين مختلفي الاتجاهات.
يوزع الفيلم في مقابلاته مع المخرجين بين مقاطع من أفلامهم وتجاربهم الانتاجية وفهمهم للسينما وبين تلمس تأثيراتها على الناس، رغم ميلها الى مخاطبتهم بلغة التسامح ونسيان الماضي والعفو وهي أفكار نبيلة لكنها غير مهضمومة بسهولة، ومع هذا يشتغل السينمائيون بذات الروح ما يكشف عن وعي متقدم لصناع السينما في بلد لا يعرف من تقاليدها أو أصول مشاهدتها إلا القليل لكن ارادة مجموعة متحمسة من محبي السينما تسهم كل يوم في تغيير الصورة القيمة لتصنع مكانها واحدة جديدة زاهية ساحرة مبهرة تنعكس في عيون الناس والأطفال وتفتح آفاق محبة بوسيلة لا يمكنها إلا أن تكون انسانية وشاملة لا تميز بين الأعراق وأن فعلت فقد أخلت بمهمتها التي سوف يتذكر مشاهدو هذا النص البصري المذهل والأكثر من بسيط كيف أن الوعي والالتزام الأخلاقي يحتمان على السينمائي لعب دور الداعية السياسي والاجتماعي غير المباشر والمقاطع التي عرضها الشريط من الأفلام المنتجة بأدوات بسيطة في البلاد تنحو هذا المنحى سينمائيا، عملياً وليس ثرثرة نظرية. يكرس الوثائقي جزءاً من وقته لمعاينة نظرة فريق عمل المهرجان الى صاحبه فنجد طغيان الروح المحبة والنظرة المبجلة لمنجز يعرفون جيداً أنه يصب في مصلحة ما يحبون وفي مصلحة شعب لا بد له من التعالي على آلامه، ثم ومن خلالهم يدخل الوثائقي الى حياته الشخصية والعائلية لنرى كيف يربي أطفاله وأي أفكار يغذيهم بها. وبمهارة نادرة يدخل في نفس الوقت في مفاصل حيواتهم، دون أن يشعرهم بذلك لكنهم يجدون أنفسهم على الشاشة يتحدثون بما يفكرون ويقولون ماذا يحبون ويكرهون، في تفاصيل دقيقة جعلت من “لُقْيَة هيليوود” لُقْية حقيقية فيها من كل شيء قليل: الخاص والعام، السينما والسياسة، الأطفال وتربيتهم الجاني والضحية، القسوة والفرح. أي صنيع وأي ابهار يقدم لنا عبر السينما وسحرها الدائم في دقائق قليلة.