“عيسى كاربوف” الرجل المطلوب بشدة
طاهر علوان
“الآن وبعد 11 سبتمبر صرنا نرى في عين كل رجل ذو بشرة سمراء شخص ما يريد قتلنا ..”
المحقق غونتر باشمان

أوروبا وهي لا تكاد تلتقط أنفاسها في صراعها مع الإرهاب والإرهابيين، مشاهد من حياة تتعلق بالمهاجرين ويومياتهم، المساران المتوازيان : المهاجرون / الإرهاب يُشكّلان واقعا يوميا تفيض به وسائل الإعلام ويكثر الحديث حوله من جميع الجهات، أسئلة لا تنتهي والإجابات لا تكتمل لكن المسألة ستتسّع إلى نوع من الفوبيا المعقدة التي تتداخل فيها بروباجندا سوداء وعنصرية، وكراهية في مقابل أيديولوجيا التشدد القادمة من القرون الوسطى، هذا إضافة إلى وجود جيل مشوّه العقل والتفكير ما انفكت تلك السلوكيات الإجرامية وهي تجرُّه إلى متاهات لا حصر لها.
هذه المقدمة تقودنا للحديث عن فيلم ( الرجل المطلوب بشدة ) للمخرج ( أنطون كوربين ) الذي يعرض في العديد من الصالات الأوروبية الآن والذي حشد فيه ثلة من ألمع نجوم هوليوود في مقدمتهم الممثل الشهير “فيليب سيمور هوفمان” والذي كان هذا هو آخر أفلامه (من مواليد العام 1967) ، وقد تألق في هذا الفيلم وقدّم واحدا من أجمل أدواره.
الإرهابيون من وراء الحدود

يبدأ الفيلم من مدينة هامبورغ الألمانية التي تُعدّ واحدة من البوابات الرئيسية للمهاجرين القادمين من وراء البحار إلى أوروبا، ونحن أمام فريق للاستخبارات الألمانية يقوده الضابط غونتر باشمان (الممثل سيمور هوفمان) وهم يراقبون محطات القطارات والشوارع الرئيسية وعقد المواصلات في إطار ملاحقة الإرهابيين ومراقبة الوضع الأمني ليلوح لهم رجل شبه متوار تحت ثيابه ويخفي وجهه ليجري فيما بعد تعقبه والكشف عن شخصيته وهو الإرهابي عيسى كاربوف (الممثل الروسي جيرجوري دوبرين) القادم من الشيشان ليتأكد من خلال المخابرات الروسية أنه أحد الإرهابيين الأكثر خطورة مما يجعل السلطات الألمانية تلاحقه.
يجد عيسى كاربوف ملاذا مؤقتا في منزل إحدى العائلات التي تتيح له أن يلتقي بالمحامية اليسارية الشابة آنابيل ريختر (الممثلة الكندية راشيل ماك آدامز) والتي تدافع عن حقوق المهاجرين وتسعى إلى مساعدة عمر كاربوف لكنها ترغب في معرفة خلفياته وأوراقه ليتضح أنه لا يمتلك أي أوراق سوى رسالة موجهة إلى مدير أحد البنوك في هامبورغ بغرض استرجاع عدة ملايين من الدولارات تعود لوالده، وأن عمر نفسه كان ضحية من ضحايا الاضطهاد والتعذيب حيث سجن في روسيا وتركيا ولاقى أصناف التعذيب ويريد استرجاع حريته هنا ، كل ذلك بدون أن تتضح أسباب اعتقاله.
دراما تتعلق بالمجتمع المسلم

يبنى السرد الفيلمي على تتبع جوانب من حياة مجتمع المسلمين في ألمانيا وفي مدينة هامبورغ خاصة حيث تقوم خلال ذلك المخابرات الألمانية بزرع الشاب جمال وهو من أصول عربية (الممثل المغربي مهدي الذهبي) كي يتجسس على والده فيصل عبد الله (الممثل الإيراني همايون إرشادي)، رجل الأعمال المشهور والمسلم المتدين الذي يشرف على العديد من الجمعيات الخيرية التي في نفس الوقت تثير شبهات السلطات الألمانية في احتمال كونها تمارس أعمالا إرهابية أو تدعم منظمات إرهابية، ويثير استغراب المحقق غونتر وفريقه توقُّف فيصل عبد الله في قبرص مدة غير قصيرة خلال رحلاته التجارية نحو دبي، وعلاقته بشركة نقل بالسفن مقرها هناك.
يبرز هنا محور مفصلي في الفيلم من خلال شخصية المحامية آنابيل، فهي تقع في وسط الصراع القائم في الفيلم حين تقود عيسى رابكوف إلى البنك ومديره تومي برو (الممثل الكبير وليام دافو) وهي التي ستقع في وسط المسافة بين حياة المسلمين المسالمين الراغبين في حياة مستقرة وبين السلطات التي تشتبه بهم … يقول لها المحقق غونتر باختصار شديد: “الآن وبعد 11 سبتمبر نحن نرى في عين كل رجل ذو بشرة سمراء شخص ما يريد قتلنا.” هذه هي الخلاصة التي تحرك عمل هذا المحقق وفريقه خاصة مساعدته المتمرسة الشرسة إيرنا (الممثلة الألمانية الكبيرة نينا هوس) التي لا يخفي اهتمامه الشخصي بها، وعلى هذا كله تجري مراقبة المحامية كي تكون جسرا للوصول إلى عالم عيسى كاربوف الحقيقي ونواياه الإرهابية المفترضة.
عندما تشعر المحامية بالمخاطر التي تنتظر عيسى تُقرر نقله فورا إلى مكان آخر، لكن شبكة المحقق غونتر ستكون على علم بالأمر ومع ذلك تنجح المحامية في الإفلات من ملاحقة المحققين وإخفاء عيسى. في ذات الوقت يتحقق مدير البنك من وجود عدة ملايين من الدولارات في حساب والد عيسى، لكن الأخير يريد التخلص منها لأنها أموال غير نظيفة بحسب تعبيره لأن أباه جناها من أعمال الشر وتبييض الأموال ولهذا لا يريد أن يلمسها.
مع كل ذلك ، ورغم أن عيسى لا يريد الاحتفاظ بالمال ولا استخدامه بطريقة شريرة، ومع أن ظهره ممزق من جراء التعذيب والسياط في سجون تركيا وروسيا ولم يظهر أي نوازع إجرامية أو إرهابية مكتفيا بالصلاة ورغبته في التخلص من آثام أبيه، وهو ما تدركه المحامية عميقا، مع ذلك فهو الرجل الخطر لدى السلطات الألمانية ويجب الإيقاع به.
ملاحقة للإيقاع بآخر الرموز

تتصاعد الدراما الفيلمية ويجري زج عناصر جديدة في القصة ألا وهي دخول المخابرات الأمريكية وتحديدا القسم الخاص بمكافحة الإرهاب التابع للسفارة الأمريكية في ألمانيا على الخط ورغبتها الشديدة في الإمساك بملف عيسى كاربوف وهو ما يلاقي رفضا شديدا من المحقق غونتر وفريقه بعد سلسلة لقاءات مع المحققة الأمريكية مارتا (الممثلة روبن رايت) لتنتهي الداخلية الألمانية إلى قرار بأن يتولى غونتر الملف .
مباشرة يلقي غونتر وفريقه القبض على المحامية، هكذا بلا مقدمات، عملية مدبرة في وسط الطريق يضعون في رأسها كيسا أسود ويلقون بها في غرفة حيث تكون رهن التحقيق لاتهامها بدعم الإرهاب. وبعد عدة جلسات تحقيق تنهار المحامية وتوافق على التعاون مع المحققين بما في ذلك زرع الكاميرات وأجهزة التنصت في المكان الذي أخفت فيه عيسى كاربوف .
يلاحق غونتر مباشرة مدير البنك ويزجه في العملية وذلك بهدف الإيقاع بفيصل عبد الله المشرف على الجمعيات الخيرية ولهذا يتولى الجمع بين الاثنين أي بين عمر كاربوف وعبد الله، ولكن السؤال هو : هل سيقوم فيصل عبد الله في اللحظة الأخيرة باستبدال إحداها بتلك الشركة المتواجدة في قبرص والتي تدعم أعمال القاعدة ؟
لحظة الإجهاز على الخصوم
في نفس الوقت وبعد أن تتضح الصورة لدى المحقق غونتر بأن عيسى كاربوف ليس هو المطلوب الحقيقي مادام قد تبرأ من أموال والده ولم تظهر عليه ميول إرهابية يتم منحه الأوراق الرسمية للإقامة في ألمانيا.

يحبس الجميع أنفاسهم وهم يتابعون من خلال أجهزة المراقبة عملية التوقيع على الوثائق التي بموجبها سيجري تحويل الأموال إلى الجمعيات الخيرية التي يشرف عليها فيصل عبد الله ويقوم هو فعلا بالتوقيع عليها جميعا إلا جمعية واحدة يقول أنه يريد استبدالها بشركة مقرها في قبرص هي أيضا تقوم بأعمال خيرية وهنا يكون فيصل عبد الله قد أثبت على نفسه تهمة الإرهاب.
يخرج فيصل عبد الله وعيسى كاربوف من البنك، عيسى يكون قد انطلق إلى فضاء الحرية وفيصل عبد الله على أساس أنه نجح في إرسال أموال للشركة التي تموِّل الإرهاب، لكن ما لم يكن في الحسبان أن تكون أجهزة مكافحة الإرهاب الأمريكية في الانتظار حيث تلقي القبض في عملية سريعة مباغتة على الاثنين فيصل عبد الله وعيسى كاربوف، وسط صراخ المحامية والمحقق الألماني غونتر الذي يجد نفسه عاجزا عن فعل أي شيء وقد قطفت الأجهزة الأمريكية ثمار العملية كلها وتجاوزت سيادة الدولة الألمانية.
ينسج السرد الفيلمي خيوطه من خلال عملية التحرِّي بما فيه من توظيف الشكل البوليسي في تتبع خيوط وخلفيات الصراع لكن بالموازاة لا نجد تلك التحولات الدرامية المفاجئة بقدر الشك والتحرِّي والمراقبة المطولة التي يجري الاشتغال عليها، سيناريو تبنى خطوطه العامة على ثيمة ليست جديدة على المتلقي مادام قد تم إلباس صفة (الإرهابي) على شخصيات معلوم من أين أصولها وما انتمائها العرقي، هذا إذا أضفنا الأحكام المسبقة يضاف إلى ذلك أن الفيلم مأخوذ عن رواية حملت الاسم نفسه للكاتب جون لي كاري.
على صعيد الصورة وجمالياتها فقد نجح مدير التصوير ” بينوا ديلهوم ” في صنع بناء صوري تناسب مع إيقاع الفيلم ومجريات الأحداث والصراع فيه، لاسيما في المشاهد الأكثر دراماتيكية التي صُوِّرت في الليل أو تلك التي عبّرت عن عزلة الشخصية “عيسى كاربوف” المعزول في ذلك المكان المهجور، مكان اختباءه، وهو بانتظار أن يواجه مصيره في أي لحظة.