مهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير
“ربيع شتوي” المصري بعيدا عن السياسة
والإيرلندي “مكان ما أسفل الخط” أحسن فيلم تحريك عن الفقد والعلاقات الأسرية
أمل الجمل – فرنسا

شئون العائلة، والعلاقات الأسرية بما يكتنفها من خلافات ومشاكل، أو فقدان سواء بالموت أو الاختفاء، وعلاقات الحب المرتبكة والشائكة كانت سمة بارزة لأغلب الأفلام المشاركة في كليرمون فيران للفيلم القصير – والتي سنعرض لاثنين منها نال أحدها الجائزة الكبرى للمهرجان – الذي عُقدت دورته السابعة والثلاثين في الفترة ما بين (30 يناير – 7 فبراير 2015) وهو المهرجان الذي بدأ متواضعا عام 1979 لكنه أصبح أهم مهرجان للفيلم القصير في العالم أجمع، والذي تضمن هذا العام عرض أكثر من 400 فيلم قصير متنوع ما بين وثائقي وروائي وتحريك من مختلف أنحاء العالم، والتي تم توزيعها على مختلف الأقسام والبرامج السينمائية كان من بينها عروض استعادية احتفالا بالسينما الصينية تحت عنوان “ترويض التنين” حيث عرض لها 29 فيلماً، وبرنامج “المنظور الأفريقي” الذي تضمن 11 فيلما عن القارة السمراء ومشاكلها، إلى جانب قسم عن السينما الفلسطينية لمخرجين لا يحملون هويتها، وغيرها من البرامج التي تحتفي بسحر السينما.
ربيع شتوي
من بين ثمانية عشر فيلما مصرياً تقدمت للمهرجان كان فيلم “ربيع شتوي” للمخرج محمد كامل هو الفيلم المصري الوحيد الذي تم قبوله للمشاركة في المسابقة الرسمية الدولية للمهرجان، إذ عرض ضمن البرنامج الدولي الذي يضم 77 فيلماً من مختلف أنحاء العالم، وكان أحد ثلاثة أفلام عربية فقط شاركت في هذه الدورة.
نال الفيلم إعجاب الجمهور حتى وإن خرج من دون جوائز على عكس الفيلم التونسي “الأب” الذي نال جائزة الجمهور وتنويه خاص من لجنة التحكيم. كما أنه حافظ على استمرار مشاركة مصر بالمهرجان للعام الرابع والعشرين على التوالي. هو روائي قصير مدته 15 دقيقة، شارك المخرج في كتابة السيناريو له مع تامر عبد الحميد، ويقوم ببطولته أحمد كمال، والصبية إيمان مصطفى التي تجسد شخصية نور، تلك الصبية التي تمر بمرحلة المراهقة وتقلباتها وما يكتنفها من اضطرابات. هى طالبة مرهفة الإحساس نراها كثيرة الشرود في حصص المدرسة، تصاب بالاشمئزاز من منظر دودة القز التي سلمها لها المدرس لتتابع التطورات التي تحدث لها وتقوم بتدوينها. تعيش نور بمفردها مع والدها بعد أن توفيت الأم.

يسعى الأب لتلبية مطالبها قدر استطاعته. يتعامل معها بلطف وحنان لكنها لا تتعامل معه بالمثل، فهى دائماً صامتة مكفهرة. مع ذلك يتولى مسئوليتها كأنما هو الأم والأب. لكنه مع ذلك لا يعي تماما تقلبات المرحلة الخطرة التي تمر بها الفتاة. فجأة عندما تطلب منه مبلغاً من المال يبتسم ويسألها لماذا؟ تقول “عاوزاه وخلاص”. يتغير الوجه وتتبدل ملامحه إلى الضيق. يسألها ثانية لكنها في تلك اللحظة ترد بحسم: “خلاص مش عاوزاه يابابا..” فينصرف الأب وتبقى الفتاة في مكانها.
في المساء بينما الأب في طريقه لغرفة نومه يلمح ابنته تستلّ مبلغ النقود من محفظته قبل أن تُعيدها إلى جاكت البدلة. الصدمة تصعق ملامحه، يرتبك، غير مصدق، يتراجع بسرعة للخلف حتى لا تراه وكأنه لا يعرف كيف يتصرف. في المشهد التالي نراهما على مائدة الطعام، الفتاة لا تأكل، وتكتفي بتحريك الملعقة في الطبق أمامها، هل كان يخالجها الندم أو الحزن؟، بينما الأب في حالة غضب غير مباشر، غضب يرقد في الأعماق يسعي لكبته لكنه يتبدى في الإيماءات الجسدية له، في حركة يد تمسك رغيف الخبز وتقطع منه بتوتر أو وهو يلقيه على الطبق أمامه بينما يرمق ابنته، مما يجعل المتلقي يشعر بأن جدران جديدة انتصبت بينهما. يعيد الأب علي ابنته السؤال، وتعيد هى نفس الإجابة: “خلاص مش عاوزاه”… فيسألها: “ليه؟ علشان أخدت اللي انت عاوزاه… أخدت الفلوس من محفظتي”. لكن الفتاة التي باغتتها المفاجأة تنكر فعلتها بحدة وتحدي ويرتفع صوت الأب بانفعال شديد قبل أن ينصرف خارج البيت قائلاً: “يبقى أنا اللي بتيجي لي تهيؤات.”
عندما يعود الأب ليلاً يجد ابنته نائمة أمام التلفاز فينقلها إلى سريرها وبينما يهم بتغطيتها يلمح آثاراً للدماء على بنطالها. مفاجأة أخرى كانت في انتظاره، لكنها مفاجأة تمحو أثر الصدمة السابقة، وتفسر تصرف الصبية، توضح لماذا اضطرت لأخذ النقود من محفظته دون علمه، ولماذا لم تتمكن من إخباره؟ من أجمل لقطات الفيلم نظرة الأب إلى ابنته التي تكشف تعاطفه معها وإدراكه أنه لم يكن يعي ما يحدث لها رغم كل جهوده، نظرة تشي بأنه لم يكن في مستوى الدور التي تقوم به الأم، وأنه حزين لتلك الصبية التي فقدت أمها في مرحلة هى في أشد الحاجة إليها، نظرة فيها مزيج من المشاعر بين شبح إحساس بالفرح لأن ابنته تكبر وتدخل مرحلة عمرية جديدة وبين إحساس بالخوف مما هو آتي.
جاء أداء أحمد كمال مميزاً خصوصاً بنظراته المعبرة عن ارتباكه واضطرابه الممزوج بشيء من الفرح والخوف في آن واحد. وكذلك وفق المخرج في اختيار الصبية التي جسدّت دور نور، ونجح في ضبط الإيقاع إلى حد كبير، وفي توظيف مشهد الحلم ببساطة ومن دون أي تصنُّع ومن دون اللجوء إلى الرمز، ففي المساء نرى لقطة لا تكشف كثيرا عن نفسها، لقطة للفتاة تسير بهدوء وحذر إلى المطبخ لتجد هناك امرأة شابة تبتسم لها، فتجلس أمامها، تربت على شعرها وتقبله ثم تمنحها حبة جوافة فتقضم منها وتبدأ المرأة الشابة هى الأخرى في تناول واحدة أخرى.
مكان ما أسفل الخط

أما فيلم “مكان ما أسفل الخط” من إخراج وتأليف جوليان رينارد، والذي حصد جائزة أحسن فيلم تحريك، فهو شريط سينمائي يخلو تماماً من أي حوار، مدته عشر دقائق، به قفزات زمنية متفاوتة من دون أن تُخلّ بالمعنى الدرامي، إذ نجح في تكثيف الحياة الممتدة لرجل تحدث له العديد من التبدّلات في حياته نعايشها خلال رحلته مع الركاب الذين يصعدون إلى سيارته، إلى أن يعثر على الحب ثم يعاني الفقد والحياة الباردة الجليدية إلى أن يصاب بالشيخوخة.
يبدأ الفيلم من مرحله شبابه، إذ يركب معه زوجين وعندما يتشاجرا ويهبطا لشراء شيء ما من السوبر ماركت يتركهما ويسرع بالفرار، ثم يصعد إلى سيارته اثنين آخرين، وعند محطة بنزين يجد امرأة شابة تعطلت سيارتها، تقترب منه وتطلب منه المساعدة فيصطحبها في سيارته ويترك الآخرين. طوال الطريق يشاهدا أشياءاً مختلفة منها حادث لسيارة تشتعل، فيلفت نظرها بلمسة من يده وكأنه يدعوها لئلا تحزن لأنها نجت بنفسها عندما تعطلت السيارة، تغمض عينيها لتستريح وكأنها تطمئن إليه، يتأملها بود وتعاطف، تستيقظ، تضع يدها فوق يده، ثم يدخلان نفقاً ممتداً.
يتكرر الشجار بين الزوجين، هذه المرة بين الرجل والمرأة الشابة بعد أن أنجبا طفلة جميلة. الإنفعال يكاد يتسبب في حادث، تصاب الزوجة بنزيف في الرأس. تبكي الطفلة في خوف وتحتضن حصانها الخشبي، وعندما تتوقف العربة تخرج الزوجة حاملة طفلتها وتستوقف أول شاحنة تمرّ مسرعة وتختفي بداخلها على الطريق، يحاول الزوج اللحاق بهما دون جدوى، ويظلّ يهيم على وجهه في صحراء جليدية مترامية الأطراف إلى أن يهرم. وذات يوم يستوقف سيارة تقودها امرأة شابة، تتأمله في ود وتعاطف مشوب بالحزن والرقة لحاله. ثم في لحظة ما ينتبه الرجل إلى الحصان الخشبي، ونرى نظرة عينيه غير المصدقة.
الفيلم رغم بساطته مضفور برقة تغلفها المشاعر التي عبرت عنها خطوط فنان التحريك – والذي شارك المخرج في رسمها مع باسكال جيرود – سواء في حالات الغضب أو الحب أو الفقدان.