القراصنة وتراجيديا في عرض البحر

طاهر علوان

“سأخبرك شيء، لن يكون وقع الأمر سهلا على أبنائنا، إنهم سيعيشون في عالم مختلف عن العالم الذي عشنا فيه، لنتذكر ذلك.”
الكابتن فيليبس

في الصراع على الشاشة وفي الدراما عموما سنتساءل عن مبدأ التكافؤ والتعادل أو الرجحان لكفة على أخرى بين كفتي ذلك الصراع وتلك الدراما، قوة أضداد تجعل مسار السرد الفيلمي أكثر تشويقا وفي الوقت نفسه أكثر تماسكا وإقناعا .. في فيلم “القبطان فيليبس” المأخوذ عن قصة حقيقية، من المهم التوقف عند إشكالية الصراع والدراما والأضداد المتصارعة، هذا الفيلم نال أصداء واسعة بعد عرضه محققا إيرادات كبيرة زادت على 200  مليون دولار ورُشِّح لستة من جوائز الأوسكار لكنه لم يفز بأي منها وهو أمر معتاد في كواليس قرارات الأوسكار.

الفيلم  من إخراج (باول جرينجراس) الذي سبق وأتحفنا بفيلمه ذائع الصيت (منطقة خضراء – 2010  ) عن حرب العراق، وهو مأخوذ عن كتاب بعنوان “قبطان في الواجب” للمؤلفين ريتشارد فيليبس وستيفان تالتي اللذين تعاونا في تقديم قصة حقيقية إذ كان القبطان “ريتشارد فيليبس” قبطان الباخرة الاباما ماريسك قد تعرّض لهجوم من طرف القراصنة في عرض المحيط الهندي ولهذا  فنحن في هذا الفيلم سنكون أمام مغامرات وصراع وقطع أنفاس، من خلال البطولة الفردية ولكن السلمية للقبطان فيليبس (الممثل ذائع الصيت توم هانكس) في رحلة روتينية يقود خلالها باخرة تجارية محملة بالحاويات من ميناء صلالة في سلطنة عمان عبر خليج عدن وسواحل الصومال حيث وجهته الأخيرة هي ميناء مومباسا في كينيا.
ها هو القبطان يلملم أوراقه وامتعته ويودِّع زوجته في أحد المطارات الأمريكية ثم ليصل إلى صلالة ليتخّذ موقعه في قيادة الباخرة العملاقة (الاباما ماريسك) وبعد انطلاق الرحلة مباشرة وبسبب تردد أصداء الإغارات المفاجئة للقراصنة الصوماليين في خليج عدن وبالقرب من المياه الإقليمية للصومال فإن القبطان يدعو إلى إجراءات أمن وإخلاء تجريبية مشددة، يدرب خلالها طاقمه من العاملين والمساعدين على كيفية الإخلاء في حال تعرضهم إلى غارة من القراصنة أو إذا ما احتلوا الباخرة.

القراصنة يستعدون

هذا التدريب في عرض البحر يثير غضب بعض أفراد طاقم الباخرة الذين يحتجّون أنهم مجرد عاملين مدنيين لا علاقة لهم بممارسات عنفية  وإطلاق رصاص ومقاومة قراصنة يعرضون فيها أنفسهم للخطر، رد القبطان بشكل مباشر وشديد: ارضَ بالأمر الواقع أو ارحل، ولدى الوصول إلى أقرب ميناء سيرتب لكل من لا يعجبه الوضع رحلة عودة لبلاده ولهذا يلزم الجميع الصمت.
مشهد مصنوع بعناية، ممثلون صوماليون وأشخاص حقيقيون، قرى صفيح متهالكة قرب السواحل الصومالية، قراصنة شباب يتنافسون على ركوب الأمواج لاختطاف أية سفينة عابرة من أجل الفدية، ينتظمون في شكل مافيا وها هو مسؤولهم المباشر يختار مجموعة منهم للإغارة على إحدى البواخر العملاقة القادمة وطلب الفدية، ويتم اختيار من سيقومون بالمهمة في زورقين ولدى اقترابهم من الباخرة الاباما، يقوم القبطان فيليبس بخدعة إذ يدخل على الخط اللاسلكي للقراصنة ويوصل لهم رسالة بأن قوات البحرية الأمريكية قادمة للإجهاز عليهم  مما يُحدث انقساما فيما بينهم، وينسحب أحد الزورقين فيما يصاب الآخر بعطب.

يعود القراصنة إلى قاعدتهم ثم يعدّون العدة مجددا لملاحقة تلك الباخرة يقودهم القرصان عبد الولي (الممثل الصومالي الشاب برقاد عبدي) هو وثلاثة من زملائه، ولدى اقترابهم من الباخرة الاباما يعلن القبطان فيليبس الطوارئ على سطح الباخرة ويناور بكل الوسائل للتخلص من زورق القراصنة الذي يقترب، وأخيرا يطلب من جميع الطاقم الاختباء في غرفة المحركات بعد أن يطلب النجدة من البحرية الأمريكية.
ينجح القراصنة في صعود الباخرة وإطلاق النار في كل اتجاه والصراخ بأنهم ليسوا من القاعدة وإنما هم صيادون أولا وقراصنة ثانيا يطالبون بفدية بعدة ملايين من الدولارات، يناور القبطان فيليبس معهم ويقنعهم أن لديه في خزانة الباخرة مبلغ 30 ألف دولار يمكن أن يمنحهم إياها وينصرفوا بسلام لكنهم يرفضون ذلك، يفتش القراصنة طوابق الباخرة بحثا عن باقي العاملين دون جدوى لكن مناورة قطع الكهرباء وإلقاء الزجاج ليصيب قدم أحد القراصنة بجراح يحول دون وصولهم إلى أحد من العاملين عدا القبطان واثنين من مساعديه، لكن بعضا من المساعدين ينجحون في القبض على القرصان عبد الولي ويجردونه من سلاحه ويضربونه وحينما لا يجد من سبيل يعلن أنه قرر الانصراف بزورق نجاة يجهز لهم من الباخرة راضيا بالمال الذي سيعطونه لهم، ولكنهم يقومون بمناورة ينجحون خلالها في أخذ القبطان رهينة معهم في زورق النجاة.

مشاهد قطع الأنفاس

تتصاعد الدراما وتحتشد قطع البحرية الأمريكية والضفادع البشرية في أقصى درجات الإنذار، وتجرى مفاوضات شاقة مع القراصنة في عرض البحر دون جدوى، إذ يرفضون الإفراج عن القبطان دون أخذ الفدية ولكن قوات البحرية تنجح في استدراج القرصان عبد الولي وجلبه إلى السفينة الحربية لغرض التفاوض معه، بينما يبقى القبطان تحت رحمة القراصنة الآخرين الشرسين الذين يوسعونه ضربا بعد محاولته الهرب سباحة، لينتهي الأمر بهم بثلاث رصاصات تجهز عليهم كلٌ بطلقة واحدة من القناصة، فيما يتم نقل عبد الولي إلى الولايات المتحدة لينال30  عاما سجنا هناك.
يحتشد الفيلم بالأحداث المتسارعة والموت يحوم حول الشخصيات في كل لحظة من جراء انفعالات وطيش ورعونة القراصنة المتهورين، وتتكامل قوتا الصراع وتتعمق الدراما: أربعة مسلحين في مقابل بواخر وزوارق حربية وضفادع بشرية وأجهزة استراق صوتيه وكاميرات تنقل عبر الأقمار الصناعية في صراع مرير يتم فيه استخدام جميع الخدع ووسائل الرصد والمراقبة والاستراق الصوتي بهدف الإجهاز على القراصنة وإنقاذ الطاقم.
يتألق فيه الممثل الكبير توم هانكس فضلا عن أداء الممثلين الصوماليين البارع الذين أدوا أدوار القراصنة وخاصة الممثل الصومالي الشاب المقيم في الولايات المتحدة “برقاد عبدي” وكان قد شارك في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية الناجحة.

يلفت النظر البراعة في تصوير مشاهد الحركة والنجاح الملفت في التخلص من وحدة المكان، لاسيما وأن أغلب الأحداث المهمة تقع في أروقة الباخرة وممراتها الضيقة مما لا يتيح متسعا لحركة الكاميرا ولكن مع ذلك نجحت كاميرا مدير التصوير “باري اكرويد” في صنع صورة متقنة وحركة كاميرا نشيطة واكبت الأحداث، وقُدِّم خلالها بناء صوريا متماسكا ومقنعا وعلما بأنه مدير التصوير نفسه في عدد من الأفلام المهمة مثل خزانة الألم 2009 حيث حصل على جائزة أوسكار أحسن تصوير فضلا عن حصوله على ترشيحات عدة لجائزة بافتا.
أما المخرج “باول جرينجراس” 1955- فقد أخرج قبل هذا الفيلم قرابة 12 فيلما روائيا طويلا ورُشِّح مرارا لنيل جائزة بافتا والأوسكار عن عدد من أفلامه، إلا أنه لم يحصل إلا  مرة واحدة على جائزة بافتا 2006 عن فيلمه  ” يونايتد 93 ” كما لمع في فيلم منطقة خضراء 2010 عن احتلال العراق .
 نجح جرينجراس دون شك في صنع فيلم متميز في موضوعه ومعالجته وبنائه، وعلى مدى أكثر من ساعتين من الزمن، لم يخفت الصراع ولا تصاعد الأحداث وبذلك بقي الفيلم على وتيرة إيقاع متصاعد متزامنا مع سرد فيلمي مقنع ومميز، ومن يشاهد الفيلم لاشك أنه سيشعر  بشحنة عاطفية إذ سيتعاطف مع القبطان الطيب والشجاع والإنساني في مقابل أولئك الأشرار الذين قدموا عرضا تراجيديا في عرض البحر، وليقدم لنا الفيلم صورة أخرى للأعداء الذين يقضّون مضاجع الأبرياء ويشوهون صورة الحياة المدنية المسالمة.


إعلان