“قفزة صغيرة إلى أسفل”

أمير العمري

“قفزة صغيرة إلى أسفل” هو الفيلم الإيراني الثاني الذي عُرض في مهرجان برلين السينمائي. وبينما عرض فيلم “تاكسي” لجعفر بناهي داخل المسابقة الرسمية، وحصل على جائزة المهرحان الكبرى- الدب الذهبي- عرض “قفزة صغيرة إلى أسفل” في قسم بانوراما الموازي للمسابقة، وفاز بجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (فيبريسي) كأحسن فيلم عُرض في بانوراما.
هذا هو الفيلم الأول للمخرج حميد رجابي، الذي كتب سيناريو الفيلم البديع الذي شاهدناه قبل عامين، وهو فيلم “بارفيز”. ويصور الفيلم كيف يعيش بطله “بارفيز”، وهو رجل في الخمسين من عمره، مع أبيه، في شقة فاخرة، فهو أعزب، مفرط في البدانة، لا يغير ملابسه الداكنة، يتحرك كثيرا، يتنفس بصعوبة، يدخن ويخفي الأمر عن والده. إنه “طفل كبير”، لا يؤدي عملا حقيقيا، يعاني من العزلة الاجتماعية والشعور بالاغتراب عن محيطه الاجتماعي. تنهار حياته عندما  يخبره والده الصارم ذات يوم، أنه يعتزم الزواج، وأنه يتعين عليه بالتالي الانتقال إلى شقة أخرى استأجرها له خصيصا. هنا تنهار منظومة حياته بالكامل ويتحول تدريجيا إلى حالة من الاضطراب النفسي والعقلي، والتحول في السلوك، فيرتكب أولا عددا من المخالفات، تتصاعد لتصل إلى حد الجريمة الكاملة.

 كان “بارفيز” تعليقا دراميا متشائما عن الواقع، إلى جانب كونه أيضا دراسة نفسية لحالة فردية، تمزج بين الرعب والدراما الاجتماعية، يتخلى بطله تدريجيا عن أي رادع سائد، ويتجّه إلى الانتقام من المجتمع عن طريق إيذاء الجميع: الأب وزوجة الأب والجيران.. إنها حالة رجل ليس أمامه أي بارقة أمل.
هذا التكوين المحدد للشخصية هو أيضا الإطار الذي تتحرك فيه شخصية “نهال” بطلة فيلم “قفزة صغيرة إلى أسفل”. إنه عمل يجمع بين دراسة الشخصية والتعليق الاجتماعي غير المباشر، مصورا حالة الحصار والاختناق والعزلة التي تعيشها بطلته الشابة المتزوجة التي تعرف في أول مشاهد الفيلم أن الجنين الذي تحمله في بطنها ميت، وأن عليها العودة لإجراء عملية للتخلص منه.
“نهال” تغادر وتذهب إلى بيتها لكنها تبقي الأمر سرا تطويه في داخلها، لا تبوح به حتى لأمها التي تبدو غير مبالية بل وغير مستعدة لسماع أنباء سيئة، أو لشقيقتها التي تجد ذريعة تتهرب بها من لقاء نهال والاستماع لها، كما تخفي الأمر عن زوجها الذي ربما تمثل الحقيقة له صدمة العمر. والجميع، في الحقيقة، يبدون وقد رتبوا أمرهم على أن الحمل مستمر كحالة مفروغ منها، وهم جميعا مستبشرون بقدوم المولود الجديد.

ومثل “بارفيز” تبدأ سلوكيات نهال في التغير تدريجيا، تتحول إلى العدوانية ولا تستطيع إخفاء شعورها بالرفض والغضب، ومع تصاعد البناء وتراكم المواقف، يتصاعد إحساسها بالاختناق، بالاغتراب عن محيطها الاجتماعي الطبيعي الذي يبدو لامباليا بما يوجد في داخلها، زوجها ينصحها أولا بالذهاب إلى طبيب نفسي، ثم يطلب منها أن تذهب للتسوق ويمنحها بطاقته المصرفية، بينما يبدو منشغلا بالترقية التي حصل عليها في العمل، ويستعد للانتقال إلى شقة جديدة تليق بالمنصب الجديد.
نهال تشتري فستانا بمبلغ خيالي باستخدام بطاقة الصرف الخاصة بزوجها وكأنها تنتقم منه، ثم تتعمد تحطيم مقدمة السيارة، وتتركها في جراج لتصليح السيارات، ثم يتفتق ذهنها عن أغرب حيلة يمكن أن تصفع بها الجميع: أن تقيم حفلا في الشقة الجديدة – التي لا تزال خالية – تدعو إليه جميع أفراد عائلتها وصديقاتها. وعندما يأتي الجميع لا يجدون مكانا للجلوس، فيكتفون بالوقوف حائرين، فما هي المناسبة، وما هذا المشروب الوحيد الذي تقدمه نهال لهم جميعا، عصير البرتقال؟ ولماذا هي صامتة هكذا، ولماذا لم يحضر زوجها؟ ويبدأ الجميع في توجيه الأسئلة والاتهامات، ثم يتشككون في أن يكون العصير مسموما، خصوصا بعد أن تتقيء إحدى النساء وتشعر بتعب في معدتها، وتكون النتيجة أنهم يأخذون جميعهم، في إرغام أنفسهم على التقيؤ، بينما تتطلع إليهم نهال في برود مصرة على أنها لم تضع شيئا في العصير الذي تشرب منه هي أيضا !

“قفزة صغيرة إلى أسفل” تعليق اجتماعي حاد عن الاغتراب، عن الوحدة، عن تلك العزلة الاجتماعية المخيفة التي يعاني منها أفراد الطبقة الوسطى الإيرانية اليوم، عن القيد الاجتماعي الحاد المفروض على البشر. وما الجنين الميت في بطن بطلته الشابة سوى تعبير مجازي عن موت الأمل، فقدان الضوء والمستقبل. إنها رؤية سوداوية قاتمة للواقع الإيراني المعاصر.
لا يقوم بناء الفيلم على حبكة معينة، لكنه يراكم تصعيد المواقف التي تشي بتدهور الحالة النفسية لبطلته: هي مثلا تصل إلى حد إغلاق باب الشقة من الخارج والداخل على نفسها، وتضع أكواما من الصناديق التي وضع فيها زوجها معظم الأشياء تمهيدا لنقلها إلى الشقة الجديدة، ترفض أن تفتح لأحد، ترفض البوح بما يسبب لها الإحساس بالاكتئاب، فالموضوع ليس متعلقا بـأمر محدد بل بإحساس عام بالاختناق يولده موت الجنين. هنا ينجح المخرج حميد رجابي في خلق الجو العام وتجسيد المشاهد المختلفة، التي تصل إلى ذروة الاحساس بالرعب في مشهد الحفل الكئيب، وهو يجيد التمهيد له، كما يجيد الانتقال بين الداخل والخارج في الفيلم، واستخدام الأصوات الطبيعية في الشارع بشكل مميز، ومزج الأصوات الطبيعية بالموسيقى القلقة القريبة إلى النواح.
ولعل من أفضل الجوانب الفنية في الفيلم، ذلك الأداء الرفيع من جانب الممثلة “نيجار جفاهيريان” التي تقوم بالدور الرئيسي، بقدرتها الكبيرة على الصمود وحدها أمام الكاميرا في معظم لقطات الفيلم، متحكمة في تعبيراتها، معبرة عن ذلك الخوف والقلق والشعور بالغثيان من كل شيء، رغم محاولات الزوج، الذي يقوم بدوره رامبود جافان، أن يكون لطيفا، رقيقا، متفهما وإن يكن منصرفا إلى أحلامه الخاصة !

في أول مشاهد الفيلم بعد أن تعلم نهال أن الجنين قد مات في داخلها، تخرج وتجلس على مقعد خشبي في العيادة الطبية، في انتظار أن تأتيها الممرضة ببعض الأدوية. تقترب منها سيدة، تسألها: كيف يسير حملها؟ تقول لها إن الجنين مات. المرأة تتطلع إليها في دهشة، ثم تقول لها وهي تبتعد عنها في فزع: إذهبي إلى بيتك واتركي نفسك للبكاء، فالبكاء سيريحك. وطول الفيلم، لا تبكي نهال قط سوى في النهاية، بعد أن تفشل كل جهودها في الانتقام من ذلك المجتمع الذي لا يبالي !


إعلان