“الهروب العظيم”.. التناصّ التسجيلي والتفرُّد
قيس قاسم

ما الذي يتفرد به الدنماركي “الهروب العظيم لسنودن” عن الوثائقيات التي سبق وأن تناولت قضية سنودن، وآخرها على وجه التحديد “المواطن 4″؟ قد يبدو هذا السؤال محاولة لتجنُّب سؤال أكثر إلحاحاً، وهو؛ ما هي أوجه التناصّ بينه وبين بقية الأفلام؟ الإجابة على السؤالين ستأتي من المخرج جون كويتس باول، نفسه، لأنه تعمّد تضمينها في متني فيلمه السردي والبصري، لإدراكه مسبقاً بأن ثمة تشابه وتكرار ربما سيقع حين سيسهم في معالجة موضوع حيوي يشغل الرأي العام ويحظى باهتمام إعلامي كبير وبرغبة مُلحّة عند تسجيليين كثر لتناوله من زوايا مختلفة، ولهذا ينبغي البحث عن تفرُّد وإلا سيظهر منجزه كنسخة عن سابقاته فيغدو حينها قليل الأهمية تنقصه الخصوصية والأصالة، وهذا ما تجنبه فعمل على أخذ جزء من الحكاية الملهمة والاشتغال عليها، وكان أكثرها مدعاة لحماسته تسجيل عملية الهروب من هونغ كونغ إلى روسيا الاتحادية، ثم، ولإضافة المزيد من المصداقية والتفرد عليها قام بإقناع سنودن ومن شارك معه في ترتيب تفاصيلها، مثل جوليان أسانج، مؤسس “ويكيليكس” وزميلته سارة هاريسون، بالحديث عنها كما هي، بكل ما فيها من أسرار وخفايا لم يعرفها العالم من قبل، ولم تظهر في أي عمل وثائقي من قبل!
الحكاية ستؤطَر بنفَس مغامراتي، سريع الإيقاع، يجعل من التناصّ القليل، والذي كان لابد من وجوده بسبب الشخصية المركزية ودورها الذي بات معروفاً في الكشف عن خروقات “وكالة الأمن القومي” ومراقبة المواطن الأمريكي ورصد كل تحركاته في خرق صارخ لمباديء حقوق الإنسان وتجاوز مريع لآليات حماية الخصوصية، ما دفع سنودن إلى كشفها للعالم عبر دائرة ضيقة من الصحافيين وَثِق بهم مثل؛ غلن غرينوولد وأوان ماكاسكيل ـ وما عدا ذلك المعروض باقتضاب ومن خلال الشهادات المقدمة وليس بمقاطع مطولة وتمهيدية كما في غيره من الأفلام، فإن الاشتغال السينمائي المثير كان منصباً على معرفة التفاصيل الخاصة بحالة سنودن، بعد التسريبات الصحافية وزيارة الصحفيين له في هونغ كونغ واستلامهم الوثائق السرية منه وما تبعها من تحركات عصبية لأجهزة المخابرات الأمريكية التي راحت تعمل بحمية مع وزارة الخارجية لإلقاء القبض عليه وإرجاعه إلى البلاد بأي ثمن، والكيفية التي خدع فيها أكبر مؤسسة مخابراتية وتجسسية في العالم!

يظهر دور أسانج و”ويكيليكس” قوياً ومحورياً في العملية التي تبنّاها بعد طلب سنودن منه المساعدة. لقد شعر كما يتبيَّن في شهادته أمام المخرج جون كوتيس ومساعده إريك هيلبوث أن الكثير من المؤسسات الصحفية، بما فيها “الغارديان” المستفيد الأكبر من وثائقياته، قد توقف دورها عند هذا الحد ولم تتقدم بأي خطوة عملية أو معنوية باتجاه حمايته رغم علمها بأنه صار مطلوباً في الولايات المتحدة الأمريكية وأن وجوده في هونغ كونغ غير آمن ـ باستثناء “ويكليكس” التي وقفت موقفاً تضامنياً وتبنّى أسانج مهمة الدفاع عنه وحمايته بكل إخلاص لهذا شعر سنودن بالأمان معه ومع زميلته الصحافية العاملة في المؤسسة سارة هاريسون التي جاءت على الفور لتلازمه طيلة أربعة أشهر، بل ستربط مصيرها الشخصي بمصيره وبمصير خطة هروبه التي شاركت فيها منذ البداية حتى النهاية ما سيدفع سنودن إلى وصفها بأنها “أعظم أمراة عرفها في حياته”.
يلتقط الوثائقي الدنماركي تفاصيل المكان الذي كانوا يتحركون فيه كي يقرب من خلاله الجو الانفعالي للمجموعة وحالاتهم النفسية بخاصة سنودن، ويقدم، دون افتعال، عناصر إثارة موجودة أصلاً في داخل المشهد نفسه مثل حركة الجسد وتعابير القلق المعكوسة على الوجوه وبشكل خاص اللقطات المقربة على وجه أسانج وتعابيره القوية، إلى جانب ملاحقة ردود أفعالهم على الأخبار التي كانت تصلهم بشكل شخصي عبر قنوات “ويكيليكس” أو من خلال متابعتهم لنشرات الأخبار التلفزيونية التي رسخت لديهم قناعة بضرورة الشروع بتنفيذ خطة الهروب وإخراج سنودن على الفور من هونغ كونغ بعد تأكدهم أن المخابرات والـ”اف.بي.آي” قد قررتا إرجاعه بالقوة وإذا تطلب الأمر القيام بتصفيته سيما وأن الأولى قد مهدّت لذلك بتوجيهها تهمتيّ التجسس وخيانة الوطن إليه، ما يعني إطلاق يدها في التحرك بهذا الاتجاه، وأن العمل على تسريع عودته قد سبقته اتصالات لوزارة الخارجية الأمريكية بالجهات الحكومية في هونغ كونغ وطلبت منها تسليمها سنودن ودون تأخير، كما أن الأجهزة الأمنية قد فاتحت مثيلاتها الهونغ كونغية بضرورة تبادل المعلومات حول تحركاته ثانية بثانية، ومقابلات المخرج جون كوتيس مع المدير السابق لوكالة الأمن القومي والمسؤول الأول عن مشروع المراقبة والتنصت الجنرال مايكل هايدن تعزز هذه القناعة وتؤكد تفاصيل التحرك.
لقد ظهر الجنرال في “الهروب الكبير لسنودن” محبطاً ومعترفاً بكل ما كان يتحفظ على إشهاره في السابق، بما فيها إقراره بهزيمة جهازه السري في معركة الإمساك بـ”ا��خائن” وهي الكلمة التي كثيراً ما كان يرددها في وصف سنودن، الذي اعتبر خروجه عن الخط تحدياً وخيانة شخصية له. لقد اعتبر مهمة إرجاع (الولد العاق) مهمته الأولى، وجنّد لها كل إمكانيات الأجهزة الأمنية وأجهزة الرصد الهائلة التي تحت أمره، بل حتى الخطوط الدبلوماسية أخضعها في ذلك الوقت لإرادته إضافة إلى زجّ الـ”اف.بي.آي” لوالد سنودن في عملياتها من خلال محاولاتها الضغط عليه لإقناع ولده بتسليم نفسه.
سيقود أسانج عملية الهروب الكبيرة من غرفته في سفارة الإكوادور في لندن ويطلق عليها اسماً سرياً “اللجوء” وستكون إلى جانبه زميلته سارة هاريسون التي أوكلت إليها مهمة ملازمة سنودن في تحركاته داخل هونغ كونغ ومن بعد في موسكو وستكون كاميرا المصور الدنماركي مرافقهم الدائم تسجل أدق التفاصيل والأحاديث باندفاع محموم لأنها لم تصدق أن الفريق الخطير والمطلوب للـ”عدالة” قد وافق على منحها وحدها حق توثيق أحاديثهم وأسرارهم! لقد توصل فريق العمل الصغير، الذي انضمّ إليه محامي سنودن، إلى استنتاج بأن مصير الهارب الجديد سيكون نفس مصير الشاب الذي سبقه وقام بنفس العمل تقريباً: الجندي أول والمحلل الاستخباراتي تشيلسي (برادلي) مانينغ. أي أنه سيخضع لتحقيق قاسٍ ويتعرض إلى التعذيب وسيُسجن لمدة قد تصل إلى المؤبد ناهيك عن احتمال قتله وهو في الخارج لإسكاته نهائياً، هكذا أصبحت مهمة إخراجه من هونغ كونغ إلى مكان آمن ضرورة قصوى. ولكن السؤال إلى أين وكيف؟ لقد عرضوا عليه فكرة السفر عبر المطار فتردّد بقبولها وأراد دراسة الاحتمالات الأخرى. المشكلة كانت مع الوقت فلم يتبقَ أمامه متسع منه للتفكير الطويل.

بعد مدة قَبِل بالخيار ولكنه ظل خائفاً من اللحظة التي سيقابل بها موظف تدقيق الجوازات لأنه وقتها لن تكون أمامه أي فرصة للنجاة. لم تغب هذة الحقيقة عن ذهن أسانج الذي طلب من هاريسون مرافقته طوال رحلته وللتضليل فقد سربت المنظمة طلبات شرائها بطاقات سفر باسمه إلى وجهات عديدة من بينها الهند وبأوقات تسبق موعد سفره الفعلي. في هذه الأثناء وتحت الضغط الهائل لوزارة الخارجية الأمريكية قبلت الشرطة في هونغ كونغ إصدار أمر منعه من السفر ولكنها اشترطت توفير الجوانب القانونية لهذا الإجراء ما أعطى لسنودن وقتاً إضافياً. سترتكب الخارجية الأمريكية أخطاءً قاتلة بسبب تدخلات الأجهزة الأمنية والمخابراتية في عملها فتأخرت في سحب وإلغاء جوازه كما أنها قدمت اسمه الأول المختلف عما هو موجود في الجواز فأصبح أمام السلطات الهونغ كونغية عملياً اسمين لشخص واحد. تصف سارة هاريسون اللحظات المخيفة التي سبقت دخولهم الطائرة والتأخير الذي حدث قبل إقلاعها ما زاد من مخاوف وقلق سنودن الذي حافظ على تماسكه الخارجي بشكل معقول.
سينفتح “هروب سنودن العظيم” على فضاءات أوسع في موسكو التي وصلاها وحطّا في أحد مطاراتها بسلام، وسيتغير أسلوب سرده البصري منذ هذه اللحظة ليصبح أقرب إلى الروائي من حيث حركة الكاميرا والتنقل من مكان إلى آخر في مساحات خارجية أكبر وبتعدد للشخوص وتنوع لمستوياتها، وستخدم التسجيلات الأرشيفيه هذا المناخ الحيوي. لم يستقبل الروس سنودن بالزهور وبدلاً من ذلك أرادوا استغلال ضعفه فاشترطت عليه المخابرات التعاون معها مقابل السماح له بالدخول للأراضي الروسية وبعد رفضه طلبهم، تركوه مع سارة في المطار باعتباره أرضاً محايدة وأجبروهما على المكوث لمدة شهر كامل في غرفة من دون نوافذ في “ترمينال إف” لأن الجهات الرسمية الأمريكية وقبل ساعات قليلة أصدرت قراراً جديداً بإسقاط جواز سفره.
في هذه الأثناء كانت المخابرات الأمريكية تخطط لعملية خطفه، فجهزّت طائرة خاصة بنقل السجناء السريين إلى كوبنهاغن، لتنقله من هناك على متنها، حال خروجه من موسكو وقامت في نفس الوقت باتخاذ إجراءات لمنع أي طائرة يكون على متنها للهبوط في أي مطار من العالم. يكشف الوثائقي المثير والديناميكي زيف الكثير من الدول الغربية وخضوعها للضغوطات الأمريكية، وذلك من خلال رفضها استقبال أو قبول طلب لجوءه، من بينها: فرنسا وإيطاليا. ستتمادى المخابرات الأمريكية أكثر حين ستطلب من دول العالم وبخاصة الأوروبية عدم السماح لطائرة الرئيس البوليفي إيفو موراليس بالهبوط والتزود بالوقود في مطاراتها وعن هذه القضية يخصص الوثائقي جزءاً من وقته لتسجيل تفاصيلها لأهمية ما ستلعبه في قصة سنودن وهروبه.
لقد حضر الرئيس البوليفي اجتماعاً دولياً في موسكو وطرح في لقاء خاص مع بوتين فكرة السماح لسنودن بركوب طائرته الخاصة والسفر معه إلى بلده الذي لا يمانع منحه حق اللجوء.
لم تُعلَن تفاصيل اللقاء لكن “ويكيليكس” سربت بتعمد الخبر ودعمه الرئيس حين أجاب بالإيجاب المراوغ على سؤال طرح عليه في مقابلة تلفزيونية. يكشف الجنرال مايكل هايدن حقائق مذهلة عن هذه القضية ومنها تجاوز بلاده للأعراف الدولية ومعاهدات عالمية حين طلبت من كل الدول الحليفة لها إجبار طائرة الرئيس، رغم تمتعها بالحماية البلوماسية، على الهبوط في أراضيها وتفتيشها أثناء مرورها بأجوائها أو طلب التزود بالوقود في أحد مطاراتها. في فرنسا خضعت طائرة الرئيس الفنزويلي للتفتيش الدقيق ولم يجدوا سنودن على متنها فجن جنون المخابرات الأمريكية وشعرت فرنسا بالإحراج وماكيل هايدن بالخديعة. لقد نجحت خطة أسانج وفريقه في إيهامهم وترسيخ قناعة كاملة لديهم بأن المطلوب رقم واحد كان بصحبة الرئيس. والآن وبعد الضجة وجدت موسكو نفسها ملزمة بتغيير موقفها فوافقت محرجة على منحه حق اللجوء فيها، لتنهي بذلك الفصل الأخير من “الهروب الكبير” ومعه ستبدأ أسئلة أخرى حول قدرة هذا النوع من السينما على تحمل الكثير من التناصّ والتفرد في موضوع واحد محدد.