عالم واسع .. في صف مدرسي ضيق

قيس قاسم

الصف، الذي عينّته المخرجة الفرنسية جولي بيرتوتشيللي ليكون المكان الذي تبتدأ منه تصوير فيلمها، لا يشبه بقية صفوف المدارس الفرنسية! حتى تركيبته لا تشبه تركيبة الصفوف الأخرى لأن كل طلابه هم من المهاجرين القادمين حديثاً إلى فرنسا. إنه مكان شديد الخصوصية، كوني الطابع، مختلف عن المساحات المغلقة المجاورة وربما لهذا السبب يستحق نظرة داخلية له لمعرفة ما الذي يجري فيه! فكرة مثيرة لكن كيف يمكن تحقيقها سينمائياً؟ ليس البحث عن فكرة سينمائية مناسبة ومبررة وحدها كافية للشروع في إنجاز وثائقي طموح بل ثمة عوامل أخرى لا بد من توفرّها وفي مقدمتها؛ الخامة السينمائية والفهم العميق للموضوع، وربما الأهم إقناع الطلاب أنفسهم بضرورة صناعة فيلم عنهم. إقناعهم برؤية أنفسهم على الشاشةـ  في تلك اللحظة الحاسمة من حياتهم والتي يشعر أغلبيتهم فيها بأنهم على حافة السقوط في مجاهل المستقبل الغامض وفي لحظة انفصال مؤلمة عن جذورهم القديمة.

يبدو أن صاحبة الفيلم الروائي الرائع “الشجرة” والمهتمة بعالم الطفولة وتعقيداته قد كرّست جل وقتها لمواجهة التحدي الكبير المتعلق بنسج العلاقة مع الطلبة وخلق صداقة حميمة بينهم وبين الكاميرا التي تراقبهم في الصف ولا تكف عن إشعارهم بوجودها طيلة وقت تلقّيهم الدروس الإضافية لتعلُّم اللغة الفرنسية وما يرافقها من تفاصيل ستكون هي، لا الأحداث، أساس بناء عمل اجتهد المترجم السويدي بأن يعطيه عنواناً ظنّه مناسباً لمضمونه؛ “الفرنسية للمبتدئين” فيما عبر أصله “مدرسة بابل” عن فهم أوسع لماهيته ذات الطابع الميثيولوجي وانطلاقه من تركيبة هؤلاء الطلبة التي تشكل بمجموع عناصرها عالماً متنوعاً؛ جغرافياً ونفسياً وثقافياً.

في الصف صبايا وصبيان من كل جهات الأرض؛ عرب وأوربيون. لاتينيون وأفارقة. جاؤوا لأسباب مختلفة إلى فرنسا فيما وحدّت المدرسة طموحاتهم في مستقبل أفضل. تترك بيرتوتشيللي كاميرتها تسجل تفاصيل حياتهم اليومية داخل الفصل وتلجأ كحلّ بصري لخلق تتابع زمني من خلال الانتقال إلى خارج الصف وتصوير ساحة المدرسة أثناء فرص الاستراحة بين الحصص. نستشعر عبر الفرص المصورة في الخارج بفصول السنة ومرور الزمن على بشر انقطعت بوصلة المكان عندهم واختلاف مقاييس الزمن حين حلّوا في المكان الجديد. ولإيجاد تقارب بين الشخوص وعالمهم الخارجي (العائلة) كانت الكاميرا ترافق مقابلات مُدرسِّي الصف لأولياء أمور الطلبة عندما تبرز الحاجة لمقابلتهم وتقديم تقارير لهم عن مستوى الطالب.

 بين هذين العالمين المنفصلين عن حركة الصف الديناميكية تتشكل ملامح صورة المهاجر الجديد والمجتمع الحاضن له، وتتجسّد بشكل صارخ في اللغة. كل كلمة في الأصل تختلف مدلولاتها عن الفرنسية لهذا ترى الاختلاف ناشباً بين الطلبة كل لحظة. مدلولاتها العميقة يستعصي على المبتدأ توصيلها كما يريد فيلجأ إلى الحركة والتعبير الجسدي وأحياناً إلى طلب المساعدة من الآخر القادم من نفس المكان فتنشأ موضوعياً حالة من الفوضى ترافقها مفارقات مضحكة تضفي على الجو روحاً فكهة تتلازم في كثير من الأحيان مع مشاعر مضطربة وحزينة تعبر كلها عن جوانيات هؤلاء التلاميذ الذين وجدوا أنفسهم في مكان جديد ولغة جديدة لا بإرادتهم بل بسبب ظروف معقدة أجبرتهم على الرحيل مع أهلهم إلى لا يسهل العيش فيه كـ”مبتدئ”. أن يتعلموا جزئيات الحياة الباريسية والتكيُّف مع ثقافة مختلفة ودين مختلف بالنسبة للبعض وأن يسايروا مفاهيم حياة وطريقة عيش لم يرضعوها مع حليب أمهاتم ليس بالأمر الهيِّن، لكن قوة وديمومة الحياة نفسها تدفعهم لمجاراة ما هم عليه في الواقع والمضي بقوة نحو آفاق كُثر منهم يريدون الوصول إليها رغم الاختلافات والفجوات الثقافية الحادة التي تظهر في شريط  بيرتوتشيللي عابرة، متلاشية.
فالطلبة القادمون إلى عالمهم الجديد لم يتأسّسوا بالكامل في العالم القديم ولهذا تراهم يتنازعون بين ثقافتهم وانتماءاتهم وبين المطلوب منهم؛ الاندماج، والتكيُّف مع معارف وقيَم المجتمع الفرنسي، لكنهم لن يصلوا في عنادهم إلى درجة التصادم ما يثير بدوره أسئلة جدية تسترعي المعاينة الاجتماعية الواعية لما نشاهده من بروز للأفكار المتشددة في وقتنا ومن كل الاتجاهات والبحث عن جوهر الروح المتسامحة عند الطلاب على اختلاف مشاربهم.

حين تخطو “مدرسة بابل” خطوتها الثانية والمتوقعة نحو معرفة الخاص والذاتي بين المجموع نتوقع بدورنا الذهاب إلى عينات يفرضها المكان نفسه: الصف. ولأنه كوني فستُظهر النماذج الموجودة فيه تنوعاً مذهلاً في الاهتمامات والمواهب والرغبات غير المحدودة في آن. فالمغربي يريد أن يصبح معمارياً كبيراً يبني البيوت والمدن والأمريكي اللاتيني يطمح أن يصير موسيقياً شهيراً والرومانية طبيبة والأفريقية معلمة. كل ذات تنشد معرفة ذاتها وكل صبي يحمل داخله ثقافة عميقة ورغبة في تحسين أحواله وأحوال أهله. يكشف البحث في الاهتمامات عن طغيان الروح الإنسانية عند هؤلاء بغض النظر عن منشأهم وثقافتهم، ويكشف عن روح تضامنية فيما بينهم سجلّتها الكاميرا بأدق تفاصيلها حين تركت لهم العنان للتعبير عن أفكارهم وطموحاتهم كما يرغبون لدرجة أنهم قد نسوا وجودها بالكامل بل أرادوا أيضاً تعلُّم الطريقة التي تعمل بها.

سيدخل الشريط مستوى أكثر عمقاً حين يشرع الطلاب في صنع فيلمهم الخاص وإشراكه في مسابقة “مهرجان أفلام الطلبة” السنوي. حرية التعبير والحركة وفرتا لصانعة الوثائقي الفرنسي حرية اختيار ما تريده من لقطات وقطعاً إنها كثيرة لأن مهمة التصوير كانت سهلة. كاميرا ثابتة تقريبا بإمكانها تسجيل آلاف الساعات لو أرادت لكن كيف ستأتي النتيجة بعد التقطيع؟ هذا ما أراد الطلبة تعلمُّه بدورهم وهذا ما أرادت بيرتوتشيللي توفيره في شريطها الذي لم يخرج من الصف إلا في مشاهد قليلة جداً جاءت في اتساق مع مساره الدرامي الذي اكتسب معناه الأكبر في بقائه محصوراً بين أربعة جدران تتحرك بينها كُثر من الأرواح التواقّة وتضمر خلفها قصصاً ومآسي شخصية لم تراهن الفرنسية عليها كثيراً لأنها لم ترغب في صنع فيلم عن المهاجرين يشبه غيره من الأفلام التي غارت عميقاً في الجانب الحزين والتراجيدي عندهم.

أرادت لفيلمها أن يكون عن المهاجرين بعيون أطفالهم وكيف يرون بدورهم المجتمع الجديد وطبيعة صلتهم بجذورهم التي لا تنفصل عن جذور أهلهم وتجاربهم رغم قصرها في كل بلد على حدة.

حتى العنصرية التي ما انفكت أن تكون محوراً في كثير من تفاصيل الوثائقي وموضع جدل أبطاله طيلة الوقت، لم تتوقف عندها كنقطة إشكالية قد تُحرِّف الشريط عن غايته، ربما لهذا السبب أتى “مدرسة بابل” مرحاً حيوياً طافحاً بسعادة أطفال مقبلين على الحياة يتلكأون في مسيرتهم لكنهم سرعان ما يعاودون الجري نحو هدفهم النهائي: الحياة وعيشها في المكان الذي سيكون وطنهم القادم!. لقد فاز فيلمهم “طفل القمر” بدلالاته اللغوية والثقافية الكبيرة والتي تعبر عن مكنوناتهم؛ أطفال على الأرض ورغبتهم للوصول إلى الأعالي .. إلى القمر ـ فاز بجائزة مهمة بالنسبة إليهم ـ لصدقه وقوة تعبيره وفاز “مدرسة بابل” بدوره برضى متلقِّيه ونقاده لأن الكثير منهم لم يألف طريقة شغل صانعته التي غافلتنا وتسلّلت من الصف إلى الخارج.. إلى العالم بكل سعته بطريقة سحرية ومحصنة بروح سينمائية إيجابية يظهر خلالها المهاجر ككائن لا يختلف عن الفرنسي إلا بمقدار تجربته المتنوعة وثقافته التي ستُضيف إلى ثقافة البلد المُستَضيف عمقاً وشمولاً.   
     


إعلان