من “نجوم” إلى “نوال”.. العرب في قلب الأزمات
محمد موسى

يُمكن تلخيص ملامح وأسلوب وتيمات أغلب أفلام مهرجانات السينما التسجيلية المتخصصة، او تلك التي تُعرض في مسابقات وبرامج الأفلام التسجيلية في المهرجانات السينمائية العامة، بالنزعة النقدية التحريضية والانشغال بالواقع الآني، كما تسعى هذه الاختيارات بالعادة لكشف ومُكاشفة واقع مُتأزِّم مُتردي وأزمات تقضم بدون هوادة ما تبقى من حيوات طبيعية لبشر حول العالم. هذا في مُقابل انسحاب الأفلام التسجيلية التجريبية والذاتيّة إلى هوامش المشهد السينمائي التسجيلي، والذي يأتي بسبب مساحتها الضئيلة في الحصص والأنماط الإنتاجية، وبالتالي استئثارها بفرص عرض هامشية في المهرجانات السينمائية. وإذا كان هذا هو المشهد العام لمُعظم المهرجانات السينمائية، فإن هناك مهرجانات أخرى، تأخذ خطوة أبعد وأكثر تطرفاً في محاولاتها ربط النوع السينمائي بالواقع، وترسيخ ملازمة الفيلم التسجيلي للقضايا العامة والإنسانية، مثل مهرجان “Movies that Matter ” الذي تُعقد دورته السنوية هذه الأيام في مدينة لاهاي الهولندية.
فالمهرجان الذي وُلد في عام 1995 وتُشرف عليه مُنظمة العفو الدولية، لا يتردد في إبراز والاحتفاء بهويته الراديكالية التي لا يجادَل عليها. هو للأفلام التي تعني شيئأ، وهذا “الشيء” هو علاقة السينما وإخلاصها لما يجري في العالم من حولها، فيما يأمل المهرجان أن يتحول إلى منصة، يمكن للسينما أو الفنون بشكل عام، أن تستخدمها لتطلق وتحتضن النقاش حول مُعضلات يواجهها البشر في أمكنة كثيرة من كرتنا الأرضية. تتبدّل المحاور والعناوين الرئيسية التي يحاول المهرجان أن يعرض الأفلام ضمنها، عاكساً بذلك ما يجري في الواقع الآن. هذا مع احتفاظ المهرجان ببعض التيمات التي تكاد ثابتة في برمجته السنوية، وطالما لم يتبدّل الواقع الذي كانت الأفلام استجابة له.
واللافت في دورة هذا المهرجان، وكحال دورات السنوات الخمس الأخيرة، هو وفرة الأفلام التسجيلية والروائية التي تتصدّى لقضايا وقصص من العالم العربي، لتبدو هذه المنطقة من العالم، الوحيدة التي تجمع أنواعاً عديدة من الظلم والعنف، إضافة إلى تركتها الثقيلة فيما يتعلق بحقوق المهمشِّين والنساء تحديداً. فإلى جانب أفلام الثورات والحروب العربية، هناك أعمال هذا العام تقارب عُقد عربية وشرقية مُتجذرة، فالمخرجة اليمنية خديجة السلامي، والتي جربت الخط التسجيلي الناقد لشؤون مجتمعها في أفلام سابقة، تنتقل في ”

“، إلى الروائي، المستلهم بقصته وروحه من الواقع. فنجوم التي يشير إليها العنوان، هي فتاة يمنية تم تزويجها وتطليقها وهي لم تتعدَّ العاشرة من العمر. قصة نجوم بما تعكس من تردِّي لحقوق النساء في مُجتمعات شرقية عديدة، ترتبط بشكل ما بفيلم ” الصوت الحر لمصر – نوال السعداوي” للمخرجة الألمانية كونستانسه بوركارد، والذي يُقدِّم الكاتبة والناشطة الاجتماعية المصرية المعروفة نوال السعداوي، التي نذرت قسماً كبيراً من حياتها للدفاع عن حقوق فتيات مثل “نجوم”. بين “نجوم” و”نوال” أرضية مشتركة كما يشكلان معا ثنائية مُتلازمة، طبعت حياة النساء في العالم العربي في القرون الماضية. نجوم، كمثال للمرأة التي لا تملك صوتاً أو قراراً، يتم تسلميها من بيت أب مُتسلط إلى بيت الزوج الذي لا يقل تسلطاً، فيما تُمثِّل نوال السعدواي، نموذجاً في طريقه للاندثار للمرأة المُتعلمة العربية التي ناضلت طويلاً من أجل حقوقها، دون أن تستمتع بثمرات جهدها.
من تيمات دورة هذا العام واحدة أُطلق عليها “شاهد سوريا”، حيث يعرض تحت هذا العنوان العريض: فيلم “بلدنا الرهيب” للمخرجين السوريين محمد علي الأتاسي وزياد حمصي، والذي يكاد يمثل بالتجارب والزمن الذي يسجلهما، وداعاً مغلفّاً بالأسى لسوريا المتعددة الإثنيات والثقافات. يرافق الفيلم الناشط والمُفكر السوري المعروف ياسين الحاج صالح وهو يحاول مع رفاق له، تكريس أسس مدنية لمناطق سورية خرجت من سلطة الحكومة، لكن سيصطدم بصعود الحركات الإسلامية المُتشددة ورؤية هذه الأخيرة للواقع والمستقبل، والتي ستنتهي بالمفكر اليساري السوري مُبعداً عن بلده.

كما سيعرض فيلم “أي- تيم” للمخرجين كاتي شيفيغني وروس كوفمان عن فريق الأزمات الخاص بمنظمة هيومن رايتس ووتش، الذي يتوجه إلى سوريا وليببا لتسجيل انتهاكات حقوق الإنسان هناك. لا يكتفي الفيلم بعرض ما يمرّ به مدنيين في هاتين الدولتين، بل سيركز أيضاً على فريق الطوارىء العالمي، وكيف يحاول أن يصل إلى حقائق في مناطق تزداد خطورتها كل يوم. كما سيعرض المهرجان فيلم “حدود” للمخرج الإيطالي اليسو كرمانونيي، عن قصة شقيقتين سوريتين تضطران للهجرة بسبب التحاق أخيهن بالجيش السوري الحر.
ومن العالم العربي وأطرافه، سيعرض في الأيام القادمة من المهرجان الذي يستمر إلى الثامن والعشرين من شهر مارس الجاري أفلام: “تحت رمال بابل” للمخرج العراق محمد الدراجي، والذي يعد ثالث أفلام المخرج الروائية الذي يستعيد فيه فصولاً من تاريخ العراق، من عقد الثمانينات وحتى نهاية نظام صدام حسين. وفيلم “ذكريات منقوشة على الحجر” للمخرج الكردي العراقي شوكت أمين كوركي، والذي يعود هو أيضاً إلى تاريخ العراق الحديث، ليتذكر مجازر الأنفال التي قام بها النظام العراقي السابق في نهاية عقد الثمانيات من القرن الماضي.
وعن جارات الشرق العربي، تركيا وإيران، تقدم دورة هذا العام باقة من الأفلام، فيعرض للمخرج الإيراني المحكوم بالإقامة الجبرية داخل بلده جعفر بناهي فيلمه التسجيلي الأخير “تاكسي”، والذي فاز بالدب الذهبي في الدورة المنصرمة لمهرجان برلين السينمائي. كما سيعرض للمخرج ذاته فيلمه التسجيلي الآخر “هذا ليس فيلماً”، والذي صورّه في شقته في العاصمة الإيرانية طهران. كما سيعرض الفيلم الروائي التركي “تعال إلى صوتي” للمخرج الشاب حسين كاراباي، الذي يقدم قصة جريئة لأُمّ كردية تحاول مع حفيدتها العثور على ابنها (والد الطفلة)، والذي تم اعتقاله من قبل الجيش التركي. وفي الشأن التركي أيضاً، سيكون المهرجان محطة الإنطلاقة الأولى لبرنامج تلفزيوني هولندي جدليّ من إنتاج التلفزيون الحكومي في البلد، ويقدم فيه رحلة لهولنديين من أصول تركية وأرمنية، للبحث عن تاريخ المجازر التي تعرض لها الأرمن في بدايات القرن الماضي. ومن المُتوقع أن يثير البرنامج التلفزيوني الذي يحمل عنوان “أخوة الدم” اهتماماً إعلامياً كبيراً.
تتنوع الأفلام الأخرى في المهرجان، فهناك إلى جانب الأعمال التسجيلية المحدودة في ميزانياتها، أفلام روائية نصيب وافر من الاهتمام والجوائز في الأشهر الأخيرة. من الأفلام الروائية الطويلة التي ستُعرض: “أمل” للمخرج الفرنسي بوريس لوجكين، وهو فيلم طريق يقدم الرحلة التي يقطعها نيجيرية وكاميروني وسط الصحراء الأفريقية للوصول إلى أوروبا. الفيلم الروائي ” بين عالمين” للمخرجة النمسوية فيو ألداج، عن علاقة صداقة تنشأ بين جندي ألماني يخدم في أفغانستان ومترجم من هناك. كما سيعرض فيلم “يومان وليلة” للأخوين البلجيكيين لوك وجان بيار داردين، والفيلم الروسي ” ليفياثان” للمخرج الروسي أندريه زفياغينتسيف. والفيلمان الأخيران حصلا في الأشهر الأخيرة على مجموعة كبيرة من الجوائز العالمية الكبيرة.
أما جوائز المهرجان الأساسية فهي على النحو التالي: جائزة “مسألة تحرك” التي يتنافس عليها عشرة أفلام تسجيلية تقدم شخصيات شهيرة أو مجهولة تحاول أن تغير ما حولها نحو الأفضل، في عالم يبدو اليوم بأمس الحاجة إلى نماذج إنسانية شجاعة. من الأفلام التي تعرض في مسابقة هذا العام فيلم “عبء السلام” للمخرج الهولندي الشاب جوي بونيك. أما مسابقة المهرجان الأخرى فهي “كاميرا جوستيتيا”، فهي للأفلام التسجيلية التي تركز على أهمية وجود النظام والعدل والقوانين في المجتمعات. حيث سيعرض في هذه المسابقة فيلم “درون” للمخرجة النرويجية تونيا هيسن سيكي، عن الطائرات بدون طياريين والتي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالاتكّال عليها كثيراً في الأعوام الماضية في حربها ضد الإرهاب، رغم عدم دقة هذه الطائرات وما سبّبته من خسائر بشرية بين المدنيين في أكثر من بلد.