قصص عن انهيار وحدة أوروبا
قيس قاسم

في جو مضطرب داخل طائرة تُحلِّق على ارتفاع عشرة آلاف متر فوق مُسطحّات القارة الأوروبية، وفي غمرة الفوضى وحالة الخوف الهستيري، الذي سيطر على ركابها إثر تعرُّضها لهزّات عنيفة أحدثتها مطبات هوائية شديدة القوة جعلتها مثل أرجوحة في هواء، سمعت الصبية جين مونيتي حكايات عن مستقبل أوروبا ووحدتها من الرجل الجالس إلى جانبها، بدافع منه لتبديد خوفها. بهذا المشهد “السوريالي” والمضطرب أرادت المخرجة أناليزا بيراس محاكاة المشهد العام لأوروبا اليوم: اضطرابات وفوضى وخوف من السقوط يعيدها إلى ما قبل وحدتهاـ مساحات جغرافية متجاورة ومعزولة عن بعضها بحواجز جغرافية وسياسية وقلق دائم من احتمال نشوب حروب بينها كما كان يحدث في الماضي. فكرة جذابة لسيناريو كُتب للغوص في موضوع شائك، مراجعته لوحدها تزعزع قناعات ويقين بوحدة راهن عليها سياسيو ومفكرو أوروبا كثيراً واليوم تتعرّض لهزات عنيفة مثل تلك التي تتعرض لها الطائرة المتجهة إلى برلين والتي بسبب سوء الأحوال الجوية ستُغيّر مسارها وبالتالي ستحرم عالم الآثار تشالز غراندا من فرصة إلقاء محاضرته عن مستقبل الوحدة الأوروبية في مؤتمر علمي يُعقد في مدينة برلين وقد دُعي إليه. وبدلاً من ذلك سيجد نفسه مضطراً للحديث عنها للصبية التي تجلس إلى جواره ولا تعرف شيئاً عما يقوله ولهذا راحت وبدافع الخوف تطرح عليه أسئلة وهو بدوره يحاول الإجابة عليها بأسلوب بسيط قريب من أسلوب سرد قصص الأطفال قبل النوم لكن المفارقة الكبرى فيها أنها كانت تُسرد في لحظة تراجيدية تسبق سقوط الطائرة وتحطُّمها.
يجمع “فيلم النكبة الأوروبية العظمى” أساليب سردية مختلفة؛ فإلى جانب الروائي هناك الخيالي الذي يأتي إلى متنه من خلال تصورات صاحبته الافتراضية ونظرتها المستقبلية لأوروبا بعد عقود، والتي يغلب عليها التشاؤم وتوقعها باحتمال بروز نفس المشاكل التي تعاني منها دول القارة الآن بشكل أكثر دراماتيكية في المستقبل لأنها وفق سياق تخيُّلها ستظل بلا حل، وبالتالي ستتحول إلى قنابل موقوتة مؤجّل انفجارها إلى حين، بإرادة قادتها الذين يحكمونها وبرغبة المؤسسات المالية التي لا تريد مطلقاً تقديم أي تنازلات وتعمل على ترحيل أزماتها إلى المستقبل، لهذا فالصورة الافتراضية، المتشائمة، انما هي نتاج موضوعي واقعي لعالم ينهب أصحاب البنوك والشركات الكبرى المتكيفة مع العولمة ثرواته ويخلفون نتاجاً اجتماعياً اقتصادياً رديئاً. إلى جانب هذين الأسلوبين السرديين يبقى الوثائقي هو الغالب والمسيطر لأن بناء الشريط مقام على أساسه والبقية هي لخدمته وإن حافظت على استقلاليتها في مقاطع عديدة من فيلم أراد الغور عميقاً في الأزمة الأوروبية وتقديمها من منظور سينمائي شامل جعل منه منجزاً كبيراً.

أغلبية علماء الاقتصاد والاجتماع الذين أدلوا بآرائهم في واقع أوروبا أشاروا إلى احتمال نهاية الوحدة إذا ما ظلّت كما هي عليه اليوم. وأكثرهم تفاؤلاً يجد مستقبلها غير واعد وكئيب. أسماء كبيرة ومهمة تلك التي سجّل الوثائقي أقوالها وأفكارها بشكل مقتضب ولكنه كان كافياً لتأسيس خطاب سينمائي واضح عليه، ومع ذلك أرادت بيراس اقتران الأقوال بالأفعال، كما يقال، فرتبت داخل الطائرة نوع الحكايات التي سيسردها عالم الآثار للصبية والتي ستأتي على شكل قصص منفصلة، مربوطة داخلياً بخيط: أوروبا. خمس حكايات عن خمس دول في اختيارها مدلولات نفسية وتاريخية ـ وخصوصية تجاربها ترسم ملامح القارة كما هي، في هذه اللحظة التي يعبر فيها العالم من نهاية عام 2014 إلى عام 2015.
الأنانية القومية والبنوك ولا ديمقراطية القرار أشد العوامل تأثيراً على مستقبل الوحدة الأوروبية، بل ربما هي من سيقوضها؟ وتجارب الدول المنضوية تحت سقفها تظهر ذلك كله أو أحياناً جزءاً منه، حسب طبيعة كل تجربة. فإسبانيا التي تترنّح من شدة ثقل الأزمة المالية التي أنتجت بطالة وتضخماً غير مسبوقين دفعت حركات شعبية لأخذ دورها في التغيير الاجتماعي وتبنيها مفهوم جديد عنوانه: “أوروبا المناطقية” أي الدعوة الصريحة الى هدم المركزية، وتجليات الدعوة تظهر في الوثائقي عبر تصويره مشاهد من الحياة اليومية في مدينة برشلونة التي بدأت بالدعوة إلى الانفصال عن المركز المأزوم والتشديد على استقلالها واتخاذ النموذج الاسكتلندي مثالاً لدعوتها. يُظهر “فيلم النكبة الأوروبية العظمى” أزمة إسبانيا على الشاشة بأكثر أشكالها وضوحاً: دخول متدنية وأزمة سكن تتسبّب بها البنوك وأصحاب العقارات، فيما أعداد كبيرة من الناس تجد نفسها في الشوارع بعد عجزها عن دفع إيجارات بيوتها الشهرية. تُظهر المعطيات، التي يلجأ إلى استخدامها الشريط كنوع من تقوية المحاججة البصرية للمعلومات التي ترد أثناء نصه السردي، إلى أن الحزب اليساري “بوديموس” قد حصل على أكثر من 28 % من الأصوات أثناء الانتخابات الأخيرة ما يشير إلى رفض شعبي للقيادات المحافظة التي ربطت مصيرها بمصير الوحدة الأوروبية وبنوكها.
هيمنة الدول القوية (ألمانيا، فرنسا وبريطانيا) على القرار الأوروبي سيصبح العنصر الأكثر خطراً على وحدتها وشهادات الاقتصاديين العالميين تدعم ذلك، فالقرارات المهمة تتخذها تلك الدول وما على البقية سوى الموافقة عليها وهنا تكمن الكارثة.

يذهب الوثائقي البريطاني إلى معاينة التجربة الألمانية وأنانيتها الطاغية، فهي لا تفكر إلا بنفسها وبتقوية سوق مبيعاتها الذي يعتمد بشكل أساسي على أوروبا، ومع ذلك فتضامنها هو الأقل وبنوكها هي المتحكمِّة بحركة النقد والقروض وبالتالي هي من يهيمن مع فرنسا وبريطانيا على قرارات الوحدة الأوروبية ومستقبلها. الأرقام تفضح شدة تشابك المصالح البنكية العالمية وتعطي معطيات مخيفة لعل أكثرها مدعاة للتفكير؛ الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي ظهر أن معالجتها جاءت على حساب المواطن الأوروبي ومن مدخلاته. بمعنى آخر أن من أنقذ البنوك هم دافعو الضرائب وليس مالكيها الأثرياء، وألمانيا وبنوكها كانت في مقدمة المستفيدين منها. يُذكِّر الوثائقي بتجربة ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية وكيف تضامن العالم الغربي، على وجه الخصوص، مع شعبها للنهوض به ثانية و”خطة مارشال” مازالت قوية في الذاكرة مما سيدفع بقادة حركات شعبية ومفكرين ألمان إلى تأسيس جديد اقترحوا تسميته بـ”خطة ميركل” كناية ساخرة عن الخطة الأولى التضامنية والتذكير بأنانيتها الحاضرة.
البريطانيون ليسوا أقل أنانية لهذا تظهر فيها حركات سياسية تدعو بقوة إلى “بريطانية” خالصة والخروج من الوحدة النقدية ومنع الهجرة والعمل داخلها. دعوة للانغلاق وتعبير صارخ عن لا تضامنية أوروبا مع بعضها البعض ولا مع بقية العالم. جولة على ساحل “مارغيت” تظهر الميل القومي المتصاعد والخوف من الوحدة بل الدعوة إلى تركها والاعتماد بدلاً منها على النفس وعدم مساعدة الآخرين، وإحالة الأزمات على المهاجرين كما في التجربة السويدية التي عُرف عنها تسامحها وقوة الضمانات الاجتماعية الموجودة فيها.
لم تعد البلاد بعد دخولها الوحدة على ما كانت عليه ويرفق الوثائقي الألمعي الانحدار الحاصل منذ وصول المحافظين بمقابلات مع شخصيات فنية وكوميدية من أصل مهاجر تعرف كيف تسخر من قادة الأحزاب اليمينية والمتطرفة وبخاصة حزب “ديقراطيو السويد” الذي يعبر اليوم عن حوالي 13% من حجم سكان السويد وفق نتائج الانتخابات الأخيرة. لقد خسرت السويد نظامها التكافلي بعد دخولها الوحدة وتعكز اليمين على مشاكلها التي يحيلونها دوماً إلى وجود المهاجرين فيما الأرقام تُكذِّب ادعائاتهم!

في الربع الأخير من الشريط كانت وتيرة الاضطراب تتصاعد داخل الطائرة والخوف يزداد رسوخاً بين ركابها لهذا كان حديث عالم الآثار عن الحروب متسقاً مع الحالة النفسية التي يعيشها مع بقية ركاب الطائرة العائمة فوق أوروبا المريضة، والمبتلية طيلة قرون بحروب لا نهاية لها وربما تجربة يوغسلافيا السابقة قد تفي جوابه على سؤال الصبية العفوي عن احتمال نشوب حروب جديدة بنهاية الوحدة. وجود التجربة الكرواتية بين بقية التجارب، ذات البعد الأوروبي الغربي، غيَّر ونوَّع من خطاب الشريط الوثائقي على مستويين: استخدام الحرب الأهلية الطاحنة التي مرّت بها ضمن حروب البلقان كنموذج متفرد عن وجود هذا الجانب عملياً والذي يُشكِّل عنصراً مقلقاً في المعادلة السياسية الأوروبية وثانيهما نظرة سكانها إلى الوحدة ذاتها بوصفها نموذجاً للتكامل ووجود شرق أوروبا فيها بقوة سيمنحها ديمومة أكبر.
هل سيعطي المشهد الكرواتي الذي بنته بيراس على ضوء مقابلتها لأحد المصورين الفوتوغرافيين الذي وثّق الحرب الأهلية هناك؟ هذا السؤال وجوابه سيؤجِّل الحكم النهائي قليلاً لأنه يفتح آفاق تعاون بين جزئين مهمين ومختلفين: الأول، الغني، الذي مرّ بالتجربة ويريد التخلص منها والثاني، الضعيف، الذي يريد المساهمة فيها بأفكار جديدة وبحضور نوعي يمدّها بأسباب الحياة، انطلاقاً من تجربة كرواتيا نفسها التي تريد وضع الماضي خلفها والسير نحو المستقبل وخير وسيلة لبلوغ ذلك يجدونها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتوسيع مساحته وتجديد آليات عمله. افتراض غير محسوم وضعيف في مطلق الأحوال لأن حالة الطقس تزداد سوءاً والطائرة “الأوروبية” مُهدّدة بالسقوط، بل ربما قد هوت إلى الأرض فعلاً، إذا أردنا تأويل معنى العتمة التي خيّمت على المشهد الأخير من الشريط وأصوات الرعد وضوء البرق الخاطف والصمت المطبق الذي تلاها، بأنها نهاية قصة تراجيدية وتعبير مجازي عن نكبة كبرى ألمّت بأوروبا حين قرّر سياسيوها وأثرياؤها تأسيس وحدة على مقاسهم ومصالحهم فقط.