مقاومة “طائرة ورقيّة”
مروة صبري

لا خبر مبهجٌ يصل من غزة. لا نرى أطفالها إلا متوعدِّين أو مجروحين أو مقتولين. فعامة الناس لا تتابع أخبارهم إلا وهم تحت القصف. الفيلم الوثائقيّ “طائرة ورقيّة” Flying Paper من إخراج نايتين شاوني وروجر هيل، يرصد أطفال غزة في مشهد مغاير تمامًا. فقد قرر أهل غزة بمساندة UNRWA ( وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) أن يكسروا مقياس جينيس لأكبر مجموعة طائرات ورقيّة تطير في وقت واحد، في سماء واحدة.
الفيلم، ومدته ساعة وإحدى عشرة دقيقة، يُركِّز على أربع شخصيات محورية وهم موسى الغول، طالب بالصف الثامن، وأخته الصغرى وداد وجدهما موسى أيضًا الذي تسمى حفيده على اسمه، وعبير أحمد من معسكر جباليا والتي تحلم بمستقبل في الصحافة فكان دورها في هذا الفيلم الوثائقيّ فرصة ثمينة لدخول المجالّ. كثير من المشاهد من رواية عبير، وقد قامت بلقاءات مع بعض شخوص الفيلم لتوصل صوتهم للعالم. أما موسى الجد والحفيد ومعهما وداد فقد كان شغلهم الشاغل صنع أفضل طائرات ورقيّة لتشارك في المهرجان. من خلال الفيلم نستشعر أنّهم يتنفسون هذا الهدف. ومن خلال لقاءاتهم نعرف أنّ الطائرة الورقيّة بالنسبة لهم ليست لهوًا.
رُشِّح الفيلم لعدة جوائز عالمية وشاركت في تمويله عدة مؤسسات إضافة إلى تبرعات. يتخلّل الفيلم رسوم “جرافيك” تبدو ورقيّة كأنّها من نفس الخامات التي تُستخدم في صنع الطائرات. حركة الرسوم بسيطة وبطيئة ربما لتناسب بساطة الفكرة وبطء خطوات تقدم المقاومة الفلسطينية. الرسوم تُستغّل كفواصل بين زوايا الفيلم المختلفة، وهي بدورها تحكي حكاية حصار أهل غزة من منظور طائرة ورقيّة تتلقفها الريح وتقف أمامها العراقيل وتتعثّر بأسوار الحدود الحديدية.
يلقي المخرجان بالمشاهد في قلب الحدث حيث إنّ المشهد الأول يُصوِّر طفلتين في محاولة إطلاق طائرة ورقية وسط مكان تحفّه الأشجار . كانت الفتاة التي تمسك بالطائرة تنظر خلفها فجاء صوت رجل يرشدها أن تجري فجرت فارتفعت طائرتها، ثمّ توقفت لتتابعها فتعثرت في شجرة ونزل عنوان الفيلم الوثائقيّ. هذا الموقف للطفلة الصغيرة يرمز بحرفية لقضية المقاومة بصفة عامة. فالمقاومة تصنع باليد بطاقة إيجابية ترمز لها ألوان الطائرة المبهجة، وإن أريد لها أن تعلو فلابد وأن يسرع بها للأمام دون نظر للخلف.

عائلة موسى الغول التي ركّز عليها الفيلم هي عائلة مكافحة وتعيش من عمل يدها بمعنى الكلمة. أسرة تتعامل بسجيّة. يعمل الجد في صناعة الطائرات الورقية ولهم أرض يزرعونها ويأكلون مما تُخرج. العلاقة الوثيقة بين موسى وأخته من ناحية وبين موسى وجده من ناحية أخرى تجعل المشاهد يتقبلهم بارتياح. أمّا عبير، ذات الست عشرة سنة ، فاختيارها من معسكر أعطى لمحة عامة لحياة الفلسطينيين داخل المخيمات على لسانها، ورسم لهم ملامح وطموحًا مما أضاف لمحتوى الفيلم. هذا لا ينفي أن أمام عبير مشوارا طويلا لكي تتمكّن من أدواتها كصحفية ولكي تصل للمهنية لكنّها تحمل الإصرار الذي سيوصلها لهدفها.
أصوات من خلف الجدران
نايتين شاوني هو أحد مؤسِّسي برنامج أصوات من خلف الجدران Voices Beyond Walls لتدريب شباب غزة على الإعلام. وكان قد التقى بروجر هيل في 2009 وهما في الطريق إلى القاهرة حيث أرادا أن يشتركا في مسيرة الحرية لغزة، لكن هيل لم يحصل على تصريح بدخول غزة وقتها، فعاد في العام المقبل في 2010 وعمل كمدرب في برنامج شاوني، وهنا قابل عبير أحمد التي كانت قد تخرجت من البرنامج، كما قابلا حمادة (11 عاما) والذي قام بتصوير مشاهد في الفيلم، وحين يدع الكاميرا عنه تلتقط له العدسة مشاهد تعكس روحه المرحة المشاغبة.
“طائرة ورقيّة” هو أول عمل يجمع بين شاوني وهيل وهو أول فيلم تسجيلي طويل لشاوني على الرغم من كثرة أعماله الإخراجية. وقد نتساءل لماذا يُركزّان على غز��؟ لماذا يتركان بلادهما ويغامران بحياتهما من أجل قضية ليسا طرفًا فيها؟ وعلى هذا أجاب روجر هيل: “غزة شديدة الأهمية لنا لعدة أسباب؛ فعدد من طاقم “طائرة ورقيّة” هم من أهل غزة، يعيشون تحت الاحتلال، تحت أقسى ظروف معيشية يمكن تخيلها. كذلك فإنّ جزءًا من مهمتنا أن نصور من يعيشون تحت الحصار باحترام وكرامة لدحض الصور النمطية للفلسطينيين في الإعلام الرئيسي الغربي. أردنا أيضًا أن نري عالمية الطفولة التي تكسر اللغة السياسية المستخدمة في الصراع العربي الإسرائيلي والتي تعمد إلى تبرير السجن والقتل الجماعي وخنق شريان الحياة الاقتصادي من خلال حصار وحشي.”

عمد هيل وشاوني إلى تعليم التصوير لبعض من أهل غزة ودربوهم على ذلك من خلال تصوير الفيلم، فهذه من أدوات المقاومة السلمية التي أرادا نقلها لأهل غزة. هذا التدريب يؤتي ثماره الآن، فالفيلم الثاني يتم تصويره من خلال هؤلاء. مع التغيرات السياسية في مصر وغلق المعابر وتشديد الحصار، لا أحد يعرف إن كان سيُسمح للمخرجين بالدخول مرة أخرى. ولا أستطيع أن أتخيل أنّ أمر التدريب كان هيّنًا أو أنّه لم يستوعب قدرًا من الوقت والجهد وبالتالي المال، لكنّه يعكس تحمس الطاقم لحقوق أطفال غزة في المقاومة المبتكرة وبالتالي تدريبهم على أداة هامة لها وهي الإعلام.
استعدادًا للمهرجان
كان الأطفال يجتمعون بطاقة عمل تشبه خلية النحل وكان الكبار في الخلفية يقدمون المساعدات متى أمكنهم. يتم تجربة كل طائرة قبل المهرجان وإن لم تنجح التجربة نجد موسى يحلل الأسباب ويحاول تجنب العيوب ويصنع طائرة أخرى، وهو ما يشار له في الفيلم بالـ”طبق”. فالأطفال يلتفون ليساعدوا في صنع كل طبق جديد وأحيانًا يطلقون عليه اسمًا، فموسى أطلق اسم “هلال” على طبقه. ظهر عدد من الأطباق وعليه علم فلسطين وظهر الكثير كلوحات للأطفال تحمل وردًا أو شمسًا أو مجرد تجميع لأوراق ملونة. تتكرر الألوان في الفيلم كما تتكرر مشاهد الدمار. كأنّ المخرجيْن يريدان توصيل فكرة أنّ هناك أملا في ألوان برّاقة بالرغم من لون الدمار الباهت. المهرجان والاستعداد له هو حبل التواصل لكن الهدف الأهم هو تبيان الأثر الإنساني للعدوان الصهيوني على الحياة اليومية لأهل غزة.
سُئل موسى عن شعوره برؤية طبقه يطير فقال إنّه يشعر بالسعادة وسط الأصدقاء وأنّه شعور رائع أن تتعب في شيء ثمّ تجد النتيجة. أمّا وداد فبفرحة قالت أنّها تحس أنّهم هم الذين يطيرون في السماء. وتحس أنّه لا يوجد حصار على غزة وأنّهم ينعمون بالحريّة.
وعلى ذكر الحصار تحول المشهد إلى أسرة تجلس على الأرض حول مائدة طعام تحمل صحنًا به ما يشبه الفول أو العدس والأيدي تمتد إليه بالخبز. شارف الصحن على الانتهاء لكنّ الخبز ما زال يمتد إليه بهمّة لا توحي باقتراب الشبع.
تنطلق الكاميرا متابعة عبير في شوارع غزة وهي تتذكر العدوان الصهيوني والرعب الذي بثّه وهنا يرى المشاهد آثار الدمار الذي يظهر في لقطات متفرقة على مدى الفيلم.
اشتبكت طائرة ورقيّة بأعلى مبنى فما كان من الأطفال إلا أن تسلق أحدهم المبنى نفسه بينما استخدم الآخر ماسورة مياه ليخلصّا الحبل. ومن المهم هنا أن نحاول رؤية هذا المشهد بعيون أمريكيّة حيث إنّ المخرجيْن أمريكيان. ومن عاش بالولايات المتحدة يعرف أهميّة تأمين الأطفال. وأنّ هذه المخاطرة من أجل تخليص شباك طائرة ورقيّة، قد يرى استهتارًا بالأرواح أو أنّها صورة تعبيرية تعكس إصرارًا أغلى من الحياة.
يوم المهرجان 29 يوليو 2010

نقلت العدسة حديثًا بالإنجليزية بين رجل وامرأة. لم يذكر اسماهما أو منصباهما. هل هما ممثلان للـUNRWA أم من هيئة جينيس أو من غيرهما؟ معلومات ناقصة تهم المشاهد لتكوين صورة صحيحة عن أجواء المهرجان، لكن السلطة التي يتحدث بها الرجل عن اختيار موقع المهرجان تجعلنا نقترح أنّهما من المسئولين عن تنظيمه، مما يشي بتبعيتهما للـ UNRWA. المكان الذي تم اختياره للمهرجان ليس ببعيد عن حدود الأرض المحتلة وبالتالي عن رصاصات الاحتلال كما أنّه ليس ببعيد عن منازل قادة في حماس مما يجعله موقع ترقب، مع ذلك تم اختياره لسعته ولوجوده على البحر حيث الهواء المطلوب لانطلاق الطائرات واستقبال ما يناهز 7500 طفلا. البعض ذهب مبكرًا إلى البحر في يوم المهرجان، أمّا موسى فقد اكتشف عيبًا بطبقه فأعاد صنعه. حضرت عبير بضحكة لا تحمل هم فشل أو نجاح ولما سألتها عبير إن كانت تشعر أنّ طبقها هو الأفضل، أجابت أنّه ليس الأفضل لكنّ ألوانه حلوة. أمّا موسى الشاب فأكّد في أكثر من مشهد أنّ من فوائد هذا العمل الجماعي هو بناء الثقة بالنفس. وبمراقبة لغة موسى الجسدية وبسماع كلماته يستشعر أنّه متعطش لإثبات نفسه وإيجاد مكان لها وقلق من أي تقصير يحول دون ذلك.
الحياة بعد المهرجان
اجتمع موسى ووداد وبعض الأطفال يتحدثون عن تحديات الدراسة والامتحانات مع كل ما يحدث وشارك البعض نتائجه النهائية وكلهم حصل على 95% فما فوق. قال موسى إنّ هذا العام يختلف عن السابق. فقد كان من قبل يلعب ويشاهد التلفاز أمّا الآن فهناك مسؤوليات، فالامتحانات كثيرة والمنهج كبير وعليه أيضًا أن يساعد في زراعة أرض العائلة. قالت وداد إنّهم لا يقضون أوقاتهم إلا فيما هو مفيد. فهم يستيقظون وينظفون الدار ويصلون ويقرءون كتبًا عن قصص الأنبياء قبل الخروج من البيت.
تذكر موسى أحداث شهر إبريل حين وقعت بالقرب منه قذيفة واختبأ تحت الشجر ومرّ الحدث بحسب تعبيره. ومن خلال جولة الكاميرا ببيت العائلة، نجدهم يزينونه ببعض الذخائر التي ألقتها قوات الاحتلال، وعقّب جده بالحديث عن التهديد المستمر المرعب لحياتهم وبيوتهم. يتمنى موسى أن يسافر ويتعلم عن ثقافات العالم ويسجلها بكتب. فغزة كما يستشعرها مثل السجن وهو يريد أن يخرج ليشاهد العالم.
متى يتحقق له ذلك؟ لن نجد الإجابة في طائرة ورقيّة.