“البحيرة المُرّة” ومستنقع السياسة الغربية

أمير العمري

فيلم “البحيرة المُرّة” Bitter Lake هو أحدث الأفلام التي أنتجها تليفزيون بي بي سي، وهو من إخراج المخرج المثير للجدل آدم كيرتس Adam Curtis، وفي تجربة جديدة تماما من نوعها قرر تليفزيون بي بي سي أخيرا، عرض الفيلم عبر موقعه ” أي بلاير” IPlayer وبالتالي إتاحة الفرصة للمشاهدين لإبداء آرائهم عليه مباشرة من منازلهم.
ينتقل الفيلم (الذي يبلغ زمنه 137 دقيقة) بين الكثير من العناوين والأفكار التي يجمعها خيط واحد ولكن من خلال سياق فني ذاتي، أي ينطلق من فرضيات خاصة بمخرجه ومن رؤيته الجمالية الخاصة أيضا التي ليس من الممكن اعتبارها رؤية موضوعية تماما.. إنه ينتقل من الحرب في أفغانستان إلى حرب الأفيون، ومن صعود “الوهابية” في الجزيرة العربية، إلى مكافحة الشيوعية في الشرق الأوسط، ومن الوهابية إلى القاعدة وداعش، ومن ظهور البترول إلى الأطماع الغربية في المنطقة، ومن الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وتسليح المجاهدين، إلى صعود أسامة بن لادن ووقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما ترتب عليها من غزو غربي لأفغانستان، ومن تداعيات الحرب في العراق وأفغانستان إلى انهيار السوق المالية في أمريكا والعالم في 2008.

لكن المحور الرئيسي للفيلم يدور حول نقد سياسة الغرب، استنادا إلى فرضية أن ليس كل ما نسمعه في الإعلام الغربي نقلا مما يقوله الساسة، حقيقي، بل ما هو سوى محض خداع وغش وتضليل، وأهم هذه الأفكار المتداولة التي ثبت عدم جديتها حسبما يقول الفيلم، فكرة أن الصراع في الشرق الأوسط، أو بالأحرى الصراع الدائر في العالم اليوم، الذي يُطلَق عليه حينا مكافحة الإرهاب، وحينا آخر محاربة التطرف الديني، ليس في الحقيقة صراعا بين الأشرار والأخيار، أو بين الأسود والأبيض، بل إن الصورة الحقيقة صورة “رمادية”، إذا ما اقتربنا منها، وهو ما يحاول أن يفعله آدم كيرتس مخرج الفيلم، بأسلوبه الفني الخاص الذي قد يراه الكثيرون مخالفا لكل قواعد الفيلم الوثائقي المألوفة.

وهو يتوقف طويلا على سبيل المثال أمام العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، ويعرض لقطات بالألوان لذلك اللقاء الشهير بين الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت، والملك عبد العزيز آل سعود، على متن مدمرة أمريكية في البحيرات المُرّة بقناة السويس عام 1946، أي بعد معاهدة يالطا مباشرة التي جرى بموجبها تقسيم مناطق النفوذ في العالم بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

هذا اللقاء الذي سيتمخض عنه اتفاق استراتيجي بين الدولتين، سيظل ساريا حتى يومنا هذا، ويقضي بأن تدعم الولايات المتحدة بشتى الطرق، السعودية، وتضمن حماية العائلة الحاكمة في كل الظروف، مقابل ضمان تدفق البترول دون عوائق إلى أمريكا والغرب بوجه عام. لا يشوب سريان هذا الاتفاق، حسب ما نراه في الفيلم سوى موقف أمريكا الداعم لإسرائيل، وهو ما أصبح عُرفا مستقرا في السياسة الأمريكية منذ مجيء الرئيس هاري ترومان إلى الحكم خلفا لروزفلت. هنا يتوقف الفيلم طويلا أمام صعود الأمير فيصل ليصبح ملكا وكيف أصبح فيصل، أول مسؤول سعودي كبير، يوجه انتقادات علنية غير مسبوقة للسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل. ونرى في لقطات نادرة من الأرشيف، الملك فيصل وهو يلقي خطابه الشهير المدوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويتحدث خلاله صراحة عن اغتصاب “اليهود” لأراضي فلسطين.

صعود التطرف
السعودية ضمنت تزويد الأمريكيين بالبترول وحصلت على مئات المليارات من “البترودولار” مما كفل لها إعادة بناء المدن والبنية التحتية في الداخل، لكنه أتاح لها أيضا تمويل بناء الآلاف من المدارس الدينية في باكستان وأفغانستان وغيرهما، التي يعتبرها مخرج الفيلم بؤرة لتفريخ غلاة المتطرفين، فقد أتاحت الصفقة كما يقول الفيلم بشكل مباشر، ضمان حماية أمريكا للفكر الوهابي، والتغاضي عن طبيعة نظام الحكم في السعودية القائم على المزاوجة بين السياسة المحافظة والمذهب الديني المتشدد، ويقول آدم كيرتس إنه المسؤول عن ظهور الكثير من الحركات الإسلامية التي تحلم باستعادة دولة الخلافة الإسلامية باعتبارها الوسيلة الوحيدة القادرة على التصدِّي للمشروع الغربي الاستعماري.
التناقض نفسه سنراه فيما يتعلق بزراعة آلاف الأفدنة بالأفيون في أفغانستان، في تلك الأراضي التي تحصل على ما تحتاجه من المياه وهو ما تحقَّق بفعل المشاريع التي أقامتها الولايات المتحدة هناك، أي مشاريع بناء السدود والتنمية الزراعية والاستصلاح.

المخرج آدم كيرتس

لا يتوقف الفيلم عند هذا الحد بل من خلال أسلوب مخرجه التعليمي الذي يستخدم التعليق الصوتي والرسوم والشروح والبيانات المكتوبة على الشاشة والتقابل بين الصور واللقطات على طريقة “المونتاج الذهني” التي ابتكرها واستخدمها أيزنشتاين في أفلامه التي اعتُبرت – على نحو ما – أفلاما دعائية، يبدأ المخرج الذي تمرَّس في مدرسة بي بي سي الوثائقية، فيلمه ويتوقف خلاله ثم ينتهي به، عند الفكرة الرئيسية التي تشغله والتي صنع من أجل تأكيدها، وهي أن كل ما فعله الغرب منذ أن قدّمت أمريكا المساعدات الاقتصادية لحكومة الملك محمد ظاهر شاه في أفغانستان (الذي حكم من 1933 إلى حين الإطاحة به عام 1973)، ثم الاستثمارات العسكرية الهائلة بالتعاون مع السعودية، في محاربة الوجود السوفييتي في أفغانستان، ثم التدخل العسكري المباشر بعد 11 سبتمبر 2001 للقضاء على طالبان، كل هذه ثبت أنها كانت تأتي بعكس ما كانت تروِّج له سياسات أمريكا والغرب وخصوصا بريطانيا التي يتوقف أمام دورها ويستعين بآراء بعض العسكريين البريطانيين الذين خدموا في أفغانستان، لكي يدلل على الدور العكسي – السلبي للتدخل العسكري هناك.

فعلى حين يقال لنا إن دعم القبائل الأفغانية سيساهم في تطويق طالبان، أصبحت القبائل تستخدم البريطانيين في صراعاتها القبلية الداخلية القديمة من أجل بسط نفوذها على حساب غيرها، ومن جهة أخرى، فشلت الولايات المتحدة في تطبيق النموذج الديمقراطي هناك بسبب الفساد الهائل الذي انتشر بين السياسيين الأفغان وعلى رأسهم الرئيس حامد قرضاي كما يوضح الفيلم، مما أدى إلى زيادة سخط الأهالي ورجال القبائل. ونرى في الفيلم كيف يطالب شيوخ القبائل العسكريين البريطانيين بضرورة التصدي لفساد المسؤولين الأفغان باعتبار أن هذا هو الكفيل بمقاومة نفوذ طالبان، لكن لا يبدو أن أحدا يستمع أو يهتم، كما نرى في مقابلات مباشرة، كيف يعبر كثير من الأفغان العاديين عن سخطهم على الحكومة والمسؤولين الإداريين، وكيف أنهم أصبحوا لا يجدون قوت يومهم بينما يتم تهريب ملايين الدولارات – من أموال الدعم الأمريكي – للخارج!

لقطات نادرة
يستخدم المخرج الكثير من اللقطات النادرة التي حصل عليها مما صُوِّر ولم يُستخدَم وتُرك في مكاتب بي بي سي في كابول بعد إخلائها في ظروف الحرب المستعرة هناك. من هذه اللقطات نرى لقطة طويلة لجندي بريطاني يقوم بتصوير بصمات العيون لشيوخ القبائل الأفغان بشكل مهين، كما نرى ممارسة التعذيب ضد المشتبه فيهم، وهو ما لا يحول دون اختراق الكثير من المحتالين للقوات، وفي مشهد هائل مصور مباشرة نرى محاولة اغتيال الرئيس قرضاي وإطلاق الرصاص على موكبه وسقوط عدد من القتلى من الحراس والمحيطين بالموكب من خلال كاميرا مهتزة وتصوير مباشر أقرب إلى أسلوب “سينما الحقيقة”.
يستخدم المخرج آدم كيرتس أيضا التعليق المباشر بصوته على الفيلم، ويستخدم الموسيقى بطريقة درامية، ويُدخل الكثير من اللقطات الفنية المأخوذة من زوايا خاصة، منها لقطة قريبة لسائحة بريطانية تقف فوق رأس أحد تمثالي بوذا المنحوت في الصخر في وادي باميان، قبل أن تتسّع زاوية الكاميرا في حركة “زووم” مبتعدة إلى لقطة عامة من بعيد جدا مع موسيقى درامية تصل إلى ذروتها، وبالطبع يعرف المشاهد كيف أن هذا التمثال وغيره تم تفجيره من جانب قوات طالبان.

وفي لقطة أخرى، نرى كيف تشرح معلمة بريطانية لمجموعة من الأفغان البسطاء معالم الفن الحديث ومغزاه وتستخدم نموذجا من تمثال مصنوع من مادة معدنية صلبة، في حين أن المتحلقِّين حولها يحدقون دون أن يفهموا مغزى ما تقوله، ويجعل الفيلم من هذه اللقطة التي تتكرر، “موتيفة” تشير إلى عجز العقل الغربي عن فهم البيئة المختلفة التي يتعامل معها، وكيف تختلف أولوياتها كثيرا عن الأولويات التي يتطلع إليها الناس في الغرب.
ويستخدم المخرج الكثير من اللقطات “الفنية” لصفوف الجنود وهم يسيرون في خطوة عسكرية كما تنعكس على عدسات نظارات يرتديها جندي أمريكي، أو لطفلين يسيران نحو الأفق في الصحراء، يستخدم مثل هذه اللقطات للربط بين أجزاء فيلمه، كما يجري حوار غريبا مصورا في الظلام، بإضاءة خافتة تماما، مع جنود أمريكيين يتحدثون عن عدد من قتلوهم في ذلك اليوم، وهم يضحكون ويسخرون ويُعبّرون عن استمتاعهم بالعمل في صفوف المارينز.
وهو يستخدم بين الحين والآخر، لقطات من فيلم بريطاني كوميدي للسخرية من النظرة الغربية السطحية للغرب إلى الشرق،  أما “الموتيفة” الأخرى التي تتكرر كثيرا ويستند عليها الفيلم، فتتمثل في استخدام لقطات من الفيلم الروسي (السوفيتي) الشهير “سولاريس” للمخرج أندريه تاركوفسكي، مع تلقي بصوت المخرج كيرتس يشرح لنا كيف يفشل بطل الفيلم الذي أرسلته السلطات إلى كوكب آخر للسيطرة عليه، في فهم طبيعة ذلك الكوكب أو التحكم فيه، ويعود من رحلته وقد انعكست عليه آثار التجربة بشكل قاس، وارتدت إليه وجعلته أكثر تشوشا وانعداما لليقين إزاء ما يحدث في كوكب الأرض.

إننا نرى كيف تتحدث امرأة في زمن الوجود السوفيتي في أفغانستان، عن تمتُّع المرأة بالمساواة مع الرجل، وما تُحقّقه المرأة من تقدم في كل المجالات هناك، ثم نرى امرأة قريبة الشبه منها كثيرا ولكن بعد مرور أكثر من عشرين عاما، وهي تتحدث حديثا يكاد يكون متطابقا، مشيدة بالدور الأمريكي في البلاد. والفيلم يخلص إلى أن كلا من التجربة السوفيتية والأمريكية قد فشلتا في تحقيق أي تقدم في أفغانستان، وأن التجربة قد ارتدت ضد الجميع اليوم بعد أن أصبحت المنطقة بأسرها بؤرة تُهدد بانهيار المنظومة الغربية نفسها!  


إعلان