“أزرار اللؤلؤ”

أمير العمري

عرض في مسابقة مهرجان برلين الخامس والستين الفيلم الوثائقي الجديد “أزرار اللؤلؤ” للمخرج الشيلي الشهير بارتيشيو جوزمان المعروف بأسلوبه الخاص في الفيلم الوثائقي، الذي يسير عادة في خطوط عدة، تتقاطع معا لتشكل في النهاية رؤية موحدة لموضوع متعدد المفاصل.
وجوزمان من مواليد شيلي عام 1941، درس السينما في مدريد (إسبانيا)، وتخصص في إخراج الافلام الوثائقية التي أشهرها فيلم “معركة شيلي” الذي يسجل ويوثق فيه لسنوات تجربة حكومة الوحدة الشعبية وما لاقته من متاعب، إلى أن وقع الانقلاب العسكري عام 1973 ليطيح بحكومة الرئيس سلفادور ألليندي الذي قتل على أيدي جنود الانقلاب في القصر الجمهوري. وقد سجن جوزمان لفترة قبل أن يتمكن من الفرار من شيلي ونجح في تهريب المادة المصورة إلى كوبا حيث تمكن من عمل المونتاج لفيلمه الطويل، كما أخرج هناك أفلاما أخرى. وله فيلم مرجعي عن سلفادور ألليندي. وقد عاش في إسبانيا وفرنسا قبل أن يعود إلى شيلي حيث واصل التأريخ للمتغيرات السياسية في بلاده خلال الـ 40 عاما الأخيرة، وهو يمتلك مادة مصورة هائلة صورها لحسابه الشخصي كما يستعين في أفلامه بالكثير من المواد المصورة من الأرشيف. 

فيلمه الجديد ينطلق من موضوع شديد الأهمية هو موضوع الماء وأهميته في حياة البشر وخصوصا الشعب الشيلي، ورغم أن شيلي تطل على مساحة هائلة من المياه كما يقول في الفيلم مستعرضا في بداية الفيلم لقطات رائعة للطبيعة والسواحل في أقصى الجنوب، في إقليم بتاجونيا، إلا أن شيلي لا تهتم باستخدام تلك المساحات الهائلة الساحلية ولا تلك المياه التي تحيط بها. ويرجع جوزمان في فيلمه إلى فترة كانت البحار تشهد نشاطا كبيرا عندما كانت خمس قبائل من السكان الأصليين (الهنود الحمر) تستخدم تلك البحار (المحيط الهادي) في نقل البضائع والانتقال عموما. 
ويروي الفيلم كيف لعب المستعمر الإسباني ثم احتكارات التنقيب عن المعادن دورا كبيرا في هدم حضارة السكان الأصليين بل وإبادتهم. ويجري جوزمان في فيلمه مقابلات مصورة يستخدمها بطريقة شاعرية مقطعة على أجزاء فيلمه البديع، مع خمسة من السكان الأصليين  مازالوا على قيد الحياة.. يروون له ما تحفظه الذاكرة مما تعرضوا له.
من هذا المدخل ينتقل جوزمان أيضا إلى ما وقع في زمن الحكم العسكري من تجاوزات بلغت مرحلة القتل الجماعي.

لكن جوزمان لا يستخدم أسلوب الفيلم السياسي المباشر، التحريضي، الذي كان سائدا في الماضي، بل يلجأ إلى أسلوب شاعري، يستخدم المونتاج والتعليق الصوتي والموسيقى والعلاقة بين الأرض والنجوم التي سبق أن سبر أغوارها بالتفصيل في فيلمه البديع السابق “نوستالجيا للضوء” قبل ثلاث سنوات، فجوزمان يرى أن هناك علاقة وثيقة بين ما يحدث في الكون، خارج عالمنا المحدود، وبين ما هو كائن في جوف الأرض “حرفيا”، بين التاريخ: تاريخ الإنسان على هذه الأرض، وبين ما يكمن تحت هذه السماء، بين الماضي البعيد والماضي القريب، وبين الإنسان والتاريخ. ولذلك ففيلمه كما فيلمه السابق، عمل ذهني يخاطب العقل، وفي الوقت نفسه، عمل شاعري يصل للمشاهدين عن طريق ما تولده الصور من مشاعر وانفعالات، لكنه يدعوهم في النهاية إلى التأمل في أبعاد ومعاني الصور.
وإذا كان “نوستالجيا للضوء” يروي رحلة الضوء بكل ما يحمله الضوء من ألغاز في داخله، فإن موضوع فيلم “أزرار اللؤلؤ” هو رحلة الماء، وعلاقة الإنسان في شيلي به كما كانت، وكيف لعب الجشع والنهم الاقتصادي دورا رئيسيا في تغيير تلك العلاقة، بعد أن دخل المدفع والبندقية لإبادة السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم.
يتحدث جوزمان عن فيلمه فيقول إن موضوعه الرئيسي هو الماء، وهو عنصر متكرر في الفيلم، وأنه اهتم بهذا الموضوع بعد أن قرأ كتاب العالم الألماني تيودور شوينك “فوضى حساسة”، وفيه إنه عندما تكون هناك كتلة ساكنة من الماء وعلى سطحها حركة طفيفة للغاية فإن هذه الحركة ترجع لحركة النجوم والكواكب في السماء. ويضيف ان الماء موجود داخل أجسام البشر بنسبة كبيرة، وهو بالتالي الوسيط بين أجسامنا والكواكب. وهذه هي الفكرة الأولى التي طرأت على ذهنه وهو يحضر لمشروع فيلمه. ويعترف بوجود الكثير من الجوانب المتشابهة بينه وبين فيلم “نوستالجيا للضوء”، وربما يخرج فيلما آخر يكمل به الثلاثية.

إنه يستخدم مفردات الشعر في تصوير العلاقة بين موضوع فيلمه الرئيسي وبين الموضوع الذي يؤرقه دائما والذي سبق أن تناوله في “نوستالجيا للضوء” أي ما وقع من قهر واغتيالات وتعذيب واختفاء للكثير من المعارضين السياسيين في زمن الحكم العسكري في شيلي بزعامة الجنرال بينوشيه. وحول هذا يقول: “لكي نتحدث عن المآسي الإنسانية، الإبادة الجماعية التي تقع، سواء ونحن نتطلع إلى ما يحدث في سوريا وفلسطين أو في شيلي أو الأرجنتين، من المهم أن نستخدم التعبير “المجازي” لأن المجاز معبر جدا، وقوي للغاية في نقل الرسالة. لقد رأينا صورا للمقابر الجماعية، وصورا لمعسكرات الاعتقال الجماعي في ألمانيا النازية، وهذه الصور مستقرة في داخلنا منذ فترة طويلة. وربما نكون بحاجة إلى الحديث عن هذه الأحداث، لكن ربما تكون الوسيلة الأفضل هي التعبير عنها بطريقة غير مباشرة باستخدام لغة الشعر. أعتقد أنه من الضروري العثور على لغة للحديث عن ظواهر مثل تلك الظواهر، لأن من المهم أيضا الحديث عن الألم، وهي مسألة مؤثرة.
تغيرت النظرة اليوم إلى الفيلم الوثائقي، وأصبح يعرض جنبا إلى جنب مع الفيلم الروائي والقصصي على الشاشة الكبيرة في المهرجانات السينمائية الدولية. ترى ما الذي تغير في أسلوب وطريقة عمل باتريشيو جوزمان منذ أن أخرج ثلاثيته الوثائقية الشهيرة “معركة شيلي” بين عامي 1975 و1979؟

يقول جوزمان إنه في السبعينيات “كان هناك تقليد سائد في السينما الوثائقية يعرف باسم “السينما المباشرة” ولكن اليوم أصبح الكثير من السينمائيين الوثائقيين المستقلين يستخدمون أيضا أساليب للسرد موج��دة في الأفلام الروائية (الخيالية).. ويضيف “إننا نستخدم الوصف والحركة والموسيقى وغير ذلك من العناصر من أجل تطوير الشخصيات التي تظهر في الفيلم. إذن هناك عناصر شبيهة للغاية بما نراه في الأفلام الخيالية، ولكننا نقوم بتوظيفها من أجل صنع فيلم وثائقي. بإيجاز أقول إن جابرييلا باتريتو (وهي شخصية حقيقية تظهر في فيلم “أزرار اللؤلؤ”) لن تكون أبد مثل جوليت بينوش، ليس من الممكن أن تصبح على نفس المستوى، فالاثنتان تمثلان واقعا مختلفا وليس ممكنا التوفيق بينهما. إننا نتعامل مع الواقع وبالطبع كل منا نحن مخرجو الأفلام الوثائقية، يبتكر ويطور أسلوبه الخاص، وعن نفسي فأنا أفضل التعبير باستخدام الصور المجازية. أما ما يتشابه مع الأفلام الروائية فهو أننا نستخدم القصص ونعثر على طريقة للربط بين القصص التي نرويها في الفيلم”.


إعلان