“حلم شهرزاد” .. وحكايات الواقع الحزين
محمد موسى

يستعير الفيلم التسجيلي “حلم شهرزاد” The Dream Of Shahrazad للمُخرج الفرنسي فرانسوا فيرستر، القالب الحكائي لأساطير ألف ليلة وليلة العربية، في تقديمه لشخصيات وعوالم ومناخات من الشرق الأوسط، من حقبة ما بعد ثورات “الربيع العربي”.
فهناك في الفيلم “شهرزاد” عربية جديدة تسرد حكايات، هي، وكحال كثير من الحكايات الأصلية للكاتب العربي الأشهر، عن حيوات مهدورة وآمالاً مُنتهكة، تختزن عنفاً وظلماً، وتُشكِّل اليوم السرديات المُهيمنة وأحياناً الوحيدة لحكايات هذه المنطقة من العالم. كما تبدو حكايات الفيلم، وكحال بعضٍ من القصص التي روتها شهرزاد لشهريار، مُشوشة ومُرتبكة البنيان، فيما لا زالت نهاياتها بعيدة المنال.
تربط “شهرزاد” الفيلم التسجيلي هذا، بين حكايات من مصر وتركيا ولبنان. مُركِّزة على مصر، البلد العربي الذي مازال في لجّة دوامات التغيير. هناك أيضاً مساحة لتركيا في الفيلم، كنموذج لدولة ومجتمع يمران بصيرورة مُختلفة، تُكمِل على نحو ما، الحكاية الشرقية الإسلامية المُعقدة بمُعضلاتها المستعصية. في حين يَمُرّ لبنان على عجالة في الفيلم، عبر شخصية نسائية، قريبة من الحكاواتية العصرية.
لكن تناول المخرج للقصص تلك، لا يُشبه ما اعتدنا عليه في أفلام الثورات العربية من الأعوام الثلاث الأخيرة، فالفيلم يُحاول من جانب أن يؤسس لعلاقة شكليّة مع الحكايات الأسطورية، عبر بحثه عن امتدادات جمالية لها من الفن التشكيلي المُعاصر، ومن الجانب الآخر يختار عن طريق معالجته الخاصة، محاكاة أسلوب القصص الأصلية السرديّ، في تسجيله لحكايات ويوميات شخصيات الفيلم.
سيمرّ بعض الوقت، قبل أن يصل الفيلم التسجيلي إلى شخصياته الرئيسية، حيث يَتشبه الفيلم بالقصة الشعبية الشرقية، عندما يكون التمهيد من صُلب سرد الحكاية. أما الشخصيات المصرية فجُلها من الفنانين المهمشين، الذين يقبعون في هامش الفن المصري.

اختار الفيلم فنانين مسرح وتشكيل ومغنيين دراميين، وفرق موسيقية وُلدت بعد الثورة المصرية. ومرة أخرى، وقع الاختيار على شخصيات قريبة من روح الفن الحكواتي لفنانين يتوجهون مباشرة إلى جمهور حيّ، ليتناغم مع اختيارات الفيلم العامة. يرافق الفيلم فرقة مسرحية غنائية، تحاول أن تجد هويتها الفنيّة الخاصة، إذ أنها مشغولة بأسئلة على غرار: ماذا تقدم ولمن تتوجه؟
هذه الفرقة ستعثر على هدف مؤقت لها، عبر تقديم عرض مسرحي عن أُمّ مصرية فقدت ابن لها في الثورة الأخيرة. سيرافق الفيلم التحضيرات لهذا العرض، والذي سيجري على منصة مُرتجلة، في الحي الشعبي للشاب المصري الراحل.
لكن الحكايات على أهميتها في الفيلم، تُمثل جزءاً محدوداً فقط مما يحاول الفيلم تحقيقه أو الوصول إليه، ذلك أنه يبدو مهموماً بشكل أساسي بنقل مناخات ومشهديات عبر كولاجات بصرية عصرية عديدة للحياة على الأرض “السحرية” ذاتها التي خرجت منها حكايات ألف ليلة وليلة، باحثاً عن روح ما وقصص جديدة لناس من تلك الأرض، وكيف يمكن لهذه القصص أن تكون أو تُوفِّر الإلهام لحكايات جديدة على شاكلة الأساطير الأصلية.
هناك في الفيلم طفرات مُونتاجية وتوليف مُبتكر غرائبي، يمزج بين مشاهد تبدو بلا رابط واضح، ويضعها ضمن ملحمته الصورية الخاصة. هناك مشاهد عديدة مثلاً للثورة المصرية، تم استعادتها وتوظيفها بابتكار كبير في الكولاج البصري، إذ أُخرِجت من طابعها الآني ووضعت ضمن إطار تاريخي ونفسي جديد. كما يعود الفيلم التسجيلي إلى التراث الهوليوودي الصامت لأفلام مُستمدَّة من الحكايات العربية، ويستعير منها دقائق كثيرة، لتوفر هذه المشاهد، بمُبالغاتها، وأجوائها الغرائبية، كوميديا، كانت دائماً إحدى جواهر ألف ليلة وليلة التي لا تشيخ.

لقرون طويلة، كانت حكايات ألف ليلة وليلة مدخل العالم الغربي التقليدي وأحياناً الوحيد إلى ثقافات المنطقة العربية. يبدو فيلم “حلم شهرزاد”، وكأنه يعيّ هذه التركة الثقافية التي تتضمن رؤية استشراقية كسولة، كما يُحاول أن يتلاعب بها ويسخر منها ضمنياً، عبر استعادته المُبتكرة لها وإعادة تشكليها، صوريا على الأقل، بإبدال المُفردات الإغوائية الفاتنة والغريبة التي ميزّت كثير من قصص ألف ليلة وليلة، بمشهديات عصرية عنيفة من زمن الثورات العربية، واستبدال عرب الحكايات تلك، بشخصيات مُعذبة وهامشية من الزمن الحاضر المُعاش، بعضها مرَّ بسرعة وبدون حوارات في الفيلم، لكن مُخلِّفاً أثراً نفسياً مُهماً.
اختار المُخرج القطعة الموسيقية “شهرزاد” للروسي ريمسكي كورساكوف كخلفية موسيقية للفيلم. تُوفِّر هذه القطعة المعروفة التي أصبحت منذ أكثر من قرن اللازمة الموسيقية للحكايات العربية الشهيرة، كل العناصر والتقلبات الدرامية جنباً إلى جنب مع اللحظات الحميمية الآسرة. تعاضدت الموسيقى التصويرية وعلى نحو مدهش مع المُقاربة المُبتكرة للفيلم، وربما كانت الأساس الذي تَشَّكَل عليه البناء الفنيّ والدرامي للعمل. يتبع توليف الفيلم تغيير حركات القطعة الموسيقية، المفاجئة أحياناً، كما يتنقل الفيلم من لحظات الدراما العنيفة التي تتصاعد الموسيقى فيها وكأنها تقترب من الانفجار المدوي، إلى لحظات السكون العذبة، التي تشبه ما يعقب انقضاء المعارك.
هناك أيضاً مقاطع للغواية في الموسيقى، غواية شهرزاد الأزلّية لملكها، والتي تحتوي أيضاً على خوف وضياع وحزن دفينين. المخرج لم يكتفِ باستخدام الموسيقى، لكنه رافق أيضاً فرقة الشباب والشابات التركية التي تعزف هذه الموسيقى في مدينة إسطنبول، ليقدمها ضمن شخصياته، مكتفياً غالباً بمراقبتها، فيما تَقرّب قليلاً لقائد الفرقة الموسيقية، والذي تعكس أزمته ما يواجهه الأتراك المثقفين، من اصطدامهم المتواصل بالقوى الرجعية والشوفينية في بلدهم.