“إلكترو شعبي” .. الشوارع الخلفية لمصر

محمد سلامة

“ملخص مختصر لمحتوى الفيلم: إلكترو شعبي فيلم يحكي مجموعة من القصص المنتقاة للشباب الذين بدأوا بالغناء الشعبي الذي يخلط ما بين الراب والهيب هوب و- القصيدة – الشعبية ذات الكلام المبسط للشارع المصري غير ملتزمين بأية قواعد فنية.”

يسعى الفيلم حثيثاً نحو رسم صورة مغايرة لتلك التي نعرفها عن “أم الدنيا”، ببساطة الشارع وجدلية أبطاله، تعرض هند مدب – فرنسية من أصل تونسي – فيلماً طويلاً ثيمته الشارع، وإيقاعه الصراخ والهيجان. 
اعتدنا أن يعرض المخرج قدرته البصرية وإدهاشه للجمهور في بداية الفيلم بهدف جذبه حتى وإن انفصل عن متن الفيلم ذاته، في هذا الفيلم نجد مقدمة منسجمة مع المتن لكنها مرتفعة الإيقاع، حيث يبدأ الفيلم  بـ – المهرجان – كما يسميه أبطال قصصنا وهو عبارة عن الحفلة التي تقام بأي مناسبة في الشارع ويشارك فيها أهالي الحي خاصة الشباب منهم، وهنا يظهر بطلا قصتنا الأولى ( سادات و فيفتي )، و الأغنية المنتقاة والتي تتحدث عن قمع وزارة الداخلية للمتظاهرين لها مغزاها الفيلمي واختيار المخرجة لها له ما يفسره طوال الفيلم وهو ميلها نحو السياسة بداعٍ أحياناً وبلا داعٍ أحياناً أخرى. 

يتبع المقدمة تعريف لهذا النوع من الغناء على لسان سادات الذي يُعرّفه بأنه “النسخة المصرية للهيب هوب” ثم ننتقل إلى مهد (المهرجان ) وهي مدينة السلام، حيث تنجح المخرجة ابتداء من هذه اللحظة وعلى مدار الفيلم تقريبا في ضبط إيقاع وحركة الفيلم معطية المساحة الواسعة للشخصيات الأساسية في الفيلم لأن يقودوا الكاميرا وحركتها ويعطوا بذلك روحاً شعبية حقيقية قلما تجدها في فيلم وثائقي، فيما احتفظت المخرجة – كما يتضح – بالخطوط العامة للمواضيع ومحاور الفلم لتُبقي خياراتها المونتاجية فعالة أكثر، ومثال ذلك أننا نرى دائما أبطال قصصنا يسبقون الكاميرا ويقودوننا إلى حيث الأماكن التي يجب أن نراها، كذهابنا مع سادات وفيفتي إلى غرفة سادات في بيتهم المتواضع جداً وبيئتهم الفقيرة في دلالة غاية في الوضوح والمباشرة على بساطة الإمكانات وطبيعة ظهور هذا (الفن ) وقربه من بيئته، مع الإشارة هنا إلى تعمد المخرجة تصوير القدر الأكبر من تفاصيل مداخل الشقق والسلالم التي تؤدي إليها والشارع الذي توجد فيه مساكن جميع أبطال الفيلم.  تنقلنا المخرجة بعد التتابع الأول نحو قصتنا الرئيسية الثانية وهي قصة الثلاثي (أوكا ، أورتيغا ووزة)  وبالمناسبة لم تبذل المخرجة أي جهد لمعرفة أسمائهم الحقيقية وذلك يحسب لها حيث لا يهمنا توثيق أسمائهم الحقيقية حتى يخيل إلينا أنهم نسوها أصلاً. يؤسس الفيلم لهذه القصة الجديدة التي تبدو دون إضافة عن سابقتها في البداية لكنه  تأسيس مهم لمسار هذه القصة المثيرة تحديداً.

انتقال المخرجة إلى مواضيع السياسة وعلاقة هذا الغناء به جاء مناسباً و عموميا دون تخصيص بزمان معين أو حقبة معينة سوى أنها تلت الثورة وأنه لولا الثورة لما انتشر هذا النوع من الغناء الذي يصفه جميع أبطال القصص بأنه حرية تعبير بسقف مرتفع للغاية، تتبعه المخرجة بمشهد عن مدى تأثر البسطاء به من خلال مشاهد الأطفال الذين يحفظون هذه الأغاني و تشغيله في  “التوكتوك ” في مختلف أنحاء المنطقة ولاحقا خلال الفيلم تتدرج بهذا الأمر وصولا إلى ظهور أغانيهم في أفلام سينمائية وشهرتهم الأوسع، وهذه حركة موفقة أيضا للمخرجة توحي بتمكنها من الموضوع وتمكنها من أدواتها الفنية التي تحاول استغلالها إلى أبعد حد.  شغف المخرجة (هند مدب ) بالربط الموسيقى والسياسة ليس جديدا، فقد عملت على عدة لقاءات للتلفزيون الفرنسي عن علاقة الموسيقى بالسياسة، ومَثُلت في غير مرة أمام القضاء التونسي لدفاعها عن أحد مغني الراب في تونس. 

إحدى المهمات التي يقوم بها الفيلم هي تحطيم أضلاع مثلث التابوهات القديمة  عن طريق  استفزاز أبطال القصص بمواضيع الدين والجنس وإن كان بطريقة جزئية ومن دون إسهاب حتى يبقى الفيلم ضمن دائرة القبول المجتمعي، وبمشاهد مقتضبة رفض هؤلاء الشباب تحريم الموسيقى وتكلموا بعلاقتهم مع النساء وإن كان بنفي أي علاقة، إلا أن مشهد سادات وهو يتحدث مع فتاة ما عبر الهاتف ومواعدتها ولقطات التلصص عليه وهو يحادثها قالت الكثير.

خيارات إخراجية عدة رفعت من مستوى الفيلم، فاختيار الشارع كمكان للحركة معظم الفيلم، وخلق مساحات الاحتكاك المباشر بين الشخصيات الرئيسية والمجتمع المحيط، كمشهد أوكا وأورتيغا في بيوتهم ومع عائلاتهم  ومراقبة الحوار العفوي بدرجة كبيرة فيما بينهم، وكذلك الحوارات بين أبطال القصص ذاتهم أو مع الأطفال في الشارع أو سائقي التوكتوك وغيرها، والمساحة الواسعة التي لا تقيد الشخصيات وإيقاع الفيلم الذي يخلو من أي موسيقى سوى الحفلات والمهرجانات التي يقوم بها أبطال قصصنا، وحركة الكاميرا الحرة نوعا ما، أعطت تلك الواقعية والمصداقية المطلوبة لفيلم كهذا.

يترك الفيلم الحكم للمشاهد فيما يخص هذا النوع من الغناء وإن بتعاطف نوعي معه، فهو – كما يروي الفيلم-  طريقة شعبية للتعبير عن الذات، فهو يتحدث لغة الشارع البسيط ويحاول أن يصنع حكمة في محتواه وكلماته وينجح حينا ويفشل أحيانا، فيه اختلاف كبير عن معايير الموسيقى المعروفة، وعن طرق الفن الكلاسيكية او حتى التجديدية الموجودة على الساحة ، وبالفعل سنجد أنها تشبه إلى حد كبير بداية الهيب هوب، والتي كانت معارضتها كبيرة في البدايات ما لبثت أن وجدت أنصارا بالآلاف من الشبان الغاضبين والطبقات المُهمشّة في المجتمعات.

هذا النوع من الغناء والموسيقى سيبقى له معارضوه الذين يرون فيه هبوطا فنيا وربما يصفه البعض بالابتذال والصراخ الهائج أيضا، لكن الحقيقة التي لا يمكن أن تخفى علينا هي أن له أنصارا لا يمكن تهميشهم ولا يمكن بعد ذلك من النظر إليه بعين الدونية، وهذا ما أوضحه الفيلم لاحقا، حيث  وجد طريقه إلى الشهرة الواسعة متخطيا حاجز ( الحارة ) والـ ( حتة ) المحلية إلى الانتشار الواسع على امتداد بث القنوات الفضائية ودور السينما.

أكثر من نصف الفيلم مضى دون ملل، والانتقال الرشيق والسلس بين مواضيعه سهّل مشاهدته، وعفوية أبطال القصص و الكاريزما التي يتحلون بها، كان كملح الطعام، أما العوامل الأهم فكانت أننا كنا نشاهد أناسا مثلنا، يمثلون شرائح واسعة غير نخبوية، وكذلك كنا نرى شوارع مصر دون تجميل، تلك الشوارع التي لا نراها في الإعلام، ودخلنا البيوت التي لا تدخلها الكاميرا عادة إلا لتبكي، كل ذلك كان قيمة مضافة إلى هذا الفيلم.

الثلث الأخير من الفيلم كان أكثر إثارة، لاسيما في قصة الثلاثي  (أوكا ، أورتيغا ، وزة) ، والمنحنى الدرامي يصل إلى قمته مع دخول رأس المال للاستثمار في الأصدقاء، حيث تدعو إحدى القنوات الغنائية الأصدقاء الثلاثة لاجتماع بنية توقيع عقود معهم، لتطلب القناة بعد الاجتماع استبعاد (وزة) الضلع الأضعف من المثلث، وهنا يصل الفيلم إلى ذورته الدرامية، فهل سيفرق المال الرفاق أم لا؟ وهذا ما حدث تماما .

تمنيت لو أن المخرجة أنهت فيلمها هنا، لكنها أصرت على إقحام غير مبرر للسياسة كخاتمة للفيلم دون حاجة فنية أو موضوعية بعد أن وصلنا حبكة الفلم المثيرة، حيث أضافت مشهدا أخيرا فيه الكثير من التكرار لـ (سادات) وهو يراقب مسيرة مناهضة للحكم في الشارع وآخذة رأيه في الحياة السياسية من جديد، ثم يذوي الفلم منتهيا مما أضعف وأضر – في رأيي- بالفيلم بدلا من أن يقويه، حيث إن شخصية المخرج وآراءه لابد وأن يتم تضمينها في عمله دون إقحام أو فرض أو وصاية على المشاهد كما حدث.

لابد هنا من الإشارة باختصار شديد إلى بعض الخصائص الفنية الهامة في الفيلم، فكما قال جريرسون ” يعتمد الفيلم الوثائقي على التنقل والملاحظة والانتقاء من الحياة نفسها ” وهو ما نراه عيانا في هذا الفيلم الذي يعتمد أسلوب معايشة الشخصيات ومراقبة أفعالهم كأساس بنائي في الفيلم، وهو ما قربها من المدرسة الواقعية بشكل كبير، كما اعتمدت المخرجة أسلوب المونتاج المتوازي المرتبط بالموضوع للتنقُّل بين شخصياتها، أما الصورة فكانت وثائقية واقعية دون محاولة تحسين كادر اللقطة أو تزيين ما نراه على الشاشة ولم يضرّ ذلك بالفيلم على أي حال وجاء مناسبا للنسق العام.

بقي أن نعرف أن معظم أبطال فيلمنا أصبحوا فعلا مشهورين، وبعض القنوات تتهافت عليهم، حتى (سادات) الذي قال في أكثر من مكان داخل الفيلم إنه سيغني لأبناء منطقته وطبقته، وأنه لن يرضى بأن يفرض عليه منتج أو صاحب مال ما يقول، رأيناه مؤخرا يحيي حفلا صاخبا وباهظا وليس شعبيا أبدا في إحدى القنوات العربية ويغني كلاما سياسيا موجهّا بالكامل.


إعلان